محمد مكية هو واحد من أهم المهندسين المعماريين في العالم العربي. صمم كثيراً من المباني في عدة بلدان عربية وإسلامية، وحصل على جوائز عالمية ودولية من هيئات هندسية متخصصة عن أعمال هندسية صممها وحقَّق بناءها. غير أنه كانت لبغداد مكانة خاصة في نفسه وفي سيرته المهنية.
فذكريات محمد مكية في كتاب “خواطر السنين” تصلح لأن تكون أرشيفاً متكاملاً عن عراق بدايات القرن الماضي في زمن الانتداب الإنجليزي وفي عهد الملكية، ومن ثم في فترة الثورات والانقلابات. كما يفيد هذا الكتاب في معرفة أحوال الأحياء البغدادية في أوائل القرن الماضي، إذ يصفها مكية وصفاً دقيقاً ينطلق من عين مهندس دقيق وثاقب النظر.
كان المعماري مكية في التسعين من عمره عندما قرَّر أن يكتب مذكراته، وأوكل إلى الكاتب العراقي رشيد الخيّون، أمر استنطاقه وتدوين الذكريات في كتاب. وأطلق على ذكرياته التي تروي مسيرة حياته من الطفولة إلى الكهولة هذا الاسم “خواطر السنين”.
تكمن أهمية هذه المذكرات في أنها تـدوّن تطوّر الحياة وتبدّلها في العراق، من خلال ما طرأ من تحوِّلات على بغداد “وما حصــل لمحلاتها ونهرها، وبساتينها، وأسواق خاناتها…”.
سيرة مهندس المساجد
وُلد الدكتور محمد صالح مكية في عام 1914م، في محلة صبابيغ الآل المجاورة لجامع الخلفاء ومنارته الشهيرة بمنارة سوق الغزل في بغداد. وواصل دراسته الابتدائية والمتوسطة والإعدادية فيها، وسافر في عام 1935م في بعثة لوزارة المعارف العراقية إلى بريطانيا والتحق بجامعة ليفيربول، ودرس الهندسة المعمارية فيها، وحصل على الدكتوراة عام 1946م من جامعة كامبردج البريطانية. وكان موضوع أطروحته “تأثير المناخ في تطور العمارة في منطقة البحر المتوسط”. انتُخِبَ عام 1952م خبيراً في الأمم المتحدة، ثم رئيساً لجمعية التشكيليين العراقيين في بغداد في عام 1955م، فعضواً للمجلس الدولي للنُصب التذكارية في روما عام 1967م. حصلَ على جائزة أفضل إنجاز مدى الحياة في مدينة دبي، وهو الذي أسَّس ديوان الكوفة في لندن. وتوفي عام 2015م.
كتب عنه المفكِّر الراحل محمد أركون أستاذ تاريخ الفكر الإسلامي يقول: إن محمد مكية نفخ حياة جديدة في العمارة الإسلامية بدمج تراثها الفني بأفضل ما في الثقافة والتكنولوجيا الحديثة.
وقال السير هيو كاسون الرئيس السابق لأكاديمية الفنون الملكية في إنجلترا: إن أعمال محمد مكية تستحق أن تثير اهتماماً أوسع في العالم الإسلامي والعربي.
صمَّم مكية عدداً ضخماً من الصروح المعمارية البارزة في العراق وخارجه. ومنها جامع الخلفاء في بغداد عام 1960م، ثم وسّعه عام 1980م. كما صمَّم مبنى جامعة الكوفة (1969م ولم يُنفذ)، وفي البحرين صمم بوابة مدينة عيسى وفي الكويت صمم المسجد الكبير، وفي إسلام آباد في باكستان صمم جامع إسلام آباد، وفي مسقط بعُمان صمم جامع السلطان قابوس الكبير، وفي تكساس بالولايات المتحدة صمَّم جامع تكساس، وفي روما صمم جامع روما. وغير ذلك كثير. ومع ذلك، بقي للبيت البغدادي التقليدي مكانته الخاصة في نفس هذا المعماري الفذ، وخصّه في مذكراته بوصف مسهب.
النساء وهندسة البيوت العراقية القديمة
يقول مكية عن البيت البغدادي التقليدي: “كان الفناء الوسطي الذي يعرف بالحوش من أهم أجزاء البيت التقليدي، ثم تليه في الأهمية “الطارمة” أو “الشناشيل” وهي غرفة الجلوس بحسب مفردات هذه الأيام، وهي مكان اللقاء الأسري اليومي.
بعد الدخول من الباب الخارجي يظهر الممر أو “المجاز” وهو الموصل إلى البيت. غالباً ما يصرخ الضيف من على الممر بكلمات تبلغ سكان البيت بقدومه كالقول “يا الله” أو “يا ساتر”. فيرد صاحب البيت أو أي رجل بالغ “سووا الطريق”، وهو بهذه العبارة يطلب تواري النساء إلى داخل الغرف. وفي الوقت الذي يحتاجه الضيف لقطع الممر تكون النساء قد توارين في الغرف أو ارتدين الحجاب… وفي “المجاز” أو فسحة البيت الخارجية، ينتصب مرتفع أرضي يعرف بالدكَّة، وهو المكان المخصص لجلوس قارئ القرآن، وتُقام مناسبات القراءة في الزواج والمآتم وختان الصبيان. وفي المناسبات المهمة يترك البيت للنساء، ويفترش الرجال الشارع الذي يغطى بالسجاد والحصر. وفي المناسبات العادية، تُعد فسحة المنزل الخارجية للرجال وتجلس النساء في الطابق العلوي من البيت، يشرفن منه على الحوش ليسمعن قراءة القرآن.
في الشناشيل أي غرفة الجلوس، تعقد جلسات الشاي بعد الغداء وقبل القيلولة، وفي هذه الجلسات وناقش أمور العائلات التي تسكن في البيت وتُحل المشكلات العالقة في ما بينها.
وفي كل بيت عراقي تقليدي بئر في وسطه. يحاط البئر بسور منعاً لسقوط الأطفال فيه. ويغرف الماء من البئر بواسطة الدلو، ويستخدم ماؤه في التنظيف وتبريد الفواكه والخضراوات التي توضع في عمقه في فصل الصيف.
ومن أدوات البيت العراقي رحى طحن الحبوب، التي يرافق دويها غناء حزين يرافق دوران الرحى، وضربات الهاون الذي تطحن فيه حبوب البن.
وكانت مفاتيح الأبواب كبيرة جداً حتى ليمكن استخدامها كسلاح أبيض في المواقف الحرجة، أما آلة الطرق فكانت عبارة عن حديدتين، واحدة ثابتة وأخرى متحركة، وكان يتم التعرف على جنس الطارق من صوت الطرقات، حيث تثبت على الأبواب مدقتين واحدة ضخمة للرجال ينبعث منها صوت قوي، وأخرى صغيرة ينبعث منها رنين خفيف للنساء.
وكان سطح البيت العراقي متنفساً لسكان البيت، النساء منهم تحديداً، المحجبات والمحتجبات طويلاً داخل المنزل والغارقات في العمل المنزلي الذي لا ينتهي. كن يشرفن من السطوح على المحلة، ويتركن لأولادهن حرية اللعب على السطح في مساءات الصيف العراقي الحار نهاراً والبارد ليلاً”.
اترك تعليقاً