من بين المحطات المفصلية العديدة التي زخرت بها سيرة الملك فيصل بن عبدالعزيز، رحمه الله، وكان لها وقعها الكبير على تاريخ المملكة والجزيرة العربية والعالم، اُختير لفِلْم “وُلدَ ملكاً” أن يروي درامياً رحلة الفيصل التاريخية إلى بريطانيا في عام 1919م، ولم يكن قد تجاوز آنذاك الثالثة عشرة من عمره، وهي رحلة وُصفت بأنها غيَّرت مجرى تاريخ المملكة والمنطقة. وتم إنتاج الفلم بما يليق بأهمية الموضوع، إذ بلغت ميزانيته أكثر من ثمانية عشر مليون يورو، ونُفِّذ وفق آلية فنية وتقنيات هوليوودية رفيعة المستوى.
في المؤتمر الصحفي الذي عُقد قبل العرض الأول الخاص للفلم، أشار الأمير تركي الفيصل رئيس مجلس إدارة مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية إلى أن لهذا الفلم دوراً مهماً في تعريف الأجيال الناشئة بشخصية الملك فيصل، رحمه الله، بوصفه نموذجاً للقائد التاريخي الذي قضى حياته في خدمة أبناء وطنه ونهضة بلاده. وكان لمواقفه ومبادراته التاريخية تأثير مفصلي وعميق في مختلف القضايا على مستوى الوطن والمنطقة والعالم.
وأضاف سموه: “بالفعل الفيصل وُلِدَ ملكاً، واستطاع لفت أنظار العالم في سنوات عمره الأولى، وتصدى لتحديات كبيرة لأجل شعبه وأمته، وتنبأ لبلده بمستقبل مشرق. فقد تربى في بيت علم، ونهل المعارف والسياسة من والده الملك المؤسس عبدالعزيز غفر الله له”.
المخرج أجوستي فيلارونغا: اكتشاف لشخصية تاريخية جديرة بأن يعرفها العالم أجمع.
مهمة استراتيجية للأمير الشاب
استغرق الإعداد لهذا الفلم نحو ثلاث سنوات. وهو إنتاج مشترك بين السعودية وإنجلترا وإسبانيا تحت إدارة المنتج الإسباني الحائز الأوسكار أندريس غوميز، ومن إخراج الإسباني أجوستي فيلارونغا، وتأليف بدر السماري وري لوريجا، والسيناريو لهنري فريتز. ويتمحور موضوعه حول رحلة بحرية شاقة قام بها الأمير الفتي فيصل بن عبدالعزيز، إلى بريطانيا كابد خلالها حمى الملاريا.. لكنها كانت مهمة وطنية استراتيجية أوكلها الملك المؤسس لابنه الأمير، لتمثيل بلاده ولقاء الملك جورج الخامس، ومقابلة شخصيات سياسية أخرى مثل وينستون تشرشل، ولورنس العرب، ووزير الخارجية اللورد كورزون. وبالطبع كان لا بد في بداية العرض من توطئة درامية لهذه الرحلة تضمَّنت تعريفاً بنشأة الملك فيصل ودوافع هذه المهمة، وكيف نفّذها الأمير، ومن ثم نتائج الرحلة.
وفي سياق كل ذلك، يسلِّط الفلم الضوء على حقبة زمنية لم يتم التطرق إليها سينمائياً من قبل، علاوة على أنه قدَّم محاكاة متقنة لطبيعة المدن السعودية والحياة والعلاقات الاجتماعية لأهلها في تلك الفترة.
سينوغراف وصورة باهرة
حظي الفلم بتصميم وتنفيذ عناصر مشهدية تحقق متعة بصرية عالية. وهو مشغول في كل لقطة بحرفية تجعل منه تحفة سينمائية رفيعة المستوى. فمن الإخراج إلى زوايا التصوير وحركة الممثلين وتنقُّل الكاميرا والديكور والإضاءة والمكياج والملابس وحتى المؤثرات السمعية، يبدو كل شيء على أعلى مستوى من الإتقان. واجتهد المونتير في إنتاج شريطٍ سينمائي محكم التوقيت في طول اللقطات والمَشاهد (مثل لقطات المعارك)، إلى جانب توقيت أزمان محسوبة تلائم الحوارات بين الممثلين، الذين برعوا في أداء أدوارهم ـ
ووسط كل هذا، يجد المشاهد نفسه مفتوناً بمشهدية الصورة: صحراء نجد، وتشكيلات الرمال، ومشاهد المعارك، وركض الخيول، وسير الجمال، وشوارع لندن وبيوتها، ورونق القصور الإنجليزية، والسيارات، وعبق بيوت الطين القديمة في الرياض، والحقول الخضراء الساحرة في الريف الإنجليزي، وحراك الناس في أسواق الدرعية، والمناظر البديعة من السفينة التي أقلت الأمير على صفحة البحر…وغير ذلك من ترنيمات الجمال البصري الذي يقف خلفه فريق متكامل من الخبراء في صناعة السينما.
إلى جانب ذلك، يخطف انتباه المُشاهد براعة الشاب السعودي عبدالله علي، البالغ من العمر 16 سنة، غير أنه يبدو في الثالثة عشرة من عمره، وهو يؤدي شخصية الفيصل في مرحلة فتوته، وكذلك الممثل السعودي راكان عبدالواحد الذي أدى دور الملك عبدالعزيز باقتدار، فيما ساندهما الممثلان: هيرموني كورفيلد، التي مثلت شخصية الأميرة ماري، وإد سكرين الذي جسَّد شخصية عبدالله فيلبي، بالإضافة إلى جيمس فليت، ولورانس فوكس، و80 شاباً سعودياً لأدوار الكومبارس والجموع والجنود في المعارك.
المهمة التاريخية
انتهت الحرب العالمية الأولى في أواخر العام 1918م، وانسحب العثمانيون من المنطقة، فهيمنت بريطانيا عليها. وجراء ذلك، وجهت الحكومة البريطانية الدعوة إلى زعماء الجزيرة العربية للقيام بزيارة رسمية إلى بريطانيا بهدف توثيق الروابط والعلاقات معهم، وكان في مقدِّمة المدعوين الملك عبدالعزيز، رحمه الله، وكان آنذاك سلطان نجد. فأوفد الملك عبدالعزيز ابنه الأمير فيصل نيابة عنه، وبرفقته الأمير أحمد بن عبدالله الثنيان آل سعود والشيخ عبدالله القصيبي وثلاثة مرافقين ليشاركوا في المحادثات التي هدفها الأول توصيل وجهة نظر الملك عبدالعزيز في عدد من القضايا السياسية الاستراتيجية الحساسة التي فرضتها نتائج الحرب العالميـة الأولى. وتمـت المهمة بنجاح مؤزَّر، بفضل حنكة الأمير الفتي فيصل وقوة شخصيته.
المنتج اندريس غوميز: الممثل عبدالله لديه شخصية جادة وذكية مشابهة للأمير فيصل.
نظرة ثاقبة وتأثر بالمؤسس والشقيق الأكبر
وبتتابع سرد الفلم، نلمس بوضوح مدى وعي الفيصل. ففي أحد المشاهد، نرى الأمير الفتي يتوجه بحديثه إلى الملك جورج الخامس قائلاً: “الصداقة هي الاحترام؛ الصداقة المبنية على التبعية هذي مهي بصداقة أبداً؛ خلي الشريف حسين وأولاده يحكمون ما بين النهرين وشمال الأردن، إذا لقوا قبول كافٍ، بس اتركوا الجزيرة لأبوي؛ هو الوحيد القائد الحقيقي”. وبذلك حظيت المملكة والملك عبدالعزيز باعتراف عالمي، وترسخت مكانتها الدولية.
لكن الميزة الأكبر للفلم أنه يلقي الضوء على كيفية تشكّل شخصية الفيصل منذ ولادته في عام 1906م، وانكبابه على نهل العلم ومبادئ السياسة والدين منذ طفولته من والده المؤسس الحكيم، ومن جده عبدالله آل الشيخ. لذا يُذكِّر الفلم، كما كتب الروائي بدر السماري، بعديد من التحديات السياسية والاقتصادية التي كانت قائمة إبان توحيد البلاد فتصدى لها المؤسس وآزره الفيصـل، وصورها الفلم وفق قالب درامي تاريخي تؤطره متعة بصرية عالية.
وكما تأثر الفيصل بأبيه وحكمته، تأثر أيضاً بشقيقه الأمير تركي بن عبدالعزيز الذي يكبره بست سنوات، إذ تشبع منه بروح الشجاعة والإقدام والجرأة في قول الحق، رغم أنه كان في مرحلة الطفولة، لكن تلك الصفات انغرست في داخله وظهرت في سلوكه وأصبحت من مميزات شخصيته.. فنشاهد كيف أنه قفز إلى جوف بئر عميقة بكل شجاعة، وكيف قاتل بالسيف بإقدام، وكيف تحدث أمام ملك إنجلترا بكل جرأة.. هكذا يعكس الفلم خصال الفيصل التي استقاها من أبيه. ونستشف من علاقته الحميمة بشقيقه الأكبر كيف انزرعت بداخله نزعة إنسانية راسخة، كان لها تأثيرها في الأمور الجسام إبَّان قيادته للبلاد.. ثم نتأمل الحزن الذي أصابه بسبب رحيل الأمير تركي المبكر إثر إصابته بحمى “الوافدة الإسبانية” التي حصدت كثيراً من أهالي نجد، وكان ذلك قبيل رحلته بوقت قصير إلى بريطانيا، فكان لوفاة أخيه أثر كبير في نفسه، ولكنه تجلّد بالصبر وبالذكرى التي لم تفارقه. ثم تلفتنا علاقة الفيصل بخادمه المرافق له في رحلته، وكيف كان يتعامل معه بروح الأخوة الإنسانية الحقة البعيدة كل البُعد عن سلطة السيد بتابعه، إذ كان بمثابة الأخ، ويقول في مشهد من الفلم: “هذا أخوي”.
وهذه الصفات التي يتكشف عنها الفلم، هي التي رسمت أداءه السياسي والقيادي عندما بلغ أشدَّه وتولى قيادة البلاد. فكان صاحب قرارات تاريخية أثرت ليس في تاريخ المملكة فحسب، بل أيضاً في تاريخ العالمين العربي والإسلامي مثل إلغاء العبودية، وإعطاء مكانة أفضل للمرأة، والدفاع عن فلسطين، والمناداة بالتضامن الإسلامي.. وغير ذلك الكثير من المفاصل الخالدة التي تؤكد أنه امتداد لمدرسة والده عبدالعزيز.
حديث خاص من المخرج والمنتج
يلاحظ المُشاهد أن التقنية السردية للفلم اعتمدت على التسلسل الزمني وعلى الاسترجاع الزمني (الفلاش باك)، والتداخل بينهما. هذا ما يوضِّحه المخرج أجوستي فيلارونغا في حديثة الذي خص به القافلة، ويسترسل: عندما كنّا في مرحلة المونتاج قمنا بتجربة الطريقتين التسلسل الزمني والاسترجاع. واخترنا الطريقة التي تظهر السفر إلى لندن، عندما مرض الفيصل بالملاريا على ظهر السفينة. فهي تمنح الفلم ديناميكية وتشويقاً، كما أنها سهّلت مهمة إنتاجه، ليكون ناطقاً باللغتين العربية والإنجليزية. ويستطرد الفِلْم بالنسبة لي اكتشافاً لعصر وشخصية تاريخية لم أكن أعلم عنها إلا القليل، وهي جديرة بأن يتعرَّف عليها كل العالم.
ويتحدث فيلارونغا عن تجارب الأداء الأولى لشخصيــة الفيصـل التي تمـت في لنـدن مع ممثلين من المفترض أن يكونوا قد تجاوزوا عمر 16 سنـة، لأن نقابة الممثلين تشترط ذلك. وجرت معاينة عدد من المرشحين، إلا أن المنتج أندريس غوميز استبعدهم.
ويُضيف المخرج: “كان توجيه الأطفال العرب في الفلم بالإشارات وعن طريق الحدس. فأنا لا أجيد العربية والأطفال لا يجيدون الإنجليزية. ولكن لحسن الحظ، كانت لديّ مساعدتان في الترجمة وفي أسلوب التعامل مع الأطفال: لجين مدني ونادية حطيط، وكانت مساعدتهما ذات قيمة مهمة في إنجاز العمل”.
من جهته قال المنتج اندريس غوميز في حديثه للقافلة: إن هؤلاء المرشحين يظهر على أشكالهم أنهم كبار. والتقى بمرشح آخر في مدرسة بجدة وكانت المعجزة أن هذا الشاب عبدالله علي كان عمره 16 سنة لكن يظهر بشكل يمنحه عمر الـ 13 سنة.. حضر عبدالله إلى لندن، وبعد تجربة أداء سريعة اعتُمد للعمل بالفِلْم.
بطبيعة الحال لم يكن عبدالله ممثلاً محترفاً، فاضطر المخرج إلى القيام بمجهود مضاعف ليعلمه طريقة التمثيل المطلوبة، ومن حسن الحظ أن عبدالله كانت لديه شخصية جادة وذكية، وشكل لائق، كما أنه قريب للمُشاهد من ناحية الملامح والروح العربية المشابهة للأمير فيصل.
العنوان كان حاضراً
يعود ويحدثنا المخرج فيلارونغا: “عندما بدأنا في تنفيذ المشروع كان العنوان “وُلِد ملكاً” موجوداً بالفعل. وتوجد لقطة في الفلم، نرى فيها الجد الشيخ عبدالله بن عبداللطيف آل الشيخ، يحمل الفيصل طفلاً بين ذراعيه عقب ولادته وهو يقول: “إن هذا الطفل سيكون أساساً لمستقبل المملكة. وبالفعل، صدقت بشارة الجد، وصار المولود ملكاً”.
ويتابع: “كان من المهم جداً أن تكون الشخصية الرئيسة للفلم ضمن إطار تاريخي واجتماعي وسياسي، وقد تحقق ذلك في السياق، لكن الفلم لا يصل إلى أن يكون فلماً وثائقياً. أما بالنسبة للمشاهد الأجنبي، غير الملم بالتاريخ والثقافة السعودية، فإن هذا البناء الروائي يفيده كثيراً في معرفة تاريخ السعودية الحديث”.
ولا بد هنا من الإشارة إلى توجيه خادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان بن عبدالعزيز، عندما طُلب منه الإذن بإنتاج فلم عن الملك فيصل، إذ أمر بمراجعة نص السيناريو ليطابق الحقيقة، وأن يُعرض على وزارة الإعلام ودارة الملك عبدالعزيز في كافة مراحله، وأن يكون إخراج الفلم بعيداً عن القالب الوثائقي حتى لا يفقد التشويق، ولكي يكون جذاباً بالفعل للمشاهدين”.
ويوضح المخرج أن “الأفلام الروائية تحمل تكنيكاً وهدفاً يختلف عن الأفلام الوثائقية من الأساس. فالوثائقية تضطر إلى أن تكون ذات مصداقية بالكامل ومطابقة للواقع بصورة صارمة. أما في الأفلام الروائية، فبجانب المصداقية، يحاول المخرج أن يظهر المشاعر والأحاسيس الخاصة بالشخصيات، وكذلك يحاول استكشاف العلاقات البينية للشخصيات وتأثير العامل الزمني لخلق تفاعل عاطفي مع الشخصيات. ومثال ذلك: عندما وصل الأمير فيصل إلى لندن من دون أن تكون لديه معرفة باللغة الإنجليزية. وفي هذه الحالة، جعلنا الشخصية في الفلم تتحدث باللغة الإنجليزية، لأنه بدون ذلك سيكون الوضع غريباً، خصوصاً إذا كان بوجود مترجم يتحدث عن الشخصية، وبذلك لن يكون هناك تفاعل عاطفي”.
عناصر مدروسة
ختاماً، ومما لا يفوت المُشاهد العناية الفائقة التي اختيرت بها الملابس. فمصممة الأزياء فرانسواز فوركادي درست بعمق طرق تفصيل الأقمشة وأشكال الأثواب وأغطية الرؤوس وطرق ارتدائها. وكان عملها ممتازاً ابتداءً من أزياء الملوك والأمراء السعوديين، وصولاً إلى ملابس الكومبارس والشخصيات غير الرئيسة وانتهاءً بملابس الإنجليز والأوروبيين في تلك الحقبة.
وفي بعض اللقطات استخدم التصوير بالأبيض والأسود لترسيخ التأثير التخيلي عند المُشاهد، سعياً إلى توثيق تلك الحقبة. وجاءت مدمجة مع لقطات مُصوّرة بدقة وكأنها لقطات سينمائية قديمة. وبها تم بناء تطابق ممتاز مع الواقع التاريخي، بما يجعل هذا الدمج في مكانه. ودعّم ذلك إدراجُ صور حقيقية للأحداث. مما يدفع إلى القول إنه فلم يعيد إلى السينما التاريخية والملحمية أمجادها، ويحث على إنتاج جزء ثانٍ يكمل سرد سيرة الفيصل رحمه الله.
اترك تعليقاً