يطرح المخرج عبدالله آل عياف في فلمه القصير “المغادرة” سؤالاً مفاده: هل تفقد الحياة فعلاً كل معناها لدى من يسقط أمام ضغوطاتها؟. والمخرج نفسه يجيب، بأن للحياة قوة وجاذبية لا تقاوَم، حتى عند أكثر الناس يأساً، وأنها ذات قيمة تبقى ماثلة أمام من يظن أن الموت سبيله للتخلص من ضغوطاتها مهما عظمت هذه الضغوطات.
ثمة مرحلة يمرّ بها المرء في مرحلة الشباب قد تكون مشحونة بالقلق وعدم الرضا، وربما أجّجت الظروف النفسية والاجتماعية هذا القلق ودفعته إلى مراحل متقدِّمة من الإحساس بفشل الحياة في عين من يقع في هذا الشرك النفسي والفكري. إنها أزمة قد تؤدي بمن يقع فيها إلى هوة سحيقة، وقد تجعله يقرّر في لحظة مخادعة أن يتخلّص من حياته.
هذا ما يحاول فِلْم “مغادرة” التقاطه، اذ يصوّر شاباً في مقتبل العمر – لعب دوره الممثل علي الكلثمي وحمل الاسم نفسه في الفلم- يبدو كأي شاب عادي من الشباب الذين نشاهدهم يقودون سياراتهم في طرقات المدن السعودية. ونحن نعرف، أو نتصور أن ليس هناك ما يشغلهم أو يبدّد وقتهم سوى قيادة السيارات وتبديد الوقت في الشوارع من دون هدف أو وجهة معيَّنة.
قلق وجودي
ليست هناك مظاهر أو مقدمات لمأزق ما يمرّ به علي، فهو ليس فقيراً وليس أمياً وليس أسيراً لمؤثرات معيَّنة، بل كل ما يشغله هو تهويمات تشكّلها ضغوطات الحياة والأسئلة المؤرقة في الحياة المعاصرة، مع كل ما تحمله من رغبات في تحقيق الذات، أو حتى الاطمئنان إلى حياة كريمة وسهلة لا شقاء ولا قلق فيها. وهو ما اتفق على تسميته في علوم الاجتماع والنفس والآداب بـ “القلق الوجودي”، وهو القلق الذي يشعر به الإنسان دوماً ولو من دون سبب معيَّن.
إنه التأرجح بين فكرة مغادرة الحياة أو الموت الاختياري وبين الرغبة في البقاء لأن الحياة “حلوة” ويجب أن نعيشها، ليس فقط إرضاءً لمسلَّماتنا الدينية الصحيحة التي تؤكد أن الانتحار يفقد صاحبه ما منحه له الله من مكانة في الآخرة، لأنه أنهى حياته بنفسه. ولكن للبعد العميق الذي طرحه آل عياف هنا، وهو سحر الحياة الذي يجبر الإنسان على الاستمرار، وهو البعد نفسـه الذي تناوله المخرج الإيراني «عباس كياروستامي» في فِلْمه «طعم الكرز». فثمة من يريد الانتحار، ولكن مصادفة عابرة تجعله يكتشف قيمة الحياة.
تردّدات فكرة الانتحار
يبدأ الفِلْم الذي تبلغ مدته 24 دقيقة ونصف الدقيقة، بالشاب علي داخل متجر يبحث عن حبل قوي، ونفهم منذ اللحظات الأولى أنه يريد الحبل ليشنق به نفسه. هنا يتدخل أحد العاملين في المتجر ويسأله عن حاجته، فيؤكد له أنه يريد حبلاً قوياً بإمكانه حمل شيء في بيته يزن 79 كيلوغراماً ونصف الكيلو، يشتري الحبل ويغادر المتجر. يركب سيارته، ويبدأ في التحدث عبر هاتفه الجوال، ليبث رسالة صوتية إلى أصدقائه، ويقول فيها لهم “مؤكد أنكم تتساءلون لماذا أفعل ذلك”.
نبقى مع هذا الشاب الذي يقود سيارته بينما يخاطب متابعيه بكل ما يجول في خاطره وبما يحدث معه على الطريق، وعندما يصل إلى وجهته وهي عبارة عن شقة خاوية أو مكتب متقشف، يحاول تجريب الحبل في مقدرته على شنقه، وقبل ذلك يتصل ليطلب طعاماً، وهنا يجول بخلد المشاهد تساؤلاً: كيف لشخص يريد إنهاء حياته أن يطلب طعاماً. أليس أكل الطعام تعبيراً عن الرغبة في الاستمرار على قيد الحياة؟
يرسل رسالة صوتية عبر جواله إلى صديقه، يطلب منه مسامحته على مقالبه الماضية، ويوصيه ببعض الوصايا غير المهمة، التي تفضي إلى إفهام المشاهد بأنه يعيش في خواء وأن حياته لا تحوي ما يثير الاهتمام. لكن مجمل مضمون رسالته يعني أنه سوف يغادر الحياة. ثم يبدأ بالصلاة والاستغفار، ويقف أمام الحبل المتدلي من السقف، ويوجِّه رسالة صوتية إلى أبيه وأمه، يخبرهما أن الضغوطات الكثيرة دفعته إلى الانتحار. يضع الحبل حول عنقه ويكمل الرسالة، ويتأرجح الكرسي الذي يقف عليه ويسقط، بينما رقبته مربوطة بالحبل.
نعتقد أنه شنق نفسه وانتهى أمره، ولكن بقطع سريع للمشهد، نراه وهو يدخل المتجر نفسه الذي اشترى منه الحبل، يلوم العامل لأنه باعه حبلاً غير قوي، فنفهم أن الحبل انقطع بينما حاول تنفيذ مبتغاه.
وبينما يخرج من المتجر يتلقَّى اتصالاً من صديقه بدر، فيدور بينهما حوار يطلع فيه علي صديقه على رغبته في الانتحار، وأنه يريد أن يصلى عليه، وأن يقام له عزاء يليق به. وعلى إثر ذلك ينصحه بدر بالذهاب إلى جبل «أبو ضليع»، وهي منطقة نائية وموحشة، ويذهب إليها المشبوهون، ولكنها تفي بالغرض وستمر عدة أيام قبل أن يجده الناس، بعد أن يكون قد فارق الحياة، فيأخذونه ويصلون عليه ويقيمون العزاء.
يذهب إلى الموت فينتصر للحياة
عندما وصل علي إلى منطقة جبل أبو ضليع، ترجَّل من سيارته، وتوجَّه إلى حافة الجبل ليلقي بنفسه في الهاوية. وأثناء ذلك، سمع همهمات بقربه، فذهب ليتحرَّى مصدر الصوت، فإذا به أمام طفل رضيع ملفوف بقطعة قماش. حمل الطفل بين يديه وسرعان ما بات همه الأكثر إلحاحاً إيجاد من يأويه أو يعطيه إياه. فيذهب إلى صديقه بدر الذي أرشده إلى مكان الجبل، ولكنه رفض أخذ الطفل، ثم ذهب إلى صديق آخر، وواجه الرفض نفسه.
هنا ننتبه إلى أن الرجل أهمل رغبته في الانتحار وأصبح شغله الشاغل مصير هذا الطفل الرضيع. إنه التناقض بعينه، هو يسعى إلى الموت، بينما يجاهد ليهب الحياة لإنسان آخر. هو إنسان التواصل الإلكتروني بامتياز، هامش الحياة الواقعية التي يعيشها هامش ضئيل، لا يعيش بين أسرة، ولا وجود لمتابعيه إلا في عالمه الافتراضي، حيث الوحدة التي تخيّم على حياته.
لم يذهب عبدالله آل عياف بصفته كاتب السيناريو والمخرج، إلى جدلية التراجيديا حول تنفيذ قرار الانتحار، إنما جعل المحمول الكلي لفلْمه في قالب كوميديا سوداء، أودع الطفل في ملجأ للأيتام، ولأنه ما زال يخادع نفسه، ترك رقم هاتف صديقه بدر، على اعتبار أنه «مغادر»، تلك المغادرة المغشوشة التي يتعلق بها ليتخلص بها من ضغوطاته التي لم يفصح عنها سياق الفِلْم، وذهب إلى منطقة جبل أبوضليع.
جوائز حصل عليها المخرج
- فِلْم “السينما 500 كم” جائزة النخلة الذهبية لأفضل فِلْم تسجيلي- مسابقة أفلام السعودية 2008م
- فلم “إطار” جائزة لجنة التحكيم الخاصة – مسابقة أفلام من الإمارات – القسم الخليجي 2007م
- فلم “مطر” جائزة النخلة الفضية للفِلْم القصير – مسابقة أفلام السعودية 2008م
- فلم “عايش” جائزة أفضل فِلْم قصير (المركز الأول)- مهرجان الخليج السينمائي 2010م
- فلم “عايش” جائزة المركز الثاني (ألف الفضية)- مهرجان بيروت السينمائي الدولي 2010م
- فلم “عايش” جائزة أفضل سيناريو (المركز الأول) – مهرجان الفلم السعودي 2014م
- فلم “ست عيون عمياء” 2011م
اترك تعليقاً