مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
مارس – أبريل | 2024

جسرٌ من مجاز

حين تتجلَّى الترجمة في الرواية


د. مبارك الخالدي

عند التفكير في الكتابة عن حضور المترجمة أو المترجم في الرواية، تقفز إلى مقدمة الذاكرة شخصية “مايكل هورس”، من رواية “روح خبيثة” للروائية الأمريكية، ليندا هوغان، التي تنتمي إلى السكان الأصليين. فخلال خدمته في الجيش الأمريكي في الصين، كان هورس يترجم بثلاث لغات. وفي حاضر الرواية الذي يعود إلى عشرينيات القرن الماضي، يقوم هورس بالتوسُّط بين البشر والبوم والخفافيش بعد أن تعلَّم لغاتها في ضواحي “واتونا”، حيث تقيم قبيلة “أوسيج”؛ وهكذا يلعب بطل الرواية “المترجـم” عدة أدوار وسيطة لا يتسع المقام لذكرها. انطلاقًا من هذه الرواية، يمكن تأمل حضور المترجم في عدة روايات أخرى، لنجد كيف يكون هذا الدور جسرًا من مجاز.

الترجمة كفعل توسط “mediation”، والمترجم كوسيط “mediator”، موضوع يشكّل عاملًا مشتركًا بين أربع روايات تناقشها هذه المقالة، مرتبة وفقًا لسنوات صدورها: “المترجمة” لليلى أبو العلا، و “الحفيدة الأميركية” لإنعام كجه جي، و “عشرة أسابيع بجوار النهر” لعبدالله الوصالي، و “الأمريكي الذي قرأ جلجامش” للدكتور أحمد الشويخات. والكتابة عن هذه الروايات لا تتبنى منهج قراءة معينًا، وإنما تتناول الموضوع الذي يقترحه كل نص ويلفت إليه الأنظار.

الترجمة كمحرك للأحداث

لا ترجمةَ في رواية ليلى أبو العلا “المترجمة”، فالقارئ لا يلتقي فيها، مثلًا، بحوارات بين الشخصيات، أو باستطرادات تناقش مسائل وقضايا وصعوبات تتعلق بالترجمة كالتي يلتقي بها في رواية “عشرة أسابيع بجوار النهر”، أو رواية “الأمريكي الذي قرأ جلجامش”. لكن رواية أبو العلا تلتقي مع الروايات الثلاث الأخرى عند فكرة تأثير الترجمة في تجارب الشخصيات المحورية فيها. فالترجمة، مهنةً ونظريةً، ليست ثيمة في “المترجمة”، ولكنها تؤدي دورًا مؤثرًا في حياة الشخصية المحورية “سمر”.

“المترجمة” رواية سيرية، أو سيرة روائية بضمير الغائب، تحكي مرحلة مهمة من حياة “سمر”، وهي سودانية بريطانية تعيش في مدينة “أبردين” في اسكتلندا، وتعمل “مترجمة” في جامعتها. في سياق الأحداث، تشجع العمة “محاسن” ابنة أخيها “سمر” على العودة إلى أبردين بدلًا من البقاء في الخرطوم التي عادت إليها لدفن زوجها “طارق” الذي تُوفي في حادث في أبردين، وقد كان طالبًا يدرس الطب في الجامعة. كان تحفيز العمة يعبر عن خوفها من ارتماء سمر في حضن رجل تشاركها فيه زوجة أو زوجات أُخر مثل الكهل أحمد علي سعيد. إنها ليست بحاجة للزواج لكي تعيش؛ فهي امرأة متعلمة وتتكلم وتكتب الإنجليزية بإتقان، وتستطيع الاعتماد على نفسها.

بعد عودتها إلى أبردين تبدأ سمر العمل مترجمةً في الجامعة، في شعبة يشرف عليها راي آيلز، المختص بشؤون الشرق الأوسط والمحاضر في علومه السياسية. هناك يبدأ مشوار ترجمة راي لمشاعره وانجذابه نحوها، وتتجاوب سمر بترجمة مشاعرها ولكن ببطء وتردد، وليس بالسرعة التي تنجز بها ترجمة ما يُوكل إليها من بيانات وتقارير.

“المترجمة” إذًا قصة حب وأكثر من ذلك. والترجمة في الرواية محرك للأحداث وعامل مهم في تطورها، وفي خلق نقاط التحول المهمة في حياة سمر، التي كانت تجربتها ستختلف تمامًا لو كانت تشغل وظيفة أخرى في مكان عمل آخر. فالترجمة بالنسبة إليها هي الجسر المجازي الذي تلتقي عليه مع “آيلز”. وبفضل سيرها عليه، وإن ببطء وخوف، تخرج من العزلة والحياة الرتيبة خلال السنوات الأربع التي قضتها أرملة، وكانت قد أدارت ظهرها نحو الحياة في مدينة صقيعية، تكابد الإحساس القارص بالوحدة والغربة في وسط يتناقض اجتماعيًا وثقافيًا مع كونها عربية مسلمة متمسكة بمبادئ دينها وفروضه وبزيها الإسلامي. فالاختلافات بين اسكتلندا والسودان كثيرة، كما تقول سمر لراي: “الجو والثقافة والحداثة واللغة وصمت المؤذن؛ حتى ألوان الطمي والسماء وأوراق الأشجار، مختلفة أيضًا”.

ثنائيات متعددة ومبانٍ محترقة

كانت العبارة: “سبعة وتسعون ألف دولار في السنة. ماكل وشارب ونايم”، مغرية بشكل كافٍ لاستدراج الكثيرين من الأمريكان العرب في ديترويت وغيرها من المدن الأمريكية إلى الالتحاق بالجيش الأمريكي والعمل في الترجمة بالعراق. وكان من بينهم الأمريكية العراقية “زينة بهنام”، الشخصية الرئيسة والساردة بضمير المتكلم في “الحفيدة الأميركية” لإنعام كجه جي.

الترجمة هنا فعل توسُّط بين الأفراد والمجتمعات والثقافات المختلفة في أمكنة وأزمنة مختلفة، وهي بهذا تشبه السرد تمامًا. فالسرد، وفعل السرد، توسط أو وساطة بين المسرود والمسرود له (المتلقي)، والسارد هو من يؤدي دور الوسيط، فلا وجود لأية حكاية بشخوصها وأحداثها وأزمنتها وأمكنتها خارج الخطاب الذي يتلفظ به و “يصوغه”.

وتتكرر هذه الثنائية في عناصر أخرى في الرواية، لتؤسس بمجموعها تَمَيُّزَ “الحفيدة الأميركية”: الثنائية في المبنى الحكائي أو الخطاب المؤلف مما ترويه زينة بهنام، ومما ترويه الساردة بضمير الغائب؛ الثنائية الهوياتية أو ثنائية الانتماء، والثنائية اللغوية، والشرق والغرب، والثنائية السردية والميتاسردية أو الميتاقصية. يُشير الدكتور سعد البازعي إلى العنصر الميتاسردي في الرواية في مقالته “الوطن الملتبس في رواية الحفيدة الأميركية”، وثنائية الصورة والواقع، صورة العراق والعراقيين في الإعلام الأمريكي، والعراق الذي وجدت زينة نفسها فيه بعد وصولها إلى بغداد.

في العراق، وجدت زينة نفسها في مواجهة مزعزعة للاستقرار النفسي مع الحقائق المُغَيَّبَة في الخطابين السياسي والإعلامي الأمريكيين، حيث صورة العراق والعراقيين زاهية، يظهر فيها العراقيون فرحين ومستبشرين بقدوم الأمريكان. وكانت تتوقع أن تلتقي العراقيات والعراقيين الذين تقول عنهم إنهم لن يصدقوا عيونهم حين تتفتح على الحرية، وإن الشيوخ و “العواجيز” منهم سيعودون صغارًا “يرشفون حليب الديموقراطية”. بدَّد الواقع بما فيه من حقائق وصور كل توقعاتها الوردية. فالدمار الذي طال بغداد لم ترَ له مثيلًا من قبل كما تقول، و “المباني المحترقة المتداعية التي تصفر فيها الريح تشبه الرماد الذي هطل على نيويورك” بعد الحادي عشر من سبتمبر.

لم يتحقق للمترجمة (الساردة) حتى حلمها البسيط بأن تتباهى أمام العراقيين بأنها منهم، ومنهم جدتها التي كذّبت عليها بقولها إن عملها في الجيش هو لمجرد مراقبته وهو يؤدي مهماته. ولم يدم المقام بها طويلًا لتكتشف أن بزتها العسكرية كانت حاجزًا بينها وبينهم، وليس أدل على ذلك من طرد جدتها لها، قبل تمني الأخيرة الموت لحفيدتها بعد زيارة المترجمة لها في مداهمة شكلية لتمويه كونها في الجيش.

في النهاية تُلَقَّبُ زينة بالخضراء، نسبة إلى المنطقة الخضراء، وللقبها دلالات عدة: اتهام بالخيانة والعمالة، ورفض لانتمائها للعراق، ومحو حتى لهويتها الثنائية “عراقية أمريكية أو العكس”، وهذا ما أدركته ويعبر عنه تساؤلها: “هل المطلوب أن أقف وأهتف بسقوط أمريكا؟”.

صورة المترجمة في شبابها

مما يميز رواية الوصالي “عشرة أسابيع بجوار النهر”، سردها لتجربة مُترجِمة في سيرورة التشكل والتطور إلى لحظة ظهورها مترجمة وكاتبة في النهاية. “ميرا” الفتاة الأمريكية الفلسطينية لا تشبه زينة بهنام، وكذلك سمر البريطانية السودانية، وذلك لأنه ليس لها تجربة في الترجمة، ولا تتقن أي لغة غير الإنجليزية. والرواية رصد ومتابعة لتطور مهارتها في الترجمة، وتعمق واتساع معرفتها فيها، نظريًا وتطبيقيًا، إلى لحظة تحقيقها النجاح بإنهاء الفصل الدراسي التمهيدي.

تسافر ميرا من شيكاغو إلى مدينة أيوا، للالتحاق ببرنامج ماجستير الفنون الجميلة في الكتابة الإبداعية، ومن متطلبات البرنامج ترجمة نصوص من لغة غير الإنجليزية والمشاركة في ورش الكتابة الإبداعية وغير الإبداعية، وترجمة ستين صفحة أو ألفي كلمة من أي جنس من الأجناس الأدبية. وتُفاجأ برفض المشرف على البرنامج، د. أدريان، لرواية غسان كنفاني “عائد إلى حيفا”؛ لأنها تُرجمت من قبل. وكان أبوها قد اختار رواية كنفاني ووعدها بترجمة فصلين منها. وعلمت أيضًا أن الجامعة قررت هذه السنة أن يترجم طلاب الفصل التمهيدي، أعمال الأدباء ضيوف برنامج التبادل الثقافي، ومن بين الضيوف أدباء عرب.

ومما يلفت الانتباه بتشكيله ملمحًا مميزًا آخر للخطاب السردي في رواية الوصالي، هو اتساقه منطقيًا مع كون الرواية هي التجربة الإبداعية الأولى لكاتبة مبتدئة تستحضر وتوثّق تجربتها في دراسة الترجمة، إذ نثرت في ثنايا الخطاب كل ما في ذاكرتها، كما يبدو، وكل ما تعلمته عن صعوبات ومتطلبات وشروط إنجاز ترجمات جيدة.

وقد يبدو مبالغًا فيه إن قلت إنه بالإمكان استخلاص دليل أو خارطة طريق إلى الترجمة الجيدة. فقد رصفت ميرا الطريق إليها بالإرشادات والتوجيهات التي تلقتها من المشرف على البرنامج، أو سمعتها خلال لقاءات الطلاب مع الضيوف المشاركين في برنامج التبادل الثقافي أو مما قرأته. على سبيل المثال، تنقل ميرا عن د. أدريان في لقائها الأول معه، ما معناه أن نقل نص من ثقافة إلى أخرى ينبغي أن يتوافق مع الثقافة الإنجليزية، وفهم ظروف الكاتب الاجتماعية والسياسية عامل مساعد في الترجمة، ومعرفة المناخ لكتابة النص يؤدي إلى ترجمة جيدة. ربَّما بسبب اتباع هذه الإرشادات وغيرها، وصلت ميرا، كما يقول د. أدريان في الخاتمة إلى: “تطور كبير لم أتوقعه… لم أُظهر لها، آنذاك، كامل دهشتي من ذلك التطور، ولكني عبرت لها عن إعجابي الشديد، بعد مسودتها الأخيرة التي ازداد فيها ألق الترجمات”.

خذلان الأمريكي الذي قرأ جلجامش

يتمتع ديفيد بوكاشيو، الشخصية المحورية في رواية د. أحمد الشويخات، بالتوسط أو الوساطة المزدوجة، مثل زينة بهنام في “الحفيدة الأميركية”. لكنه يختلف عنها في نواحٍ عدة، منها أنه دارس لفن الترجمة. دفعته معرفته في الصبا بأن “حكايات ألف ليلة وليلة” مكتوبة باللغة العربية، إلى تعلُّم العربية ونحوها وصرفها وبعض تاريخها وآدابها في الجامعة. وضاعف تعلُّقه وإعجابه باللغة العربية طريقتها العبقرية في نقل العلوم والفنون. وهو يلفت الاهتمام في خلال سرده إلى عدم وجود دراسات تناقش “طرائق اللغة العربية في التعامل الترجمي مع الفن عبر القرون”.

أسهمت أسفار بوكاشيو وجولاته في عدد من البلدان العربية في تعميق معرفته باللغة العربية وآدابها والترجمة، فأصبح مترجمًا على حد قوله. من البلدان التي زارها المملكة العربية السعودية، في 1977م. وهناك، وتحديدًا في الظهران حيث يعمل عمه رئيسًا لقسم الترفيه في “أرامكو السعودية”، التقى بالشاب السعودي رجب سمعان، وكانت تلك لحظة البداية لعلاقة صداقة دعمت أواصرها الميول والاهتمامات المشتركة بينهما في الأدب والفن والترجمة.

في رواية “الأمريكي الذي قرأ جلجامش”، تتحوّل الترجمة من بحث وراء هدف سامٍ إلى شعور بالخيبة، بعد ترجمة أقوال جرحى يصرخون من الألم.

كان رجب سمعان، آنذاك، طالبًا في قسم الأدب في جامعة الملك سعود (جامعة الرياض) سابقًا، بينما كان ديفيد بوكاشيو يدرس اللغويات والأدب العربي في جامعة بيركلي وجامعة الولاية في سان فرانسيسكو. ويروي السارد بضمير الغائب ونسبة إلى ديفيد نفسه كيف كانت النقاشات والأحاديث الثنائية حول الترجمة وقضاياها وطرائقها وأساليبها وإشكالياتها وأنواعها السمةَ المميزة للقاءاتهما، إذ كانا يطرحان من الآراء ما يمثل أو يؤسس نظريةً في الترجمة.

لم يأتِ بوكاشيو إلى العراق مترجمًا في صفوف الجيش الأمريكي بسبب الدخل السنوي الكبير، كما في حال مواطنته الأمريكية العراقية زينة بنهام، إنما بهدف إفادة جيش بلاده ومساعدة العراقيين؛ ليكتشف بعد انقضاء بعض الوقت أن الأحداث ساقته “إلى فخ اسمه العراق”. ففي العراق، وجد نفسه فيما لم يخطر بباله أبدًا، و “في مواقف ترجمة لم يفكر فيها من قبل، ترجمة أقوال جرحى يصرخون من الألم”. كما أن خبرته في الترجمة وأفكاره لم ينفعاه، ولم ينفعا من حوله، بل كانت مصدرًا للمتاعب. إضافة إلى الشكوك والارتياب فيه، واتهامه بأنه متعاطف مع العراقيين في أثناء التحقيقات مع المعتقلين، ما أدى في النهاية إلى وضعه تحت الرقابة، وتكليف زملائه بمراقبته وتقييم ترجماته.

لقد بدا وعيه بالخيبة واضحًا باعترافه أن الترجمة خذلته، وأنه أخفق في تحقيق الأهداف من وراء التحاقه بالجيش. لم يستطع مساعدة السكان المحليين (العراقيين)، ولا صد الموت عن مواطنيه الجنود الأمريكان. لقد تهاوت أوهامه أمام عينيه، محققًا “فشلًا إضافيًا” يُضاف إلى قائمة إخفاقاته السابقة. لهذا، قرَّر العودة و “إعادة النظر في الأمور”.


مقالات ذات صلة

المقهى فضاء سوسيولوجي بامتياز كما يُقال؛ فهو مكان للتجمع المفتوح لكلّ النّاس من مختلف الأعمار، ما جعله مُلهم الأدباء وحاضن الثقافة.

وقت الاستبدال قد حان، ودورة الحظ التفتت أخيرًا!

طيران
أبي الذي لا يشبهُ الطيورَ
ليسَ يشبهُ الرياحْ
ورغم هذا
طارَ للسماءِ دونما جناحْ!…


رد واحد على “حين تتجلَّى الترجمة في الرواية”

  • يعطيك العافيه دكتور مبارك..
    تميزك الدائم في الطرح المنفرد فكل مرة تتحفنا بالجديد ومنها هذه الرؤيا في فن الأدب المقارن في عالم الأدب المترجم
    تحياتي وشكري لك على هذه الجهود


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *