بقدر ما يشعر المرء أمام أعمال الفنانة التشكيلية سيما آل عبدالحي بالمعاصرة والحداثة، يشعر في الوقت نفسه بدفق التاريخ الجمالي الشرقي وعراقته، المدعَّم بالألوان والنقوش “الكهوفية” العتيقة. فهي تبني عالمها التشكيلي بحيث يبقى على اتصال بالموروث الثقافي والفني، ولكن بلغة شكلية معاصرة تستند إلى المفاهيمية حيناً، وتركن إلى التجريدية التعبيرية والتجريدية الرمزية أحياناً أخرى. وفي زيارتنا لمرسمها في مدينة القطيف وقفنا على كثير من تفاصيل حياتها وحراكها الفني.
المتأمل في نشاط سيما آل عبدالحي خلال السنوات الماضية، يجدها تتأنّى كثيراً في تنظيم معارضها الفردية، وتنتقي بعناية المعارض الجماعية التي تشارك فيها. فقد أدركت أهمية الاحتكاك بالمجتمعات الفنية والفنانين في البلاد المجاورة والبعيدة، وشاركت في عدد من معارض عالمية متفرقة تقام كل سنتين “بيناليات” أبرزها “بينالي آسيا الخامس عشر” في بنغلاديش، و”بينالي الخرافي الدولي الرابع” للفن المعاصر بالكويت، ومعرض “رائحة إسطنبول” في تركيا، و”ملتقى الإبداع والتواصل” بالمغرب. كما شاركت في معارض في البحرين والتشيك وتركمانستان، إضافة إلى عدد محدود من معارضها في مدن المملكة. وتقول الفنانة بصدد قلة معارضها الفردية: “أنا لست ممن يرسم كل يوم، لأني أرى أن هاجس الفن والبعث عليه هو شعور يتجدَّد ويخفت كدورة الحياة. فتمر أيام وشهور لا يكون للريشة دور فيها، وذلك لإعمال الفكر وتجهيز اللازم قبل البدء، وحتى أصل إلى ما في داخلي، فأشتغل أياماً متواصلة ليلاً ونهاراً، وكأني أعوّض على الريشة الساعات والأيام التي مرَّت ولم تمسكها يداي”.
لأن الهندسة قريبة من التشكيل
وتحدثنا الفنانة عن علاقتها بالتشكيل والرسم، فتقول: “كانت هواية منذ الصغر لطفلة ترسم طيلة الوقت. تهتم أن تمتلك كل أنواع الألوان ودفاتر الرسم والكانفس والفرش، حيث إن امتلاكها وتجريبها كان يجلب لها السعادة. ومع الاستمرار في هذا المنحى لسنوات طويلة، قرَّرت أن ألتحق بكلية الهندسة المعمارية، قسم التصميم الداخلي، لأنها كلية قريبة من عالم التشكيل. وبالفعـل، قادتني هذه التجربة إلى رسم لوحات على الحرير، وتنفيذ أعمال بطريقة فن الباتيك وغيرها من التصاميـم الهندسية. وقادنـي ذلك بدوره إلى التعامل مع محلات البراويز، التي عرضت بعضاً من أعمالي. وهنا بدأت تلمع الأعين على لوحاتي الأولى، وفي أوقات الإجازات كنت أتلقى دعوات للمشاركـة في معارض جماعية للهـواة وكنت دائماً أرفض”.
بين التجريدية والتعبيرية والرموز الميتافيزيقية تذهب أعمال سيما بعيداً لتعاضد الإنسان وتسنده، وبهذا الصدد تشير إلى اتجاهاتها الفنية قائلة: كنت دائماً أقول إنني أنتمي إلى المدرسة التجريدية.
منزلها مرسمها
تتناثر اللوحات في أرجاء مرسمها الذي تقضي فيه ساعات طوالاً في معظم أيام السنة. وتنتصب الحوامل لتسند أعمالها التي تشرع في رسمها. وفي منزلها خزانة كبيرة عامرة بالأرفف المليئة بالكتب، وبجانبها طاولة رسم هندسي. ويحتل المرسم مساحة واسعة من البيت الذي تقطنه مع زوجها الفنان بشّار الشوّاف. ومن المعروف أن الشوّاف اعتاد إقامة أمسيات فنية ثقافية مساء كل خميس، يلتقي فيها الأصدقاء والفنانون للحديث والتشاور واستعراض الأعمال الفنية، فكانت هذه الأمسيات مصدر توعية بلورت فنها.
طقسها المتكرر، مع بداية كل مشروع أو بحث فني، يبدأ بالتخطيط على الاسكتشات التجريبية التي تتيح لها التفكير بشكل أعمق في مشروعها قبل نقله إلى أسطح اللوحات. وهي بذلك تتبع أسلوباً فريداً في عملية التنفيذ. إذ تشرع في العمل على اللوحات جميعاً في وقت واحد، فهي لا تعمل على لوحة واحدة حتى تنتهي ثم تنتقل إلى الأخرى. إنما تعمل على الكل في وقت واحد، تتنقل بينهم بفرشاتها وخاماتها، تضيف هنا خطاً وتشكّل هناك تفصيلاً.
أسلوب معاصر ينحى إلى التجريد
في البداية، حدثتنا عن أسلوبها الفني فقالت: “أسلوبي في الفن أسلوب معاصر أستخدم فيه الخامات المختلفة لتوظيفها على أسطح تشمل الكانفس والخشب في أغلب الأحيان، وأستخدم الورق أيضاً. لكني أستخدم الألوان لتكوين الأشكال، للتعبير عن مضامين ذاتية أراها في من يحيطون بي من البشر، في عاداتهم وتقاليدهم، أفعالهم وأقوالهم، أخلاقهم وآمالهم ومحنهم. الحيـاة الكاملة التي تدور من حولي وأراها، ترسمها ألواني بخطوط وأشكال وكتل تحمل الكثير”.
وبين التجريد والتعبير والرموز الميتافيزيقية، تذهب أعمال سيما بعيداً لتعاضد الإنسان وتسنده، وبهذا الصدد تشير إلى اتجاهاتها الفنية قائلة: “كنت دائماً أقول إنني أنتمي إلى المدرسة التجريدية. ولكني بعد انضمامي لصالون بشّار الشوّاف، اتجهت في أعمالي لتصبح معاصرة أكثر ولا تخضع لمدرسة معينة بحد ذاتها، بل أستخدم الوسائط الحديثة، وحوَّلت اللوحة المسندية إلى لوحة تثبيتية أو أعمال تركيبية”.
ففي الأعمال التي ضمها معرضها الأول “من فوق الأرفف” عام 2009م، استخدمت سيما جميع الألوان للدلالة على رغبتها في التجريب واكتشاف قدرة الألوان على التعبير، وحاولت أن توجد بينها حالة انسجام، وبجانب الألوان رسمت بتصميم هندسي، مستفيدة من تخصصها في دراسة هندسة التصميم الداخلي. كما استخدمت الخامات المتنوِّعة ووظفت الفراغ والبناء الكلّي للوحة كي تخرج في النهاية تصميمات فنية جمالية متكاملة.
وعندما نفذت أعمالها في معرض “ضريح الألوان” الذي أقامته في 2012م، كان الشكل المستطيل هو الشكل الأساسي في معظم الأعمال، معبِّراً عن القبر، واستعانت بالأصدقاء والأشكال والتكوينات لتظهر حراك الناس في الحياة. وكان اللون الترابي، بشكل واضح أو غير واضح، الغطاء السينوغرافي للأعمال، وتم استخدامه بعناية لإظهار المتناقضات والمواجهة والتنافر في طبيعة الحياة.
ضريح الألوان.. قصة الكون والبشرية
في “ضريح الألوان”، روت قصة العالم من منظور فني تجريدي. فقد ضمّت لوحات المعرض قصة الكون والعناصر الأربعة: التراب والهواء والنار والماء. كذلك تضمَّنت اللوحات فكرة الصراع بين كثير من المتقابلات، كالحب والكره، الوفاء والغدر، الليل والنهار، النور والظلمة، الجمال والقبح، الذكر والأنثى، الصدق والكذب، الحقيقة والخيال، الموت والحياة، العذب والمالح، الأسود والأبيض، وغيرها.
تنفي آل عبدالحي السوداوية التي يكتنفها العنوان “ضريح الألوان” قائلة إنها تسعى نحو التوازن: “كلما كانت نظرة الإنسان إيجابية أصبحت حياته أفضل. كلما نظر إلى الأمور بصفاء وأريحية زاد البياض حوله. وحين تكون نظرته سوداوية، فإنه يجذب كل شيء ليزيد من كتل السواد بداخله”. وتضيف: “الطين كان البداية، وفي الطين أيضاً تكون النهاية. والتراب هو القبر. والقبر هنا في لوحاتي كان ضريحاً للألوان، أي ضريحاً للدنيا. القدر الشماعة، كم لباساً سنعلق عليها؟ علّقت عليها مئات الألبسة في لوحاتي “معزوفة القدر”. إلا أن الإيجابية في التعامل مع القدر والرضا يجعل القبر يشع بياضاً”.
روت أعمالها في معرض “ضريح الألوان”، قصة البشرية وحكاية العالم من منظور فني تجريدي، فقد ضمّت لوحات المعرض قصة الكون بأسره، والعناصر الأربعة: التراب والهواء والنار والماء.
أوبرا كارمن
في العام 2016م، أخذ عملها التشكيلي المعنون “دُمى كارمن” أهمية خاصة في معرض “%60 للمواهب الشابة بجدة”، حيث احتل مساحة من جدران صالة “أثر غاليري” تتجاوز الستة أمتار طولاً والمترين عرضاً، تتوزع عليها دمى كارمن في 6 قطع بقياسات متفاوتة وبارزة عن سطح الجدار، بالكارتون والورق المقوى، وألوان الماء والأكريليك، وكولاج من الطباعة والسلك سكرين.
وكانت الفنانة استوحت العمل من أوبرا “كارمن” للموسيقار جورج بيزيه، تلك التي أثارت جدلاً منذ 1875م ولم يتوقف حتى الآن، وتجسد قصتها الفتاة الغجرية الإسبانية بكل عنفوانها، الباحثة عن الحرية والاستقلالية والتمرد على كل عرف وموروث… لم تخضع كارمن لسيطرة وملكية أي رجل، فهي ذات حرة لا تعترف بالقيود ولا تلتزم بالوعود، لها نزواتها وهواها الخاص.
من هنا جعلت ابنة المنطقة الشرقية بطلتها كارمن ترقص مع دمياتها الإحدى والعشرين بين الحقول والزهور، لتصبح هي الدمية الثانية والعشرين. وعندما رأت الضابط دون خوزيه رمته بوردة، فما كان منه إلا أن خلع بزته العسكرية وتنازل عن رتبته لها. ولكن كارمن الطليقة تتركه وتذهب لتتراقص على نغمات موسيقى مصارعة الثيران، وينتهي بها المطاف بأن يقتلها دون جوزيه أمام حلبة مصارعة الثيران بسبب غيرته وحنقه عليها.
تم عرض هـذه الأوبــرا مئات المرات على مسارح العالم. ولكن آل عبدالحي استلهمتها تشكيلياً للمرة الأولى، لأنها تَعُدُّ أن التوق للحرية من أهم قضايا الإنسان المعاصرة. وأيضاً، كما تؤكد، بأنها لم تمثلها في عملها بحثاً عن الحرية المتمردة، كما هو حال كارمن، بل للمطالبة بإبداء الرأي والحوار الإنساني المتزن.
حكايات صديق ينتظر والشاهنامة
بعد مرور سبع سنوات على ضريح الألوان شرعت سيما آل عبدالحي في صنع لوحات معرضها الثالث “صديق ينتظر”. والصديق المنتظر، هو الكتاب الذي ينتظر أن تقرأه. فما إن تلتقي الفنانة بصديق (كتاب) حتى تتوقع همسة أو لمسة أو سطراً يضيف إليها جديداً. هكذا عبَّرت سيما عن شغفها بالكتاب، فهو أجمل صديق حسب مفهومها، وهي دائماً في انتظار بوح وسحر وتحليق هذا الصديق. وعندما تفتح هذا الكتاب أو ذاك، تشعر بأن لديها من اليقين والمعرفة ما لا يخطر على بال.
تستعيد سيما ما قاله ذات يوم طاغور شاعر الهند العظيم: “الكتاب المفتوح عقل يتكلم، والمغلق صديق ينتظر، والكتاب المنسي روح تسامح، والممزق قلب يبكي”، وتسترسل فتقول: “تأملت هذه المقولة بعد أن أصبحت صديقة جديدة للكتاب، وأثرت في نفسي كثيراً. وعلى إثرها قررت أن أمسك بغلاف الصديق الذي ينتظر وأجعله عقلاً يعي ولساناً يبوح”.
من هنا نشأت فكرة المعرض الذي أطلقته في “غاليري تراث الصحراء” بمدينة الخبر في أبريل 2019م تحت عنوان “صديق ينتظر”، حيث نفذت أعمالاً تستقي مادتها الأساسية ورسوماتها التعبيرية من الكتب التراثية القديمة، لا سيما كتاب “الشاهنامة”. وتختصر في ثناياها اثنتي عشرة قصة فيها كثير من المعارف والعبر. إذ تحكي، على سبيل المثال، عن ذلك الرجل العظيم الذي كان له حلم بسيط في بناء سد من الحجارة والحديد والآجُرّ. أو تروي أساطير لا أحد يستطيع أن يجزم بحقيقتها اليوم. إنه الخيال والتخيل في الأدب القديم، وهو بالتالي تاريخ البسطاء وقصص المهمشين في ثنايا التاريخ. كيف تخيلتهم وكيف حكت حياتهم بهذه الرسوم التعبيرية المليئة بالأحداث والصور والدلالات التي يمكن استنتاج منها تفاصيل ومفارقات في الحياة الاجتماعية القديمة، ومن ثم إسقاطها على الواقع الراهن.
قصة الشاهنامة
ولكن ما قصة “الشاهنامة” أو كتاب الملوك؟ … وثَّقت كتب التاريخ أن نوحاً بن منصور الساماني، وهو من أمراء دولة بني سامان التي كانت تحكم ما وراء النهرين، هو أول من اقترح نظم الشاهنامة، وبدأ الشاعر أبو منصور الدقيقي بنظمها، وأتمّها شاعر الفارسية الأكبر أبو القاسم الفردوسي.
تحتوي الشاهنامة على أخبار ملوك بلاد فارس، حياتهم ومعاركهم وتاريخهم وبذخهم ورحلات صيدهم وسياساتهم ونزقهم. وقد أنجزت في الثامن من مارس عام 1010م وتتكوَّن من 60 ألف بيت من الشعر تروي بأسلوب وبلاغة شعرية تاريخ بلاد فارس منذ نشأتها وحتى انهيار الإمبراطورية الفارسية في القرن السابع الميلادي على أيدي الفاتحين العرب. وتُعدُّ الشاهنامة كتاباً هائل الحجم، إذ يبلغ ضعفي حجم الإلياذة والأوديسا معاً.
تقول الفنانة: “أثناء إعدادي لأعمال معرض “صديق ينتظر”، وهو يحتوي على قرابة 180 لوحة، استمتعت بكل جوارحي بفن المنمنمات وقواعده وأصوله وموضوعاته. إنه فن مثيرُ، كيف للوحة واحدة أن تُرسم من قبل عدة فنانين وتخلد مع الزمن؟ هذا الأسلوب الفريد في تصوير تكوينات الشخوص وحركتهم والأشياء من حولهم، عالم جدير بالتأمل والكاتبة والرسم لسنوات وسنوات، وهو حري بتناوله بآلاف الأعمال الفنية”.
وفي ختام الزيارة، تختزل لنا سيما آل عبدالحي نظرتها إلى الفن التشكيلي بالقول إنه “ممتع، ومفرح، وحامل لكثير من الشغف. بل إنه يدفع إلى مزيد من الحراك والتطلع والتحدي. ولحظة التوقف فيه تعادل شوقاً وحنيناً هائلاً. إنه مثل قطار طويل أتحرك بين عرباته من دون أن آمل أو أطمح بالمزيد.. وحين أسمع بعض الأمثال أو الحِكَمْ الرائعة أعتقد أنها فعلاً كتبت لي، لا لسواي. وحين أسمع كلمات بعض الأغنيات أحس وكأني أنا من ألّف كلماتها لشدة قربها مني. الفن لديَّ يرتهن بالحياة بأسرها. لعبة لا رهان فيها، وعلينا السير رغم كل الأخطار”.
اترك تعليقاً