عند الحديث عن الترجمة لا بد لنا من أن نستذكر ماضيها ونستحضر واقعها، ولو ارتحلنا مع قافلة التاريخ سنجد الترجمة أحد أهم أسس النهضة للأمم، والنافذة لمعرفة الآخر والتفاعل مع حضارته وثقافته، كما أن الترجمة هي البوابة الأولى لإثراء التواصل الإنساني والمعرفي، ولولاها لانطوت كل أمة على لغتها، ولانقطع تواصلها مع الأمم الأخرى، حتى نجد كل حضارة مستقلة بعلومها ومعارفها وثقافتها المقيدة بحدود لغتها وما تحويه، دون قابلية للتجديد أو التطوير، وحينها لنتخيل مجازاً شكل كرتنا الأرضية وقد تشكَّلت فوقها عوالم متعدِّدة بتعدد لغاتها، كل عالم منها يمضي عبر طريق لا يشبه طريق غيره، وكل عالم ينظر إلى الآخر بتصوُّر يشبه تصورنا الحالي عن المخلوقات الفضائية وفرضيات التواصل معها.
صورة أكثر تطوراً
إن الحاجة إلى الترجمة جاءت لتواكب التطوُّر الاجتماعي البشري، فكانت في أبسط أشكالها شفهية، وذلك قبل ابتكار أنظمة الكتابة في اللغات، ثم حضرت في صورة أكثر تطوراً مع ازدهار الحضارة القديمة، فكشفت أسرار الآشورية والإغريقية والفرعونية والبابلية وغيرها، وكانت الجسر الذي ازدهرت عبره الأنشطة التجارية، وانتقلت من خلاله القيم الإنسانية وتعاليم الأديان، وكتبت في وسطه العهود والمواثيق، وحفظت فيه الآداب والفنون والعلوم، ومع تقدُّمنا عبر خط الزمن لن نجد شاهداً يبرز أهمية الترجمة أفضل من دورها في الحضارة الإسلامية، ولا سيما في عهد الدولة العباسية حين ترجمت العلوم والآداب القديمة من لغات مختلفة إلى العربية، حتى ازدهرت وقادت العالم في شتى العلوم.
وبين بزوع نجوم حضارات وأفول أخرى كانت الترجمة تنتقل مع المتقدِّم دائماً، بل كانت من تنقله إلى التقدُّم غالباً. وفي عصرنا الحديث نجد أن الحاجة إلى الترجمة قد توسعت بتوسع هذا العالم وانفتاحه على بعضه ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً في ظل الثورة التقنية، والوعي بهذه الحاجة أصبح حاضراً في المشهد المحلي بشكل عام، حيث تنامى حتى وصلنا إلى ما أسميه “العصر الذهبي للترجمة” في المملكة العربية السعودية؛ فقد شهدنا في السنوات القليلة الماضية قفزة نوعية في الحراك الترجمي على كافة المستويات، وشاهدنا تزايد أعداد المتخصِّصين في الترجمة، وبروز أسماء لمترجمين عُرفوا بنتاجهم وأساليبهم وجمهورهم، وعلى الصعيد الرسمي فقد صدر عدد من القرارات التي تعكس الوعي الرسمي بأهمية الترجمة ودورها، فعزَّزت كثير من إدارات وأقسام الترجمة في القطاع العام، ورخصت جمعية الترجمة التي تضطلع بمسؤولية ترسيخ دور الترجمة بمختلف مجالاتها وتمكين المترجمين، كما أسّست هيئة الأدب والنشر والترجمة، وهي المرجع الرسمي للترجمة في المملكة العربية السعودية التي أحدثت نهضة شاملة في مجال الترجمة عبر مشروعاتها، فأطلقت برنامج “ترجم” الذي ترجمت من خلاله في دورة واحدة فقط أكثر من 170 كتاباً، و25 كتاباً حاصلاً على جوائز عالمية، و4 كتب لمؤلفين حاصلين على جائزة نوبل، كما ترجمت من خلاله 58 كتاباً لمؤلفين سعوديين إلى لغات متعدِّدة منها الإنجليزية والفرنسية والإسبانية والألمانية، كما ترجمت من خلال البرنامج أكثر من 300 قصة قصيرة بمساهمة أكثر من 50 مترجماً سعودياً وبمشاركة 22 دار نشر سعودية، بالإضافة إلى ترجمة 42 دورية ثقافية أكاديمية في أكثر من 20 مجالاً. ولو قورنت هذه الإحصاءات التي تحقَّقت في فترة وجيزة بالأرقام غير الرسمية المعلنة باجتهادات شخصية للإصدارات العربية المترجمة التي سبقت تأسيس الهيئة لوجدنا أنها تكثرها بأضعاف.
مركز إقليمي للترجمة
ومن هنا نرى أن هيئة الأدب والنشر والترجمة تهدف لأن تكون المملكة العربية السعودية مركزاً إقليمياً للترجمة، وهذا ما تسعى لتحقيقه عبر عدد من المبادرات التي قد يكون من أبرزها مبادرة تنسيق الجهود العربية في الترجمة، والتي انطلق منها المرصد العربي للترجمة الذي يعنى بتوثيق حركة الترجمة في العالم العربي من أجل دعم مسيرة الترجمة العربية وتنسيق الجهود الترجمية وتقليل النزاعات القانونية، وتوفير مواد إحصائية للدراسات والأبحاث، وهذا ما يجعله المرجع الأول في الوطن العربي وبوابة للتبادل المعرفي والثقافي، حيث تضم قاعدة بيانات المرصد 10293 عنواناً تشكِّل الكتب المترجمة والمنشورة في المملكة العربية السعودية منذ العام 1932م.
يأتي هذا النشاط الترجمي غير المسبوق في ظل تغيُّر وجهة الأعمال وازدياد اعتماديتها على التقنية، مما ينذر باختفاء كثير من المهن والمسميات الوظيفية التي اعتدنا عليها، وليست مهنة الترجمة بمعزل عن هذا الجدل الذي كثيراً ما نتداوله في مجالسنا وملتقياتنا، حتى أصبح يشكِّل هاجساً عند بعض المترجمين، والحقيقة التي يجهلها العامة، ويعرفها المترجمون المواكبون للعصر أن الترجمة في تطوُّر مستمر، وأن صناعة الترجمة في ازدهار في ظل هذا الانفتاح العالمي الكبير، والانفجار الهائل في كافة أشكال المحتوى التي ستلجأ إلى الترجمة عاجلاً أم آجلاً، كما أن تقنيات الترجمة أصبحت ضرورة لا بدّ أن يتقنها كل مترجم يريد أن تزدهر مهنته.
أما عن ذلك الهاجس الذي يؤرِّق مضاجع بعض المترجمين بأن تستبدله التقنية، فبقليل من التفكُّر سيدرك المترجم أن الأمر سابق لأوانه بكثير، وأن عليه الآن أن يستثمر هذا الوقت الذهبي في إثراء المشهد الترجمي وتطوير مهاراته ومهنته، فإن حدث ما يخشاه في يوم ما فيسبق ذلك إلى المعلم والمحامي والقاضي وغيرهم قبل أن يصل إلى المترجم.
مقال شامل ومثري، تناول جذور الترجمة والدور التاريخي الذي أدّته في رحلة الحضارات.
وسلّط الضوء على الحراك الترجمي الحديث، والرؤية المستقبلية المفعمة بالتوقعات النهضوية معزّزةً بالأرقام المطَمئنة، ومؤذنةً بعصرٍ ترجميٍ ذهبي.