يعيش الناس عالماً أصبحت أنماط الحياة فيه متحرِّكة أكثر مما اعتادوا عليها في ما مضى. كما أنهم ينزحون عن الأماكن التي عاشوا فيها لقرون، وينتقلون إلى مدن تتوفر فيها شروط حياة أفضل. وفي هذا الصدد، تشير بيانات “منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية”، إلى أنه بحلول عام 2050م، سيعيش %70 من سكان العالم في المدن.
وهكذا فإننا نتجه إلى نمط حياة شديد الحركة، لكنه يتركَّز في أماكن ثابتة هي المدن؛ وهذا ينذر بمشكلات اجتماعية وصحيــة وبيئية خطيـــرة. إننا بحاجــة إلى خيال علمي مبدع لحل هذه المشكلات الخطيرة.
هذا بالفعل ما لاحظته “لجنة المدن الذكية والتّنقل الحضري” في منظمة “الحكومات المحلية والمدن المتحدة – فرع الشرق الأوسط وغرب آسيا”، واقترحت باكراً حلولاً استشرافية مبتكرة في مجال الهندسة المعمارية، معتمدة في هذا المجال على مجموعة “أركيغرام” من خلال تصميماتها للمدن المتحرّكة.
تأسست “أركيغرام” عام 1961م، على أيدي مجموعة من المهندسين المعماريين العالميين، من بينهم وارن تشالك، بيتر كوك، دينيس برومبتون، ديفيد غرين، مايكل ويب، وروُن هيرون. واشتهر هؤلاء بتصميماتهم المتمحورة حول الناس قبل أي شيء آخر. وأرادوا تصميم هياكل تتغيَّر مع سكانها بدلاً من البقاء ثابتة؛ مثل “المدن التي تمشي”، والحجرة الحية”.
إن تخطيط المدن القديم لم يعد يتلاءم مع هيمنة التكنولوجيا النقَّالة في عالم اليوم.
تصميم المدن المتحرِّكة
يتم التخلِّي في المدن المتحرِّكة عن الحدود الثابتة التقليدية لصالح نمط حياة “متجول” أو “متنقّل” بين مجموعات من النّاس في جميع أنحاء العالم. وهي تستوحي أيضاً القصص العلمية الخيالية لعاصمة عالمية قادرة أن تكون في أي مكان في العالم وفي أي وقت. تصوّر كذلك “أركيغرام” حفلات للمباني المتجوّلة التي تسافر في البحر والبرّ.
وهكذا، فإن المدن المتحرِّكة تمثّل نمط الحياة الحضرية السريع لمجتمع متقدِّم تقنياً لا يحتاج المرء فيه إلى مكان دائم. وكأنها استشرفت باكراً، وبشكل عبقري، ظاهرة شاعت بشكل متزايد في العقد الثاني من الألفية هي “التجول الرقمي”. حيث يعمل عشرات ملايين التقنيين، من ذوي الاختصاصات العالية، خارج أمكنة العمل التقليدية، ويتنقلون عبر أنحاء العالم، وأعدادهم تتزايد باستمرار.
تعتمد هذه المدن على هياكل لتوصيلها بالمرافق وشبكات المعلومات في المواقع المختلفة التي تخطِّط للتحرك إليها، ولدعم احتياجات ورغبات الأشخاص الذين يعملون ويلهون ويسافرون ويبقون داخلها في الوقت نفسه. وتحتوي هذه المركبات على جميع العناصر التي سنجدها في مدينة تعمل: حي للأعمال والمكاتب وآخر للسكن ومرافق للخدمات العامّة والخاصّة.
يشكِّل هذا الوجود المتجول فضاءً عالمياً مشتركاً لتلاقي الحضارات والثقافات والتقاليد المختلفة التي تمهِّد، ربما، لعولمة إنسانية، شبيهة بالفضاءات العامة التي تكلم عنها الفيلسوف الألماني المعاصر يورغن هابرماس، والتي مهَّدت لحضارة الحداثة، التي يعتقد البعض أننا نشهد نهاياتها.
تصاميم رون هيرون ومانويل دومينغيز
يُعدُ تصميم المدينة المتحرِّكة لرون هيرون واحداً من التصميمات الأشهر منذ ستينيات القرن العشرين، وقد كان مؤثّراً في النظرية المعمارية بشكل عام منذ ذلك الحين. “بدلاً من خلق مرونة في محتويات المدينة فقط، لماذا لا تُمنح المدينة نفسها القدرة على التنقل؟” قال هيرون عندما طرح في عام 1964م فكرة المدينة المتحرِّكة، ورسومه لهذا الإبداع موجودة في فِلْم خيال علمي، وهي تصوّر مدناً مصنوعة من حاويات بيضاوية متعدِّدة الطوابق ومرتفعة على أرجل تشبه الركائز.
وتقوم رؤية هيرون للمدينة المتحركة على تمكينها من الانتقال إلى منطقة بعيدة وريفيّة، حيث يمكنها أن تشكِّل مجتمعات أكبر.
“الموقع الموقع الموقع”، يكرِّر هيرون “لأنه يتم تحديد حياتنا وفق المكان بطرق عديدة، وهذا صحيح في جوهره، الأماكن التي نعيش فيها والأماكن التي نختار أن ننتقل للعيش فيها”.
أما تصميم المهندس مانويل دومينغيز “الهيكل الضّخم للغاية”، فهو نتيجة لمشروع أطروحته في “الكلية التقنية العالية للهندسة المعمارية” في مدريد عام 2013م، ويقترح فيه مدينة “متجولة” أو “متحرّكة” يمكنها الانتقال على مسارات جرارة إلى مواقع تتوافر فيها موارد ومواد ضرورية. إن هذا التصميم، في الواقع، هو تطوير إضافي للمدينة التي تمشي، من تصميم هيرون، ويتضمَّن مقترحات قوية لتوليد الطاقة على متن المدينة.
يعترف دومينغز بأن الدّافع لتصميم هذا الهيكل جاء من رغبته في التّميز عن نظرائه: “مع العلم أن جميع الأطروحات النهائية هي طوباوية، قرّرت أن أقوم بفكرة ذاتية مثالية، لكن مثالية يمكن تحقيقها”. ومع ذلك، شعر دومينغز أيضاً أنه من المهم أن يكون تصميمه ممكناً من الناحية النظرية والعملية، وهذا هو السبب في أنه تطلَّــع إلى عالـم الهندســة الثقيلة لاستلهام الهيكل الصلب ومسارات الجرار الضخم. وعلى الرغم من كل هذه الإضافات، يبدو تصميم دومينغز أقل خيالاً من هيكل هيرون العملاق على ركائز.
إضافة إلى توليد للطاقة، تحتوي هذه المدينة على برج تجاري، وغابات، ومطبخ شمسي، ومشاتل، ومختبرات. كما تحتوي على منشآت للتّخلص من النّفايات، وخزّانات للمياه وغيرها من المراكز والأبراج الأساسية التي تحتاج إليها أي مدينة حيوية.
إن لكل مدينة طابعها، ليس فقط من حيث الشكل والتخطيط والعمارة وتوزيع فراغاتها العامة، بل أيضاً من الطاقة التي يتمتع بها السكان. ومن الأمور التي يجب أن تحظى باهتمام كبير لدى مخططي المدن وحكوماتها المحلية هي حركة الأفراد ومعالجة هواجسهم. فالسكان هم في النهاية من يشكِّل المدينة. وبما أن قسماً كبيراً من سكان الكرة الأرضية يعيشون على السواحل، فإن هواجسهم الرئيسة، إضافة إلى الاستدامة الاقتصادية والبيئيّة والاجتماعيّة، هي معالجة مسألة ارتفاع مستوى البحار والمحيطات. لهذا قد تصبح المدن المتحرِّكة ضرورة مستقبلية مُلِحَّة، وليس فقط قصصاً جميلة من الخيال العلمي.
اترك تعليقاً