هاجس الخوف من انقراض الأنواع قديم جداً. فالبشر يسعون إلى حفظ التنوّع البيولوجي للأنواع والنُّظُم البيئية التي يعتمدون عليها في الحصول على الغذاء والأكسجين. وبعدما كان حفظ البذور منذ آلاف السنين حُلماً، حَوّلت حضارتنا الحاليّة الحُلم إلى حقيقة. فاليومَ، توجد بنوك للبذور هدفها الحفاظ على التنوّع البيولوجي الجيني لضمان الأمن الغذائي للأجيال المقبلة. وتخزن هذه البنوك بذور النباتات القابلة للعيش، حتى إذا ما انقرض نوعها في مواطنه الطبيعية، أمكن إعادة زرعه. فبعدما كانت هذه المواطن الطبيعية في الماضي معرّضة لكثير من المخاطر، فإن البشر أضافوا خطراً رئيساً، ألا وهو تأثيرهم في النُّظُم البيئية. ولذا، صارت مهمة حفظ الأنواع اليوم، أكثر إلحاحاً من ذي قبل.
يكمن واحد من أبرز الدوافع إلى حفظ البذور في التآكل الجيني. ويحدث هذا التآكل لأن البشر لا يزرعون إلا أنواع الغلال التي تغلّ أكثر والتي تتناسب بشكل أفضل مع الظروف المناخية. وفي دنيانا المعولَمة، صارت النباتات المستَولَدَة تنافس السلالات النباتية المحلية، على نحو يتّجه نحو انقراض هذه الأخيرة. ويؤدي هذا إلى زوال التنوُّع الجيني، حين تنقرض السلالات التي لا تُزرَع، فتضيع سماتها المميّزة إلى الأبد. غير أننا نحتاج إلى التنوّع الجيني في الأنواع النباتية نفسها، من أجل أن نتمكّن من مزاوجتها وتخليق أنواع أكثر تناغماً مع التغيُّر المناخي، وأقوى في مقاومة الأمراض الناشئة، والجفاف، والفيضان، وذات قيمة غذائية أفضل. لذلك، ثمَّة ضرورة كبيرة لحفظ تنوّع المزايا المختلفة التي نجدها في النوع نفسه.
ويتفاقم الانقراض الجيني لكوننا الآن نعيش في عصر الانقراض الجماعي السادس المسمّى انقراض عصر الهولوسين البشري (Anthropocene extinction)، وقد سمّي كذلك لأننا نحن البشر نسبب هذه الكارثة العالمية. فقد جاء في تقرير صدر عام 2019م عن “خدمات هيئة الأمم المتحدة المتعدّدة الحكومات الخاص بالسياسة العلمية في التنوّع البيولوجي” أن ما يصل إلى مليون نوع بيولوجي قد ينقرض بسبب النشاط البشري. فالتبدّل المناخي، والتلوّث، وإزالة الأحراج، وقتل الأنواع المهدّدة بالانقراض، والصيد الجائر، تسهم جميعها في هذه المشكلة البيئية الخطيرة. وكذلك تسهم الزراعة بكثافة في اجتياح النظم البيئية، إذ إن %33 من مساحة الكرة الأرضيّة و%75 من مصادر المياه العذبة تُستخدَم في إنتاج الطعام. والانقراض الجماعي يهدِّد حتى النباتات المزروعة والحيوانات، على نحو قد يُحدث أزمات أمن غذائي، ومشكلات صحيّة للبشر، وتدهور جودة العيش. ولذا، فإن عناصر تحسين الإنتاج المستدام للطعام أصبحت ضرورية لتخفيف ضرر الزراعة في النظم البيئية. وبنوك البذور حاجة مُلِحَّة لتحقيق هذا التحسين.
إن قبو سفالبارد العالمي للبذور وبنوك البذور الأخرى في أنحاء العالم، توفر الوسائل لحفظ أحد أنفس الموارد الطبيعيّة التي تعرفها البشريّة. فحفظ تنوّع المحاصيل البيولوجي ضرورة وحاجة ماسّة لبقاء جنسنا البشري على هذا الكوكب، في ظروف التغيّر المناخي وتكاثر التعداد السكّاني في العالم. وفي عالمنا المعاصر ثمَّة مخاطر وجودية كثيرة على كلٍّ من الأنواع على حدة، ولمجمل النظم البيئيّة الشاملة.
تاريخ بنوك البذور العالميّة
ومعاناتها من ويلات الحروب
تعود فكرة حفظ البذور من أجل حماية التنوُّع البيولوجي الجيني لعالِم الجينات الروسي نيكولاي فافيلوف (1887 – 1943م). وقد نظّم فافيلوف نحو 180 بعثة نباتية إلى خمس قارات من أجل جمع البذور. وأدت هذه البعثات إلى إنشاء أول بنك بذور في العالم. وقد قام على أرض معهد لينينغراد لأبحاث الصناعة الزراعيّة (وهو يُدعى اليوم معهد ن. إ. فافيلوف الروسي للموارد الجينيّة النباتية، سان بطرسبرغ). وفي عام 1940م، كانت مجموعة هذا المعهد تضم نحو 250 ألف عيّنة.
وتتجلّى أهمّية هذا العمل في القصة الحقيقية التي تُروى عن إخلاص فريق المعهد لقضيّة حفظ البذور. ففي أثناء حصار لينينغراد في الحرب العالمية الثانية، فضّل فريق العمل الموت جوعاً على أكل البذور المحفوظة في بنك المعهد، فمات بذلك 28 من أعضاء هذا الفريق.
واليوم، هناك أكثر من 1700 بنك بذور في العالم. وتلعب هذه البنوك دور الأرشيف الجيني، حيث يمكن خزن جينات النباتات بطريقة مُحكَمة، وبأقل قدر من الصيانة. إن أفضل طريقة معروفة لحفظ البذور حفظاً طويل الأمد، هو تجميدها وخزنها في ظروف جافة وباردة في بنوك البذور. فبهذه الطريقة، لا حاجة إلى الغرس، وبذلك يتقلّص مقدار العمل المطلوب لحفظ الأنواع. فالبذور المتجمّدة تبقى ألوف السنين. وبنوك البذور هي نوع من الحفظ خارج الموطن الطبيعي للتنوّع البيولوجي، في مقابل الحفظ في الموطن الطبيعي، الذي يستلزم حماية نظام بيئي كامل، وحماية مواطن طبيعيّة بكل ما تحتويه من تنوّع بيولوجي في داخلها، وهذا يستدعي جهوداً جبّارة تتطلب بدورها نظماً تشريعيّة عديدة.
ومن المؤسسات المهمة التي تُعنى بحفظ البذور في البلدان النامية وبلدان الشرق الأوسط “المركز الدولي للبحوث الزراعية في المناطق الجافة” أو (إيكاردا)، الذي يشمل بنكاً جينياً دولياً يحتفظ بالبذور نيابة عن البلدان الجافة في العالم، ومركزه في الشرق الأوسط هو في مدينة حلب السورية. وتم تنظيم المركز من خلال البنك الدولي وبتمويل من جهات مانحة دولية منها المجموعة الدولية الاستشارية للأبحاث الزراعية (CGIAR)، التي هي مؤسسة دولية غير ساعية للربح. ويحتفظ هذا البنك بعينات لنحو 131000 بذرة فردية للنباتات التي تشكِّل جزءاً من النظام الغذائي لمليار شخص يعيشون في وسط وغرب آسيا وشمال إفريقيا. وتشمل البذور أنواعاً مختلفة من الشعير والفاصوليا والحمص والعدس وغيرها.. مصنّفة ومخزّنة في عبوات بلاستيكية محكمة الغلق داخل أقبية مبردة عملاقة.
وكمثال على أهمية بنوك البذور، وإيكاردا بشكل خاص، نشير إلى أن من مهماتها تعويض الضرر بالتنوّع البيولوجي الذي تسببه الحروب والنزاعات المسلحة كما تبيَّن أخيراً من تدمير بعض بنوك البذور في الشرق الأوسط وآسيا.
ففي عام 2002م، خلال الحرب في أفغانستان، دُمّر البنك الوطني للبذور في كابول ونُهِب. وتقول مجلة نيتشر، 1 يونيو 2005م في تقرير لها إن المحاربين أخذوا الزجاجات البلاستيكية الفارغة، لاستعمالها في أغراضٍ أخرى، وتركوا البذور منثورة وراءهم. ولاحقاً، تمت الاستعانة بإيكاردا للتعويض عن ذلك.
وفي عام 2003م، دمَّرت الفصائل المتحاربة بنك البذور الوطني في العراق. لكن حصافة بعض العلماء قبل وقوع الحرب بقليل، أنقذت مخزون البذور في البلاد من خلال إرسال “صندوق أسود” عبر الحدود إلى مركز إيكاردا في حلب يحتوي على نسخ منها. وكان هذا الإجراء في الوقت المناسب، إذ تعرَّض بنك البذور العراقي في ضاحية أبو غريب ببغداد للنهب والتدمير أثناء الحرب. وقد ساعدت إيكاردا باستخدامها محتويات الصندوق في تجديد الزراعة العراقية.
وفي عامي 2015 و2016م، دُمّر مركز إيكاردا في حلب وتم نقله إلى بيروت مؤقتاً. فتم لاحقاً الاستعانة بقبو البذور الدولي في النروج للتعويض عن هذه الخسائر، قبل العودة إلى ترميم المركز في حلب.
قبو سفالبارد الدولي للبذور
قبو سفالبارد العالمي للبذور (Svalbard Global Seed Vault) هو هديّة النروج للعالم. فهذا القبو هو مؤسسة تخزين للبذور المجمَّعة من كل أنحاء الأرض، وهو يحتوي على تاريخ زراعي عمره 13,000 سنة. ويقع في أرخبيل سفالبارد بالقرب من مدينة لونغْيِربْيِن على مسافة نحو ألف كيلومتر من القطب الشمالي.
بدأ بناء القبو عام 2006م، واكتمل بعد عامين. وبلغت تكلفته 9 ملايين دولار أمريكي. وعديد من المنظمات غير الساعية للربح تدعم القبو. فمؤسسة “Crop Trust” (المؤسسة الائتمانيّة للمحاصيل)، التي هي مؤسسة دولية غير ساعية للربح، تشكّلت بشراكة بين منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (FAO) والمجموعة الدولية الاستشارية للأبحاث الزراعيّة (CGIAR)، توفّر التمويل لنقل البذور من البلاد النامية. ويدير العمل “المركز النروجي للموارد الوراثية” (نوردجين)، الذي يصنّف ويبوّب العيّنات في قاعدة معلومات عامة على الشبكة الدولية.
وقبو سفالبارد هو عبارة عن نفق في جبل. يبلغ طوله 120 متراً، له مدخل واحد يقود إلى ثلاثة أقبية منفصلة. ويحتوي المدخل على معدّات السلامة (معاطف وخوذات للحماية من الثلج المتساقط من السقف) ونفق طويل يفضي إلى الغرفة الرئيسة. ويكوّن النفق والغرفة الرئيسة قسم الجَمَد السرمدي (الدائم التجمّد)، حيث الحرارة الطبيعية تبلغ نحو 5 درجات مئوية تحت الصفر. وتتسع الأقبية الثلاثة في الغرفة الرئيسة لخزن كل بذور المحاصيل من كل بنوك البذور في العالم. وحتى الآن، استُخدِم واحد فقط من هذه الأقبية. وفي داخله، توجد رفوف عليها أقفاص، وداخل الأقفاص صناديق رقائق ألومنيوم مليئة بالبذور. وأما سعة القبو الإجمالية فتبلغ 4.5 مليون عيّنة بذور، وفي كل عيّنة نحو 500 بذرة، أي ما مجموعه حوالي 2.5 مليار بذرة. وتظل الحرارة في هذا المكان ثابتة بنظام التبريد عند 18 درجة مئوية تحت الصفر، وهي المعيار الدولي لحفظ البذور لأمد طويل. وحتى لو انقطع التيار الكهربائي في المنظومة، تبقى الحرارة باردة بفضل الجَمَد السرمدي. ويمكن للبذور أن تظل سليمة 30 عاماً من دون تيار كهربائي للتبريد الاصطناعي، وقروناً عديدة بنظام التبريد. وفي ما يتعلّق بالسلامة، فثمَّة عدسات وحسّاسات في أنحاء الأقبية وتفصل عدة أبواب موصدة الأقسام بعضها عن بعض في القبو. والموقع البعيد الذي تقع فيه المؤسّسة هو عنصر سلامة أيضاً: فعلى الجزيرة من الدببة القطبيّة أكثر مما عليها من البشر لحراسة المكان من الدخيل غير المرغوب فيه.
إن غرض قبو سفالبارد العالمي للبذور هو حفظ التنوّع الجيني للمحاصيل. وهو لا يحتوي فقط على النسخ المعروفة جيداً للمحاصيل المدجّنة، بل كذلك أنسبائها البرية. مثال على هذا: هناك 70,000 عيّنة مختلفة من الشعير، و150,000 من الأرزّ، و140,000 من القمح، مخزونة في القبو. والأقفاص تأتي من كل أنحاء العالم. فالعُلَب الآتية من روسيا مكدّسة بجانب العلب الأوكرانية، وتلك الآتية من كورية الشماليّة لا تبعد عن الآتية من الولايات المتّحدة الأمريكية. فليس في القبو مكان للنزاع الدولي.
إن ما يجعل قبو سفالبارد العالمي للبذور فريداً في نوعه أنه يحتوي على كل ما تحتويه بنوك البذور الأخرى في العالم في نسخة ثانية. ولا تدّعي إدارة القبو امتلاكها للبذور التي منحتها إياها حكومات ومؤسسات. بل إن الهيئات المانحة للبذور هي التي تملكها، ويمكنها استرداد ودائعها في أي وقت تراه. ولم يحصل هذا حتى الآن سوى مرّة واحدة. فبعد تعذّر الوصول إلى بنك البذور في حلب، على ما أسلفنا، استردّ المركز الرئيس الدولي للأبحاث الزراعية في المناطق الجافة بعض العيّنات من العدس والقمح والحِمَّص والبذور الأخرى من القبو عام 2015م، من أجل استعادة أعمالهم في مراكزهم الجديدة في المغرب ولبنان. ولو كانت هذه البذور غير محفوظة في نسخة ثانية في القبو لأمكن أن تضيع إلى الأبد.
إن قبو سفالبارد العالمي للبذور وبنوك البذور الأخرى في أنحاء العالم، توفر الوسائل لحفظ أحد أنفس الموارد الطبيعية التي تعرفها البشرية. فحفظ تنوُّع المحاصيل البيولوجي ضرورة وحاجة ماسّة لبقاء جنسنا البشري على هذا الكوكب، في ظروف التغيّر المناخي وتكاثر التعداد السكّاني في العالم. وفي عالمنا المعاصر ثمَّة مخاطر وجودية كثيرة على كلٍ من الأنواع على حدة، ولمجمل النظم البيئية الشاملة.
حفظ البذور في المملكة
في عام 2005م، وضعت الهيئة السعوديّة لحماية الحياة الفطرية وإنمائها (تغيَّر اسمها إلى المركز الوطني لتنمية الحياة الفطرية) “الاستراتيجية الوطنية للمحافظة على التنوُّع الأحيائي في المملكة العربيّة السعودية”، ومما جاء فيها:
“من المتفق عليه أن ثمَّة حاجة ماسة للمحافظة على سلامة الموارد الوراثية النباتية والحيوانية، ومن بين التقنيات والإمكانات المستخدمة للمحافظة خارج الموقع: إنشاء بنوك الوحدات الوراثية التي تشمل، بنوك البذور، والبنوك الحقلية الحية (الحدائق النباتية)، وبنوك الأجنة وبنوك الحيوانات المنوية، وبنوك البويضات… فمن المهم أن يكون بنك الموروثات في بلد المنشأ، حيث يمكن حفظ الموارد الوراثية المحلية”.
فالمملكة موطنٌ لكثير من المحاصيل المهمّة والمعروفة شعبيّاً، مثل السرغوم والشعير والسمسم والبُن وكثير غيرها. ولحفظ مورّثات التنوّع الأحيائي النباتي في المملكة، افتتح بنك الأصول الوراثية النباتية بالمركز الوطني لبحوث الزراعة والثروة الحيوانية في الرياض عام 2012م، والذي يهدف إلى جمع وحفظ وصيانة المصادر الوراثية النباتية في المملكة العربية السعودية خاصة المهددة منها بالانقراض، وخزن مورثاتها الجينيّة للأجيال المقبلة، من أجل تطوير تنويعات جديدة من الأنواع الموجودة. ويحتوي البنك أيضاً على معشبة وطنية تضم 20000 عينة نباتية تُعدُّ من أكبر المعشبات في العالم العربي. وإنشاء بنوك المورثات الجينيّة هذه خطوة مهمّة في سبيل تحقيق الأمن الغذائي الوطني والاكتفاء الذاتي، خاصة في ظل ظروف بيئية قد تؤثر على المحاصيل مستقبلاً. ومن الجدير ذكره أن كثيراً من بذور المحاصيل الغذائية المهمة المخزونة في هذه البنوك، لها نسخٌ مماثلة في قبو سفالبارد العالمي للبذور.
نرجو من ادارة القافلة المبادرة لانشاء بنك البذور السعودي لجميع النباتات وخصوصاً البذور البرية و المائية.