مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
نوفمبر – ديسمبر | 2019

عمرها 2000 سنة وحلّها لا يزال يشغلنا
معضلة إدارة الوقت


عبدالله الضامن

الشغف المستمر والمتجدِّد بإيجاد الطريقة المثلى لتوظيف أوقاتنا ليس وليد عصر الإنترنت والثورة الصناعة الحديثة، فقد تطوَّرَ بتطوّرِ الإنسان وأخذ أشكالاً مختلفة وصوراً متعدِّدة تعكس الأحوال النفسية والاجتماعية وكذلك الاقتصادية، كما ارتبط مفهوم إدارة الوقت بمدى كفاءة إنتاجية الفرد والمؤسسات. ولعل كثيرين منا واجهوا تلك اللحظـة التي شعـروا فيها بأن قائمة المهام التي يجب إنجازها قد أراقت كل وقتهم، وجعلتهم يشعرون بفقدان الشعور بالوقت، وأنهم أصبحوا خارج التغطية الزمنية، فاقدين حتى القدرة على التحكم بالوقت الذي يملكونه.

يتجدَّد الاهتمام بالوقت مع إشراقة كل عام جديد، حين تتجدَّد معه رغبة الفرد منّا بصياغة طموحه وأهدافه التي يريد تحقيقها في أيامه المعدودة. واستناداً إلى إحصاءات محرك البحث “جوجل”، فإن مؤشر البحث عن مصطلح “إدارة الوقت” قد ارتفع بأكثر من (%25) مع دخول العام 2019م. وكذلك، قفز مؤشر البحث عن عنوان “إدارة الوقت للمبدعين” من (%0) إلى (%60) ليلة رأس السنة الميلادية وحدها.
من البديهي القول إن التعامل مع إدارة الوقت يجب أن يكون أسهل مع تقدُّم المجتمعات وتطورها وكذلك تطور ما تملك من علوم. ففي العام 1930م، تنبأ الاقتصادي البريطاني جون مينارد كينز أنه خلال قرن من الزمان سنعيش في نمو ورخاء اقتصادي لم يسبق له مثيل، لدرجة أن الفرد منّا لن يحتاج للعمل لأكثر من 15 ساعة في الأسبوع، وستواجه البشرية أكبر تحدٍ لها وهو التفكير في كيفية استغلال تلك الساعات الفارغة المتبقية. ولكن الأمور آلت إلى عكس ذلك تماماً، وأصبح الفرد يعمل 40 ساعة في الأسبوع في المتوسط.

كتب الفيلسوف الروماني لوكيوس سينيكا رسالة بعنوان “في قصر الحياة”. وكان واضحاً من كلمات سينيكا استياءه من تذمر الناس، على اختلاف مستوياتهم العلمية، من أن الحياة قصيرة جداً. في حين يذهب هو إلى القول إن الحياة ليست قصيرة أبداً، ولكن معظم الناس يهدرون كثيراً منها.

2000 عام من المشكلة
في منتصف القرن الأول الميلادي، كتب الفيلسوف الروماني لوكيوس سينيكا – أحد روّاد مدرسة الفلسفة الرّواقية الرومانية – رسالة إلى صديقه باولينوس جاءت في 20 قسماً بعنوان “في قصر الحياة”. وكان واضحاً من كلمات سينيكا استياءه من تذمر الناس، على اختلاف مستوياتهم العلمية، من أن الحياة قصيرة جداً. في حين يذهب هو إلى القول إن الحياة ليست قصيرة أبداً، ولكن معظـم الناس يهـدرون كثيراً منها.
اعتمد الإنسان القديم في التواصل على اللقاء الشخصي المباشر أو على الرسائل المنقولة، سواءً تلك التي كانت تنقل كتابةً أو شفهياً على لسان شخصٍ آخر. وفي كلا الطريقتين، كان نقل الرسائل يستغرق وقتاً، مما يعني تعاملاً سهلاً مع عدد بسيط من الرسائل والأخبار في وقت ما. ولكن مع تطور الوسائل والحلول التقنية، وصولاً إلى عالم الإنترنت والبريد الإلكتروني والرسائل الفورية، أصبح من الصعب جداً التحكم بالكم الهائل من الرسائل والأخبار التي تصلنا من مختلف التطبيقات والقنوات. الأمر الذي زاد من صعوبة إدارة أوقاتنا.
ولعل هذه الظاهرة هي التي دفعت عملاق الإنترنت “جوجل”، بالتزامن مع تدشين خدمة البريد الإلكتروني (Gmail) في العام 2007م، إلى الاستعانة بخدمات خبير الإنتاجية مرلين مانّ، وتوظيف خبراته في ابتكار وسائل تمكّن الموظفين والعملاء من الاستخدام الأمثل للخدمة، بشكل يساعدهم في إدارة أوقاتهم، وبالتالي زيادة إنتاجيتهم. حينها، أطلق مرلين ما عُرف بطريقة “الصندوق صفر – Inbox Zero” التي تتمحور فكرته حول قراءة رسائل البريد بشكل منظّم حتى نهايته، وتصنيف محتويات “صندوق الوارد”، واتخاذ الإجراء اللازم تجاه كل رسالة بريد في الوقت نفسه. واستخدام كلمة “صفر” – بحسب مرلين – هو للدلالة على مقدار الوقت الذي يستغرقه عقل الموظف في صندوق الوارد الخاص به. وبينما كان مرلين، ومن خلفه جوجل، يعدُّون هذه الطريقة محاولة عملية جريئة لتغيير النظرة السائدة بأن رسائل البريد الإلكتروني تهدر كثيراً من الوقت، فقد وصفها كثيرون على أنها أشبه بالتحدي الذي يتنافس فيه المتنافسون. وعلى الرغم من رواجها في بادئ الأمر، إلّا أن فعاليتها لم تدم طويلاً. فالعالم في ذلك الوقت كان على موعد مهم غيّر آلية استخدامنا للبريد الإلكتروني – والتكنولوجيا بشكل عام – وهو ثورة الهواتف الذكية وتطبيقات التواصل الاجتماعي. هذا الجيل الجديد من التقنية غيّر من كيفية وصول الرسائل التي تنهمر علينا في كل دقيقة من اليوم ومن كميتها، وكذلك زاد من صعوبة التحكم بها في الوقت نفسه.

يمكن القول إن المهندس الأمريكي فريدريك تايلور هو أول من تصدَّى لمفهوم إدارة الوقت كجزء من الإدارة الفنية في عصر النهضة الصناعية

في العام 2009م، أعلن مرلين أنه يستعد لنشر كتابه الذي عنونه بالاسم نفسه، وأنه سيكون ملخصاً لأفكاره حول “الصندوق صفر” ليكون مرجعاً لكل من يريد أن يبحث عن الطريقة المثلى لزيادة كفاءته وإنتاجيته. فبينما كان الجمهور ينتظر تأكيد موعد صدور الكتاب، انغمس مرلين في التسويف في الكتابة ليفوت موعد النشر المتفق عليه مع دار النشر. وبعد مرور عامين من الإعلان عن الكتاب، وجَّه مرلين رسالة مرئية إلى جمهوره ليبلغهم عن إلغاء فكرة مشروع الكتاب بالكامل. وبدأ كثير يتساءل كيف يمكن لشخص مثله اكتسب شهرته كمستشار ومرشد موظفين لشركات إلى السبل المثلى في إدارة الوقت وتفعيل الإنتاجية الفردية، أن يفشل في إدارة وقته وإنجاز هذا المشروع.
أكثر من 1900 عام، هو الفاصل الزمني بين سينيكا ومرليـن، والمشكلـة ما زالت نفسها. أي إن التحدي ما زال قائماً: كيف يمكن لنا أن نستغل أوقاتنا بالشكل الأمثل؟ ولربما يمكننا القول إن إنسان القرن الميلادي الأول لا يواجه المقدار أو النوع نفسه من ذعر الإنتاجية وإدارة الوقت بمفهومنا الحالي. فرسالة سينيكا جاءت على صورة توجيه أخلاقي يرشد فيها الناس إلى ترك حياة البذخ والرفاهية والسلطة، وأن يقضوا وقتهم في تعلم وتعليم الفلسفة، ولم يكن مهتماً – ربما – بالإنتاجية بشكل مباشر أو بمفهومها الحالي. ولذلك فإنّ ما يميز عصرنا الحديث هو شعورنا الدائم بأننا مضطرون إلى الرد باستمرار على ضغوط الوقت وأن نكون أكفأ، فقط لندرأ ألم الإحساس بالفشل أو التقصير. فعلى عكس شكوى سينيكا من أن الناس لا يهتمون بالوقت الذي بين أيديهم إلاّ في وقت متأخر من حياتهم، يواصل إنسان عصر الإنترنت والثورة الصناعية الرابعة تذمره وبحثه عن الطريقة المثلى لإدارة وقته.
وخلال هذه السنين، نُشر عديد من الكتب والدراسات التي تناولت هذا الهاجس من جوانب عدة، وهدفت إلى طرح بعض النظريات والأساليب التي تساعدنا في استخدام وقتنا بشكل أفضل. حتى إن بعض تلك الكتب قد تصدر قوائم الكتب الأكثر مبيعاً لفترات طويلة. ومنها ما وسع الدائرة لتشمل الأهداف بعيدة المدى ككتاب “كيف تتحكم بوقتك، وحياتك” لمؤلفه آلان لاكين في العام 1973م، ومنها ما ناقش الموضوع من ناحية روحية دينية ككـتاب “العادات السبع للأشخاص الأكثر فاعليّة” لـ ستيڤن كوڤي في العام 1989م. وهنا تجب الإشارة كذلك إلى كتاب دانييل پنك الذي صدر في مطلع العام 2018م تحت عنوان “متى: الأسرار العلمية للوقت” الذي يناقش مجموعة كبيرة من البحوث والإحصاءات المنشورة في علم النفس والبيولوجيا والاقتصاد في محاولة لفهم أنماط الوقت خلال اليوم الواحد، وكيف يتعامل معه الذهن والجسم لبناء جـدول زمني مثالي.

حالما يصبح الفرد غارقاً في ثقافة كفاءة الوقت لدرجة الهوس، سيصبح عرضة لظاهرة خطيرة أو مزعجة لما تثيره من ضغوط مصطنعة لا يمكن التحكم بها، وتدفعنا إلى استغلال وقت فراغنا “بشكل منتج” أيضاً!

إدارة الوقت في الإدارة العلمية
يمكن القول إن المهندس الأمريكي فريدريك تايلور هو أول من تصدَّى لمفهوم إدارة الوقت كجزء من الإدارة الفنية في عصر النهضة الصناعية. ويُصنّف تايلور على أنه الأب الروحي لمدرسة الإدارة العلمية، ورائداً للمفهوم القائل إن الإنتاجية الفردية هي الحل الأمثل لمشكلة ضغط الوقت في كتابه “مبادئ الإدارة العلمية” الذي نشر في العام 1913م. بدأ تايلور في تطبيق تلك المبادئ في العام 1898م، عندما عيّنته “شركة أعمال بيت لحم للحديد” في ولاية بنسلفانيا الأمريكية ليشرف على تحسين كفاءة مصانعها التي كانت تتكبد خسائر فادحة بسبب سوء الإنتاج وعدم استغلال الطاقة الاستيعابية للمصنع. فراقب أعمال المصنع لفترة من الزمن في محاولة لاكتشاف مواضع الخلل ومساحة العمل المتاحة للحلول، ونفّذ بعض التجارب للوصول لاستنتاجات مهمة.
من أهم تلك التجارب هو استئجار عددٍ من العمّال أصحاب البنى الجسمانية الضخمة، والطلب منهم العمل لساعة واحدة إضافية يومياً لفترة ما وبمقابل مادي محدَّد. وبناءً على الحسابات الرياضية التي استنتجها من التجارب، توصل إلى نتيجة مفادها أن على كل عامل في المصنع أن يقوم بنقل خمسين طناً من الحديد – ما يعادل أربعة أضعاف ما كانوا ينجزونه – وطبعاً بالمقابل المادي نفسه وخلال المدة الزمنية نفسها. وبالطبع، لم يكن العمّال حينها سعداء بهذا التغيير، ولكن تايلور لم يكن مكترثاً بمدى سعادتهم، بقدر ما كان مقتنعاً تماماً بأن عليهم أن يعملوا وِفقَ ما يتم تحديده لهم. هذه الفكرة التي طبقها تايلور تبلورت من نمط تفكير مهندسي الميكانيكا في عصر الثورة الصناعية، فطبّق أساليب تطوير كفاءة الآلات على الأشخاص. وكان المطلوب زيادة الإنتاجية لكل عامل في المصنع باستخدام العدد نفسه من ساعات العمل.
وعلى المنوال نفسه، وبعد أن رأى رئيس الشركة النتائج الإيجابية السريعة لما أُطلق عليه لاحقاً بـ “التيلورية”، استعان بخدمات آيڤي لي ليطور ويحسِّن كفاءة رؤساء الشركة التنفيذيين. وأول مهمة من آيڤي لجميع التنفيذيين كانت كتابة قائمة المهام الخاصة بهم لليوم التالي قبل أن يخلدوا إلى النوم، شرط أن تكون هذه القائمة مرتبة حسب الأهمية. وفي اليوم التالي، كان يجب عليهم إنجاز المهمة الأهم، ثم اللاحقة، وهكذا. وعلى الرغم من صعوبة تخيل أن أحداً من التنفيذيين لم تخطر على ذهنه تلك الفكرة البديهية في مفهومنا الحديث قبل أن يطرحها آيڤي، فقد كانت شرارة البدء بمفهوم “قوائم المهام”. وبعد انتهاء الفترة التدريبية، طلب آيڤي من رئيس الشركة أن يختبر النتائج لمدة ثلاثة أشهر، وأن يقوم بدفع أجرة أتعابه بناءً على قيمة النتائج التي سيجنيها. وبعد مضي الثلاثة أشهر، دفع رئيس الشركة مبلغ (400,000) دولار مقابل ذلك المجهود، قائلاً إن النصائح التي أعطاها آيڤي كانت أثمن شيء تحصّل عليه في حياته!

هل قدَّمت الرأسمالية والثورة الصناعية حلولاً؟
ولعل هنالك موازياً تاريخياً لما نواجهه اليوم، ظهر بعد أن أخذت الرأسمالية الحديثة شكلها الحالي في نهاية القرن التاسع عشر ومع ازدهار النهضة الصناعية وانتشار استخدام الأجهزة الكهربائية والإلكترونية المنزلية، كأدوات “توفير العمالة” لربّات البيوت وخدم المنازل في أوروبا وأمريكا الشمالية. فباستخدام تلك الأجهزة الكهربائية، لم يعد يتطلب غسل الملابس قضاء ساعات طويلة من اليوم، وكذلك المكنسة الكهربائية التي تجعل السجادة نظيفة في غضون دقائق معدودة. فبدلاً أن يؤدي استخدام هذه الأجهزة إلى زيادة أوقات الراحة والاسترخاء، فقد ازدادت معايير النظافة المنزلية وكذلك ما يتوقعه المجتمع من حولنا. أي إنه ما دام بإمكاننا جعل سجادة غرفة المعيشة نظيفة باستخدام الأجهزة الحديثة، فيجب علينا أن نجعلها نظيفة باستمرار. وعلى المنوال نفسه في العصر الإلكتروني، ما دام بإمكاننا قراءة رسائل البريد الإلكتروني الخاصة بالعمل والرد عليها بشكل فوري باستخدام الهواتف الذكية ونحن على فراش النوم، فهل يجب أن ننتظر الرسالة التي وصلت الساعة الخامسة مساءً حتى الصباح لنرد عليها؟
والمصيدة هنا هي أنه حالما يصبح الفرد غارقاً في ثقافة كفاءة الوقت لدرجة الهوس، سيصبح عرضة لظاهرة خطيرة أو مزعجة لما تثيره من ضغوط مصطنعة لا يمكن التحكم بها، وتدفعنا إلى استغلال وقت فراغنا “بشكل منتج” أيضاً! إذ إن أوقات الراحة والاستجمام لم تسلم من غزو ثقافة كفاءة الوقت. فلم نعد نقدّر قيمة أوقات الراحة والاستجمام في حياتنا إلّا إذا أنجزنا فيهما أعمالاً إضافية. فنجد مثلاً أن هدف كثيرين ممن يسافرون إلى وجهات جديدة ليست من ضمن الأماكن التي عادة ما يرتادها السياح ليس لاكتساب خبرة جديدة، ولكن لكي نضيف إلى مخزون التجارب الذهنية في مخيّلاتنا، وكذلك لمشاركة بعض الصور في صفحات برامج التواصل الاجتماعي. وكذلك، نذهب للمشي أو الركض لأنها مهمة لتحسين صحتنا، وليس لمتعة الحركة نفسها، وكذلك نأخذ مهام الأبوة والأمومة على عاتق الأمل الذي يراودنا في تربية الأشخاص الذين سيغيّرون المستقبل. وهذا المعنى الذي يشير إليه الناقد الأمريكي والتر كيز في كتابه “انخفاض المتعة” والذي يحذّر فيه من ظاهرة تغيّر إحساسنا وشعورنا بالوقت الذي نعيشه: “أصبحنا جميعاً مضطرين للقراءة من أجل الثراء، والمشاركة في الحفلات لعقد الصفقات، والبقاء في المنزل خلال عطلـة نهايـة الأسبـوع لإصلاح منازلنا”.

ولكن كل هذه الضغوط المرتبطة بكفاءة إدارة الوقت تصطدم مع مبدأ “الإبداع”. فبينما يمكننا تسريع الأعمال اليدوية التي لا تحتاج إلى التفكير، لا يمكننا فعل الشيء نفسه مع الإبداع. فنحن اليوم – أكثر من أي وقت مضى – بحاجة إلى أولئك الأشخاص المتكئين على كراسيهم المريحة، ليفكروا بأريحية حتى يصلوا إلى الفكرة الإبداعية التالية. وهذا ما ينسجم مع المقولة التي ينسبها البعض إلى مؤسس شركة مايكروسوفت للبرمجيات بيل جيتس: “أختار الشخص الكسول للقيام بالمهمة الصعبة، لأن الشخص الكسول سيجد الطريقة السهلة – وهنا يقصد الطريقة الإبداعية – لحلها”.
أصبحت زيادة كفاءة إدارة الوقت مشكلة تستلزم مقايضة قد تكون باهظة الثمن على الفرد والشركات. فمثلاً، عندما تشرع شركة ما في عملية تخفيض التكاليف، فستكون أحد ركائز هذه العملية زيادة كفاءة أوقات الموظفين إلى أقصى حدٍّ ممكن. وهذا يعني انخفاض قدرتهم على الاستجابة للأمور الطارئة والمستعجلة على الفور. ولكي تنجح هذه المبادرات، يجب على رأس الهرم التأكد من وجود كمية معقولة من وقت الفراغ كي لا تخرج الأمور عن السيطرة. ويمكننا تشبيه مثل هذه الشركات – مجازاً – بالسيارة التي تستطيع أن تسير في خط مستقيم وبسرعة، ولكنها لا تستطيع أن تغير مسارها. فلربما استطاعت الشركة تجاوز منافسة ما أو عقبة على المدى القصير، ولكنها حتماً لن تستطيع تصحيح مسارها عندما تتغير المعطيات على أرض الواقع.
وفي هذا ما ينطبق علينا كأفراد أيضاً: فكيف يمكن لزيادة كفاءة إدارة وقتنا – بوضع عديد من المهام الإضافية لملء كل ثانية في يومنا – أن تساعدنا؟

لم نعد نقدّر قيمة أوقات الراحة والاستجمام في حياتنا إلّا إذا أنجزنا فيهما أعمالاً إضافية.

إدارة الوقت هي المشكلة!
إن الوعد الذي تقدِّمه مبادئ إدارة الوقت هو الشعور بالسيطرة على الوقت، في عالم لا نكون قادرين على ذلك. وكما أننا نعيش في عالم قلّ فيه الأمان الوظيفي، بحيث يتوجب على كل واحد أن يثبت فائدته لمن حوله وبشكل مستمر من خلال العمل المتواصل. ولربما كانت “إدارة الوقت” هي ما سيعطيه هذه الميزة القيّمة. وتزداد قيمة هذه الميزة، عند الفئة الاجتماعية العاملة لحساباتها الخاصة والموظفين المستقلين – الذين يصنفون ضمن ما يسمى بـ “اقتصاد الجيج” وتعني الاعتماد على الموظفين المستقلين أو المؤقتين – لتصبح ضرورة مُلحّة لبقائهم. وكما يقول فريدريك تايلور: “الشخص الوحيد الذي يعاني مالياً عندما تنغمس في التسكع، هو أنت!”
وهنالك أيضاً مسألة الوعي الذاتي. فلو نظرنا إلى نصائح خبراء إدارة الوقت، فسنجد أنهم يشتركون في القناعة بأنه من الضروري أن يملك كل واحد منّا سجلاً مفصلاً عن استخدام الوقت، ولكن القيام بذلك يزيد من وعينا بالدقائق التي انقضت، ولن تعود مجدداً. وفيما يتعلق بمسألة التركيز على أهداف المدى البعيد، فسنجد أننا كلما فعلنا هذا، ازداد شعورنا بأن حياتنا اليومية تشعرنا باليأس من عدم تحقيق شيء. وكذلك، كلما تمكنَّا من تحقيق واحدٍ منها، ينتابنا الشعور بالارتياح المؤقت وبصورة مدهشة، ويبدأ العمل سريعاً على وضع هدفٍ آخر بعيد المدى، جعل حينها القول إن ما كان مفترضاً أن يكون علاجاً، زاد المشكلة أسوأ.
البروفيسور آدم جرانت، الباحث في علم النفس التنظيمي في كلية وارتون لإدارة الأعمال بجامعة بنسلفانيا، يلخص المبادئ التقليدية في إدارة الوقت في عبارة واحدة مفادها أنه إذا تمكّن الفرد من التخطيط لجدول أعماله بشكل أفضل، فسيتمكن من الوصول للإنتاجية القصوى. أي أن نخصص لكل مهمة وقتاً محدداً لإنجازها. ومن خلال أبحاثه حول الإنتاجية على مدى عقدين من الزمان، توصَّل إلى أن هذه المبادئ ليست هي الحل، بل وعلى النقيض هي جزء لا يتجزأ من المشكلة التي يعيشها الأفراد والمؤسسات على حدٍّ سواء. ففي كثير من الأحيان، تتراجع إنتاجيتنا ليس بسبب نقص كفاءتنا، بل بسبب غياب الدافع لتحقيق الهدف. ويضيف إن جميع المخلوقات تمتلك العدد المحدود نفسه من الساعات في اليـوم الواحـد، والتركيـز في إدارة أوقاتنا يزيد من شعورنا بعدد الساعات التي أضعناها كل يوم.
ويرى البروفيسور جرانت أن الحل لهذه المعضلة يكمنُ في “إدارة الانتباه Attention Management”، وهو –كما يعبر عنه– إعطاء الأولوية للأشخاص والمشاريع التي تهم، وبعدها لا يهم كم من الوقت سيستغرق أيّ منهم. وبمعنى آخر، هي فن التركيز على إنجاز الأمور للأسباب الصحيحة، في الأماكن واللحظات المناسبة.


مقالات ذات صلة

على الرغم من وجود العديد من التساؤلات حول مستقبل الكتب المادية، فقد أطلقت الفنانة الإسكتلندية المفاهيمية “كاتي باترسون” في عام 2014م فكرة إنشاء “مكتبة المستقبل” كمشروع فني تطلعي يجمع بين كونه كبسولة زمنية أدبية ومشروعًا بيئيًا. كرّست “باترسون” جلّ اهتمامها بما ستتركه البشرية للأجيال القادمة؛ لذلك ابتكرت فكرة إنشاء هذه المكتبة في مدينة أوسلو النرويجية. […]

استطاعت الدول الناطقة باللغة الألمانية (ألمانيا، والنمسا، وسويسرا) أن تخلق نموذجاً في النهضة والتفوّق بالاعتماد على الأيدي العاملة المؤهلة مهنياً، وقد حقَّق هذا النموذج نجاحاً باهراً على مستوى العالم، فيما تسعى دول كثيرة داخل أوروبا وخارجها للاستفادة منه، ففي هذا البلد المزدهر اقتصادياً، يُعدُّ التدريب المهنيّ سرّاً من أسرار نجاحه، بل وربما ريادته عالمياً، فبفضله […]

من المؤكد أن للعلوم والتكنولوجيا تأثيراً عميقاً على المجتمع، لكن العكس صحيحٌ أيضاً، بحيث يشكِّل المجتمع، بصورة كبيرة، الطرق التي تتطوَّر بها العلوم والتكنولوجيا. ومع ذلك، تُظهر التجربة أنه لا يمكن دائماً للعلماء، من ناحية، وعامة الناس والحكومات والشركات، من ناحية أخرى، فهم بعضهم بعضاً بوضوح، لهذا السبب كان لا بدَّ من وجود خبراء ذوي […]


رد واحد على “معضلة إدارة الوقت”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *