كنتُ أمشّط شعرها وأسافر بذاكرتي إلى العمر الذي كانت تمشّط شعري فيه.. ومن هنا بدأتُ أتحسَّس ملامح الأمومة.. الرعاية.. الاحتواء… سنوات مضت عانقتُ فيها ذكريات الماضي، وأدركتُ فيها كم كانت أمي عظيمة مقام وسيدة موقف وصانعة جيل.
كم كانت حانية حتى في شدتها ومواضع غضبها.. كم كانت رحيمة حين تُخفي وجعها وتتظاهر بالراحة مقابل أن أنام على فراشي بعد عناء حمى أو وجع ضرس.
وحتى موعد سفرها الأخير – دون عودة -لم أجد مفردة تتسع لتشملها أو تشير إلى مرارة فقدي لها.
فلا المشط، ولا الملفع، ولا رائحة الحِناءِ، ولا مفرق الزعفران قادرون على شيء سوى إعادة طيفها العابـر للحظـات تغمـرُ عينيّ بالدموع ..
واليوم وجدتُ نفسي مجبرة على استعارة رئة جديدة للشعر كي أتنفَّس في حضن أمي لعلّ رئتي تنتعشُ من جديد .
قد أرضعتني الحبّ وهي المنبعُ
العاشقون جروا بها وتفرّعوا
أمي التي شقّت جيوبَ سحابها
فتدفّقَ الماءُ الذي يتوزّعُ
أمي لها عينان تعصرُ عالماً
قد مخضّتهُ إلى الحياةِ الأدمعُ
فإذا بها الجنّاتُ تلثمُ خطوها
ليضجّ من عطرِ الجنانِ الملفعُ
الزعفران سرى بمفرقِ رأسها
نارٌ على لونِ البياضِ ستلمعُ
والمبخرُ الخشبيُّ يسرقُ (نفْحةً)
من أجلِ أن يعلو بها يتضوّعُ
ومواسمُ الحناءِ تنقُشُ كفّها
وشماً بذاكرةِ الحنينِ سيقبعُ
هل “ديرمٌ “هذا الذي رسَمتْ به
شفتيْها أمْ شمسٌ بنا تتصدّعُ؟
أمي مواويلُ الحنين تعيدُها
طوراً عراقياً صداهُ مرجّعُ
كانت تسافرُ في المواجعِ خِلسةً
دربٌ يئنُّ، ملامحٌ تتضرّعُ
وتحجُّ سُبحتها لكعبةِ قلبها
ولها معَ الألطافِ دوماً موضعُ
قد تنحني كالقوسِ قامتُها التي
ستشدُّ أوتار الحياةِ وتدفعُ
وتظلُّ تأسرها الأمومةُ كِلْمةً
كالقلبِ تأسرهُ لديها الأضلُعُ !
حتّى إذا اشتدّ النزالُ ملوّحاً
بالموتِ تحترفُ الحياةَ وترجعُ
هيَ (وحّدتنا) كالصلاةِ فريضةً
نحوَ العروجِ وفي مداها نركعُ..
تهاني حسن عبدالمحسن الصبيح
مواليد مدينة الخبر 1975م
أديبة (كاتبة وشاعرة)
عضو مجلس إدارة سابق بنادي الأحساء الأدبي
صدر لها:
وجوه بلا هوية (رواية)
فسائل (ديوان شعر)
فازت بالمركز الثاني بمسابقة السفير حسن عبدالله قرشي في مصر
شاركت في أمسيات شعرية داخل المملكة وخارجها وكان آخرها مهرجان الشارقة للشعر العربي بدولة الإمارات العربية المتحدة 2019م
ومهرجان الرمثا للشعر العربي بالمملكة الأردنية الهاشمية 2019م
اترك تعليقاً