البدر والرثاء مُفردتان يصعب الجمع بينهما في المعنى، فالأولى منهما ترتبط في الذهن بحالة كمال وأوج وحضور وتألق، بينما الثانية أقرب إلى الخفوت والاندثار والغياب؛ وكم يغدو هذا الجمع المعنوي أشد صعوبة حين يكون “البدر” اسمَ علم لشخصية بمكانة وتأثير سمو الأمير بدر بن عبدالمحسن، رحمه الله، الذي خيَّم نبأ رحيله الحزين على أجواء المشهد الثقافي السعودي، وما جاوره في الأيام الماضية.
كان لـ “البدر” نصيب وافر من اسمه، فكان له حضور بهي في عالم الشعر والأغنية العربية. وقد صنع الأمير الراحل نجاحه ضمن المعادلة الصعبة، فاختار لونًا ثقافيًا يقترب من روح الجمهور، لكنَّه حلَّق به في فضاءات أوسع من الإبداع، فغنَّى صوته الخاص ورسم صورته غير المستنسخة، وتقمَّص روح الحداثة، لكن دون أن ينقطع عن جوهر ذاته الشعرية وجذورها. ولعل هذه الحيــاة التي نفخها في نتاجه الثقافي هي التي ضمنت له شعبية واسعة، أسهم فيها ما تحلَّى به الرجل من صدق إنساني يتلمسه القريب ويستشفه البعيد.
وما عسى أن يُقال في مقام رثاء شاعر تُردد حروفه الحناجر والقلوب، سوى أن نبعث إليه بتحية وداع في هذا العدد، نقتبس منها هذه العبارة المعبِّرة للدكتور سلطان العميمي حيث يقول: “الحديث عن البدر، لا نهاية له، والحزن الكبير الذي حل برحيله يجعل من الكتابة عنه محاولة للتكفير عن الشعور بالتقصير تجاه إنصاف تجربة شعرية وإنسانية عظيمة، يندر أن يجود الزمان بمثلها”.
الحياة التي أودعها البدر في شعره لتبقى بعده طويلًا، نجدها تدبّ شيئًا فشيئًا في مجال ثقافي آخر هو السينما السعودية، التي يُشبه واقعها الراهن حلمًا لم نستفق منه بعد. فبعد غياب دُور عرض الأفلام عن المشهد الثقافي المحلي لعقود، جاء قرار الموافقة على إصدار تراخيص لها في ديسمبر 2017م ليكون منطلقًا جديدًا في سباق تحتاج فيه السينما السعودية إلى قطع شوط طويل ضمن زمن قصير كي تلحق بالركب السابق عربيًا وإقليميًا وعالميًا.
من البداهة أن الحراك السعودي في مضمار السينما كان سابقًا لذلك القرار، لكنه كان قائمًا في أغلبه على جهود ومبادرات محدودة وغير منتظمة. وقد كانت تلك الخطوة التي انبثقت من ضوء الرؤية الوطنية مفصلية وحاسمة في الأخذ بالسينما السعودية إلى مرحلة جديدة، بما يُشبه التحوُّل من تلمس الطريق في ضوء شمعة إلى السير حثيثًا في وضح النهار.
ما بين عامي 2019 و2022م، شهد الحراك السينمائي المحلي قفزة ملحوظة، فوفقًا لتقرير الحالة الثقافية الصادر عن وزارة الثقافة، تضاعفت أعداد صالات السينما التجارية عدة مرات، كما ارتفع مجموع مبيعات التذاكر من نحو 500 ألف إلى أكثر من 14 مليون تذكرة، والإيرادات من 442 مليونًا إلى نحو 908 ملايين ريال سعودي. وعمومًا، يبدو المشهد السينمائي السعودي اليوم أكبر تكاملًا في أركانه، فتُسهم جهات مختلفة في الدفع بعجلة صناعة السينما في ضوء المسار الذي ترسمه وتشرف عليه وزارة الثقافة. وإضافة إلى الجانب التنظيمي الإشرافي الذي ينهض بدوره في خلق بيئة التمكين لهذه الصناعة، لا ننسى برامج التمويل التي تضخ دماءها في السينما المحلية عبر ستة برامج “شريانية” رئيسة على الأقل. وعلى سبيل المثال لا الحصر، حظيت السينما بالنسبة الأكبر من دعم الصندوق الثقافي في 2022م.
وعودًا بما تحقق اليوم إلى جذوته الأولى، لا بد للمشهد السينمائي السعودي من الإقرار بالفضل للمبادرات الرائدة التي رافقت تلك البدايات الصعبة؛ ومن ضمنها مهرجان أفلام السعودية، الذي يُصنف بين أهم مهرجانات السينما محليًا. هذا المهرجان احتفى توًّا بنسخته العاشرة، وقد آثرت القافلة أن تحتفي به في هذا العدد بوصفه أحد محفزات الإنجاز في المجال السينمائي السعودي.
لا تزال الطريق أمام السينما السعودية محفوفة بالتحديات، ومن ضمنها تحدي اجتذاب الجمهور المحلي، لا سيما أن شريحة منه تضع معاييرها الحاكمة وفقًا لتجربة مشاهدة قد تتجاوز بفارق العمر الحالي للتجربة المحلية. وهناك أيضًا الموازنة بين جانب الكم الضروري لازدهار السوق اقتصاديًا، وبين جانب الكيف الذي يسمو بالإنتاج السينمائي ويفعّل قدرته الكامنة على التأثير بوصفه قوة ناعمة تُبرز مكانة المملكة عالميًا. ولا شك أن توفر الطاقة البشرية الخلّاقة والمؤهلة والمتفرغة أمر ضروري لتنمية هذا القطاع.
وإلى جانب مهرجان أفلام السعودية، يناقش هذا العدد أيضًا قضية “الاتزان الرقمي”، وهي مسألة تكاد تمسّنا جميعًا دون استثناء. فمقابل الحديقة الغنَّاء من الفرص والفوائد التي باتت تغرينا بها التقنية الرقمية، هناك سيل جارف من المخاطر المحدقة التي تتخطف ضحاياها بلا هوادة. والاتزان في التفاعل مع هذه التقنية هو الحالة الوسطى التي يُؤمل منها أن تكون المنجى من الطوفان.
اترك تعليقاً