في معرضـه الأخير في الصالة الفنية للحديقة الملكية وسط مدريد، يعود الفنَّان العراقي حنوش حنوش، إلى التقاط إحدى أهم أيقونات الأدب العربي، ألا وهي “ألف ليلة وليلة”؛ ليضعنا أمام تصوراته الفنية أسلوبًا وتلوينًا مختلفًا لمن سبقوه بتناول الموضوع رسـمًا. وتُعدُّ تجربته هذه في استلهام “ألف ليلة وليلة” الأولى من نوعها في إسبانيا، وتطلبت منه العمل على هذا المشروع أكثر من ثلاثـة أعوام. وهي تجربة تأتي ضمن متتالية فنية يعود فيها إلى أصوله المشرقية، وهي: “بغداد.. المصير والحكايات” 2005م، و”خيوط النور.. الشعر واللون” 2011م، و”الفرات والمصير” 2018م، ثم معرضه الأحدث “شهرزاد والليالي العربية” 2024م.
حنوش، رسَّام وطبَّاع وأستاذ للفن التشكيلي، من مواليد الكوفة عام 1958م. بعدما تخرج من معهد الفنون الجميلة في بغداد، سافر إلى أوروبا، فعاش في إيطاليا، ومنها انتقل إلى إسبانيا حيث استقر في مدريد منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي. وهناك درس في كلية الفنون الجميلة في جامعة كومبلتنسه في مدريد، وحصل منها على البكالوريوس والدكتوراة.
وهو أحد الفنَّانين العرب القلائل الذين أثبتوا حضورهم في الغرب؛ إذ شارك في عشرات المعارض الجماعية، وأقام أكثر من 38 معرضًا شخصيًا، وحصل على 37 جائزة في الفن التشكيلي في إسبانيا وخارجها، إضافة إلى منح دراسية وفنية من قِبل الحكومة الإسبانية وجهات عربية مختلفة.
أسرار الضوء
يقول المستعرب الإسباني فدريكو أربوس عن حنوش إنه: “أشعة الضوء، التي حاول ابن الهيثم أن يقبض عليها، يقوم حنوش بعد عشرة قرون بإعادة صياغتها عندما يؤكد أن الصور لا تأخذ هيئتها داخل العين وإنما في المخيلة”.
أمَّا حنوش، فيقول عن تجربته في الإعداد لهذا المعرض: “المشروع الفني يشبه كتابًا جديدًا، وقد بحثت عن أكثر من 700 صورة وأعمال تتعلق بألف ليلة وليلة من أغلفة كتب إلى لوحات، ولم أتوقف عن القراءة والبحث بالإسبانية والعربية طوال تسعة أشهر. وبعد ذلك أصبت بالحيرة؛ لأن ما أريده يتعدى قراءة عمل وترجمته فنيًّا.
تبيَّن حنّوش طريقه وشرع في العمل، وفكر في المزج بين التاريخين العربي والإسباني، وإضافة قصص جديدة في شكل رسومات. يقول: “أول من قدَّم الليالي للأوروبيين كان الفرنسي أنطوان غالان، وقد أضاف في ترجمته قصصًا عربية ليست ضمن النسخة العربية مثل حكاية “علي بابا والأربعين حرامي”. ولدى الفنان حرية التصرف والإضافة، عند نقل الليالي إلى أفق فني آخر. بازوليني أضاف في فِلمه “ألف ليلة وليلة” قصصًا ليست موجودة وهذا ما فعلته، وقد تطرقت للقصص الجميلة في الليالي وركزت على الشعر أكثر من السرد، وتجنبت العنف لأن عالمنا اليوم لا ينقصه العنف”.
شارك حنوش بصورة فاعلة في الأوساط الإسبانية منذ عام 1985م، وسعى إلى فهم معنى الفن التشكيلي في وقتنا الحالي. وبناءً على ذلك، نراه يركّز في لوحاته على سمة المزج بين العناصر الشعورية والرؤى المتقابلة ما بين الشرق والغرب. وقد استكمل دراسته للفنون الجميلة بالاطلاع على فكر الفلاسفة الإغريق مثل أرسطو وأفلاطون، والفلاسفة والمفكرين العرب مثل ابن عربي، فضلًا عن مفكرين معاصرين آخرين أسهموا في إعداد وصقل أعمال فنية على مستوى فكري عالٍ وغني بالإشارات الفلسفية.
ولعلَّ الاطلاع على أطروحة حنوش للدكتوراة عن فنِّ الرسم عند “الواسطي”، يُحيلنا إلى تلك التساؤلات الأولى عن الجذر والتطور في أدوات الفنَّان ورؤاه، وما الذي قدمه في هذا المعرض. يقول: “للفنان أن يستفيد من كل خبراته ومعارفه التي اكتسبها طوال حياته، على أن يجد أسلوبه، وقد كان أكبر تحدٍّ في هذا المشروع هو تناول موضوع مشهور مثل ألف ليلة وليلة التي يعرفها الكبار والصغار. كان لا بدَّ أن أحافظ على أسلوبي وألا يطغى الموضوع على رؤيتي الفنية”.
تلقَّى حنوش، خلال مسيرته الفنية الطويلة، تأثيرات متنوعة من خلال أصوله وثقافته العربية، ومن خلال معايشته للثقافة الغربية حياة ودراسة وعملًا وتفاعلًا مع الفنانين الآخرين، وكان لكل هذا التمازج أثره في أسلوبه وألوانه ومفردات عالمه الفني.
في مقال يتناول فيه آخر ما أنجزه هذا الفنَّان، يكتب الناقد والمعماري الإسباني المعروف، نافارو بالدوينغ، مُوجِزًا بشكل بليغ رؤيته عنه، قائلًا: “تتعايش في أعمال حنوش التشكيلية تلك القدرة على المزج ما بين التجريد والتشخيص الفني. إذ نلاحظ في الهيئات المرسومة عملية توزيع محسوبة وفق عمق خاص بها، وكأننا إزاء تشظية مقصودة داخل إطار مكاني، فيما يشبه، إلى حد بعيد، عملية ترتيب قطع متناثرة لإتمام وجودها. لقد حقق حنوش في اللوحة عملية تعايش ممكنة بين السطح التجريدي والصبغة التشخيصية، كما لو كانا صوتين متحاورين ومتفاعلين”.
جوهر الأشياء
ينطلق حنوش في مجمل لوحات “شهرزاد والليالي العربية”، المنتخب منها في المعرض نحو أربعين لوحة بأحجام مختلفة، من تصوّر خاص لمقولة أرسطو القائلة: “إن الغرض من الفن هو تجسيد الجوهر السري للأشياء، وليس استنساخ أشكالها”. فهو ينظر إلى الجمال كفكرة موحّدة ومتكاملة بشكل منسجم يجعل العمل الفني متفوقًا على الطبيعة والمادة.
تتضمن هذه المجموعة تعبيرًا عن العلاقة الفنية ما بين المدينة والبشر، وما بين البشر والكائنات الأخرى. وهي تُضيف إلى ما قدّمه الفنان في الأعوام العشرة الأخيرة، ومن ذلك لوحات معرضه المتميز “رؤى متقابلة” عام 2010م، و”خيوط النور” التي قدم فيها استلهامًا صوفيَّا لقصائد الشاعر العراقي عبدالوهاب البياتي. وتعكس هذه المجموعة تشكيلات جمالية تؤرقه بوصفه فنَّانًا ليمنحها بُعدها اللوني والشكلي عبر اللوحة، مُركِّزًا على هيئة البشر، معاصرين كانوا أو قدامى، كعناصر بنائية للوحة وما تضمه في دواخلها من هيئات ومساحات فارغة وممتلئة.
في اللوحات الجديدة، لا تبرز الشخصية كحالة مجردة من الانتماء للحيز في اللوحة، بقدر ما يرغب الفنَّان في اللعب والبحث عن تنويعات للحركة الإنسانية المعاصرة وأشكالها المتعددة، وفي أطوار تجاربها المعيشة بكل لحظاتها اليومية وتفاصيلها الدقيقة، كما هو الحال في اللوحات المتميزة التي تُبرز تجليات مختلفة للعلاقة بين الرجل والمرأة.
الحسُّ اللوني
في لوحات المعرض الشهرزادي، يُظهر الفنَّان اهتمامه المتزايد بالحس الشاعري للون، الذي لا يكِلُّ عن قراءته بأشكال مختلفة. اللون والحركة الشعرية، بمفهوم حنوش، هي: “ما يمنحني حرية واسعة لتمثيل الشعر في فضاء يشهد حدوث أمور عدة في آنٍ واحد. فالمكان والزمن يتداخلان، وكذلك الخط واللون يعملان سويًا. كما تحضر الذاكرة وذكريات الطفولة في بلاد الرافدين، فتشكل صور الأشخاص الذين نعرفهم، وكل هذه العناصر معًا تخلق فضاء اللوحة”.
ينقل لنا الفنَّان رؤيته اللونية التشكيلية، بعد انطباعاته التي كونها من قراءة قصص “ألف ليلة وليلة”، وبعد مراجعة تناول التجارب التشكيلية التي سبقته حول الموضوع نفسه. يحمل حنوش إعجابه بشهرزاد “فهي لم تنقذ نفسها فحسب من خلال براعتها في الحكاية بل أنقذت بنات جنسها”. لكن الرؤية الشهرزادية لدى حنوش ليست خيطًا تفسيريًا وحيدًا، بل هي العين الجامعة للجمال الشعري في كل القراءات السابقة والتـأثيرات الممكنة، سواء منها تلك التأثيرات الشرقية بوصفها منهلًا أصلًا، أو الغربية بوصفها منهلًا تلاقحيًا مكتسبًا.
لا يعدُّ حنوش العمل الذي يفتقد المضمون عملًا فنيًّا، كما يكتب الناقد ألبرتو بالوميرو، فهو يرى أن الفن أعمق من مظهره المادي؛ لأن ما وراء كل شيء مادي هناك شيء جوهري في العمق. كما أن الجوانب المتعلقة بالمفهوم والأفكار تشكِّل أهمية بالغة لكي يكون للفن مسار صحيح.
يعتقد حنوش أن النظرية يجب أن تسبق التطبيق. ففي لوحات المعرض، وإن تباينت في الأحجام، عالم متكامل من الرؤى والألوان والأشكال الهندسية والهيئات البشرية غائبة الملامح، ومجسّمات وتشكيلات بشرية ونباتية وأشياء متناثرة؛ كلها تشكِّل صُلب اللوحة وتتخطاها إلى أفق فهم أوسع من مجرد عرض محدد لواقع معين. وهذا المزيج المختلف من الأشكال والألوان يمنح اللوحة هالة مغايرة للعب على الوجود أو عدمه.
يجب ألا ننسى أيضًا علاقة التشابك المتينة في عوالم حنوش ما بين فضاءات الليالي العربية، وهو القادم من بغداد المدينة الأبرز في “ألف ليلة وليلة” وصداها في المدن الأندلسية كإشبيلية وغرناطة، مما يخلق صورة مشتركة ما بين مدينة الذاكرة والمدن الحاضرة. وهي صورة تقارب وتعدد، وليست صورة تجسيد ونسخ مطابق للصورة المشرقية عن شهرزاد.
وعبر المكان يسعى الفنَّان إلى تجسيد علاقته بالبشر وتفاصيلهم اليومية. وإن كان ذلك يظهر على سطح اللوحة بصورة عفوية، لأن الأساس لديه هو اللون وتموجاته وقوة الحركة الخطية، لذلك فحضور الأجسام والمجسدات لديه أشبه بالرؤى الصوفية.
تستلهم رسوم حنوش في معرضه الأخير من أجواء وعوالم الأثر الأدبي المشرقي المعروف، خاصة تلك التي لها علاقة مباشرة مع البشر ومع التجوال الروحي للنفس في دواخلها الدفينة؛ لكنها تسعى إلى إعادة الاعتبار لمضمون اللون والحركة في اللوحة الفنية من دون الإخلال بعلاقته مع الواقع المتجذر للفرد في مجتمعه. إنها نقلة متميزة لتقديم المشهد ضمن حيزه الشعري، وكذلك لإيجاد أدوات ممكنة لاستيعاب الأبعاد البشرية في حراكها الدائم ومعاركها الروحية الصاخبة. وهو ما جعل هذه اللوحات تنتقل بنا من ساحل الرؤية الواحدة إلى سواحل الرؤى متعددة الأشكال والغايات والصور النفسية للبشر في عصرنا الحالي. وهذا الانفتاح على الشعري والخيالي هو ما جعل هذه الرؤية المعاصرة لأثر أدبي عالمي، تُضاف إلى كل تلك الرؤى السابقة، وتُضيف إليها النظرة الخاصة للفنَّان ما بين استنطاقه لجذوره المشرقية المُتّقدة وحياته اليومية الغربية. لا تنحاز رؤية حنوش إلى جهة، بقدر ما تُؤسّس لكيانها حيزًا مشتركًا ومُغايرًا.
ويبدو حنوش مستريحًا إلى تفاعل الجمهور والنقاد الإسبان مع معرضه، ويرى أن مشروعه مع “ألف ليلة وليلة” لم ينتهِ: “لم يزل لديّ ما أضيفه في هذا المشروع؛ فالليالي غنية بالفنتازيا والحب والحكمة. وهي موجودة في التصور الخيالي لكل أوروبا”.
اترك تعليقاً