من مدينة بابل التاريخية، إلى أثينا في أوج الحضارة الإغريقية، إلى فلورنسا أيام عصر النهضة، إلى فيينا وباريس نهاية القرن التاسع عشر، ونيويورك ما بعد الحرب العالمية الثانية، لطالما كانت المدن على مر التاريخ هي الأماكن الحقيقية للإبداع. فقد اختبرت مثل هذه المدن ازدهار العبقرية في مجالات متعدِّدة، لأنها كانت تتميز بتنوّع سكانها وشبكاتها الاجتماعية المتداخلة، وأماكنها العامة التي كانت منصة محورية للثقافة وتحديد الهوية، حيث كان يمكن للناس أن يجتمعوا بشكل عفوي ودائم. وكل ذلك سمح بتوليد الأفكار الجديدة المبتكرة، التي أتيح لها أن تتحقَّق بفضل بنية تلك المدن التحتية فيما يختص بالتمويل والتنظيم والنقل والتجارة.
على الرغم من أننا نحب جميعاً قصة العالِم الإغريقي أرخميدس، الذي راح يركض في شوارع مدينة سيراكيوز في جزيرة صقلية الإيطالية وهو يهتف “يوريكا.. يوريكا”، بمعنى: “وجدتها.. وجدتها”، بعد اكتشافه لقانون الأجسام التي تطفو على الماء بينما كان مستلقياً في حوض الحمام، إلا أن التاريخ يخبرنا، وكذلك البحث العلمي، أنه نادراً ما تكون الاكتشافات العبقرية وليدة عمل فردي أو نتيجة فكرة تبرق في لحظة عابرة. ففي معظم الأحيان يكون الابتكار ثمرة أشهر وسنوات وعقود من العمل الشاق والبحث المضني، وفي كثير من الأحيان، يكون الاختراع نتيجة الاحتكاك البشري، حيث يتفاعل أشخاص من خلفيات ومهارات وآراء مختلفة مع بعضهم بعضاً مما يثير أفكاراً جديدة قابلة للحياة.
من هنا يمكن القول إن الإبداع هو عملية اجتماعية بامتياز، وللتأكيد على ذلك يمكننا الإشارة إلى كتاب ستيفن جونسون “من أين تأتي الأفكار الجيدة” عندما سأل فيه عن القاسم المشترك بين مبنى 20 الشهير في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (الذي أصبح يعرف بمبنى الاختراعات، لأنه جمع معاً مزيجاً من نخبة العلماء النوويين والمهندسين الكهربائيين وعلماء الكمبيوتر ومهندسي الصوت وحتى علماء لغة) والساحات اليونانية القديمة (الأغورا)، وصالونات الشاي البريطانية في القرن الثامن عشر والمقاهي الباريسية في أوائل القرن العشرين؟ فقد كانت جميعها بعضاً من أكثر الأماكن إبداعاً في العالم، حيث كان يتجمع عباقرة من أمثال سقراط وجون بول سارتر ونعوم تشومسكي (الفيلسوف والعالِم اللغوي الأمريكي) ويحتكُّوا مع أشخاص آخرين ليناقشوا الأفكار والآراء ويشاركوا في خطاب غير رسمي مدفوع بمشاركة عاطفية، فكانت نتيجة ذلك الاحتكاك البشري تطاير شرر الأفكار الخلاقة المبدعة.
المرحلة الانتقالية
وإعادة تصور المدن
ولكن إذا كانت المدن هي مواطن الإبداع، وإذا كانت هي المساحات التي تدفعنا إلى التفاعل الإيجابي المثمر مع بعضنا بعضاً، لماذا عاد الحديث اليوم عن المدن المبدعة وضرورة إعادة تصوُّر المدن وإعادة تعريفها من حيث مقوّماتها الإبداعية؟ تمر المدن اليوم بفترات انتقالية صعبة، بحيث بدأت الصناعات القديمة تختفي، ولم يعد مصدر توليد القيمة المضافة، بقسمه الأكبر، يأتي من خلال ما يتم تصنيعه، بل بات يتم بشكل أساسي من خلال تطبيق المعرفة الجديدة على المنتجات والعمليات والخدمات.
مفهوم المدن المبدعة ومتى بدأ؟
إن أول من أشار إلى مفهوم المدن المبدعة الأسترالي “ديفيد ينكين” في مقال له بعنوان “المدينة الإبداعية” نشر في 1988م في المجلة الأدبية الأسترالية Meanjin. فكان هذا المقال بداية لخطاب جديد ينادي بأهمية تشكيل المساحات الحضرية ذات الأصول الإبداعية وانطلاق حركة عالمية تعكس نموذجاً جديداً للتخطيط المدني.
كما أن العوامل التي شكَّلت تطوُّر المدينة ذات يوم، كالنقل والأنهار والقرب من المواد الخام، أصبحت أقل أهمية، إذ صار بالإمكان إدارة التوزيع من مراكز خارج المدن، ولم يعد النقل يشكِّل سوى نسبة قليلة من قيمة الإنتاج الإجمالية. ومن جانب آخر ظهرت مجموعة جديدة من المشكلات نتيجة تغيُّر إيقاعات الحياة والعمل القديمة التي كانت قائمة على أساس المصنع والمكتب، بالإضافة إلى ضرورة التعامل مع العولمة وتدفق البيانات وسهولة الوصول إلى المعلومات والضغوط من أجل تحسين جودة البيئة.
على الأقل، كما هو الحال في أي وقت انتقالي، صار هناك حاجة ماسة لتجاوز الافتراضات الموروثة وطرق العمل، مما جعل الإبداع مركزياً لأي تفكير حول مدن القرن الحادي والعشرين. بالإضافة إلى كل ذلك، فمع جائحة COVID-19 أصبح الإبداع والابتكار من بين القوى الدافعة التي تعيد تشكيل المدن في جميع أنحاء العالم، والتي أدت إلى التشجيع على إعادة التفكير في مفهوم المدن والأحياء والمجتمعات أكثر من أي وقت مضى.
تمر المدن اليوم بفترات انتقالية صعبة، حيث بدأ اختفاء الصناعات القديمة، ولم يعد مصدر توليد القيمة المضافة يأتي من خلال ما يتم تصنيعه، بل من خلال تطبيق المعرفة الجديدة على المنتجات والعمليات والخدمات.
ومما عزَّز مفهوم المدن المبدعة أنه تم إضفاء الشرعية عليه دولياً من قبل منظمة اليونسكو، من خلال تأسيس “شبكة المدن المبدعة التابعة لليونسكو” UCCN في 2004م، الذي يصنِّف المدن المبدعة من جميع أنحاء العالم لتعزيز العلاقات التعاونية معها وفيما بينها.
ومنذ ذلك الوقت أخذ عدد المدن التي انضمت لهذه الشبكة في الازدياد إلى أن بلغ اليوم 246 مدينة مدرجة في الشبكة، التي تتخصص في سبعة مجالات: الحِرف والفنون الشعبية، والتصميم، والأفلام، وفن الطهي، والأدب، والموسيقى، وفنون الإعلام. ومن المرجح أن يستمر هذا الرقم في الارتفاع، مع الأخذ في الاعتبار الإمكانات الهائلة للإبداع كعامل استراتيجي للاقتصاد المثمر والتنمية المستدامة.
أما من ناحية الدول العربية فهناك عدد لا يستهان به من المدن العربية التي تم تصنيفها كمدن مبدعة، من بينها الشارقة وتونس العاصمة ومحافظة الأحساء السعودية في مجال الحِرف والفنون الشعبية، ومدينتا السليمانية في العراق وبيروت في مجال الأدب، وكان آخرها مدينة بريدة في المملكة العربية السعودية في مجال فن الطهي.
مساحات ناشئة لتعزيز ودعم الإبداع
وفيما يتعلق بتعريف المدن المبدعة فلم تعد الهياكل الثقافية الكلاسيكية هي التي تحدِّد هوية المدن المبدعة ولا هي التي تشكِّل مصدر الجذب الوحيد للسيَّاح إليها، إذ لم يعد متحف اللوفر في باريس ولا تمثال الحرية في مدينة نيويورك ولا ساعة بيغ بن اللندنية ولا أهرامات الفراعنة في مصر هي الوحيدة التي ترسم معالمها الإبداعية، بل أصبحت النفحات الإبداعية المختبئة خلف الجدران وفي الأزقة والساحات هي التي تعرِّف المدينة المبدعة الحديثة.
فالإبداع أصبح يتواجد في مراكز الإبداع (Creative Hubs) التي بدأت تُقام اليوم في مدن عديدة في العالم والتي هي بمثابة مساحات ينتشر في أرجائها محفِّز كيميائي يسهِّل على الأفراد التفاعل فيما بينهم ويسمح لهم التواصل بطرق لم تكن متوفرة لهم من قبل، فيلهمهم سبل تعاون جديدة.
من محدّدات المدينة المبدعة ابتكار رمز يكون بمثابة علامة تجارية لها، ما يساعد على تحفيز روابط ذهنية إيجابية، ويمكن للرمز أن يقدِّم حافزاً مرئياً فورياً لمجموعة من المشاعر والأفكار التي تضع المدينة في أفضل ضوء ممكن.
وعلى الرغم من أنها تشترك بعديد من الصفات على مستوى العالم، لكن مراكز الإبداع هذه قد تأتي بنماذج مختلفة وأهداف تنظيمية متنوِّعة. قد يكون أحد أبرز أهدافها دعم الاقتصاد المحلي وتعزيز مقوماته الإبداعية، تماماً كما في مركز الإبداع الحِرفي في الأحساء، مثلاً، الذي يهدف إلى الارتقاء بالحِرف والفنون الشعبية التي عُرفت بها تلك المدينة كحياكة البشوت والفخار والسدو والسجاد والتطريز والكروشية والمداد وأشغال الخشب وصياغة الذهب وغيرها، من خلال تنظيم دورات تدريبية وورش عمل من أجل تدريب عدد كبير من المصممين والمطورين والمشرفين والحرفيين.
كما يمكن للمركز الإبداعي أن يقدِّم للمشروعات الإبداعية المصغرة فرصة التكامل مع الأطراف الأخرى لغرض الحصول على الموارد المهمة مثل الأدوات والخدمات المتخصصة أو مصادر الإلهام وذلك من أجل تطوير المشروعات والأعمال، وقد يكون أبرز مثال على مراكز إبداعية كهذه مركز “كود مارغوندا” Code Margonda في ديبوك في إندونيسيا التي تُعدُّ موطناً لعديد من الشركات الناشئة فيعمد هذا المركز إلى دعمها وتسهيل عملها ونجاحها.
وفي كثير من الأحيان تتحوَّل تلك المراكز إلى منارات لمناطق المدينة المنسية كما في مدينة مانشستر الإنجليزية التي اشتهرت بكونها مدينة قاتمة تحتوي على عدد كبير من المصانع المتوقفة عن العمل والمستودعات القديمة واستوديوهات التلفزيون المهجورة التي تحوَّلت اليوم إلى مقرات لمراكز إبداعية مختلفة أعادت الحياة إليها وبثت الروح في أرجاء المدينة كلها، كمشرع “هوم” Home وهو مركز للفن الدولي المعاصر والمسرح والسينما في مدينة مانشستر تم افتتاحه في عام 2015م.
بين المهرجانات والمعارض
ورسم رمز المدن
وللمهرجانات والمعارض التي تحتضنها المدن والتي تقام بعناوين ثقافية مختلفة دور كبير في رسم هويتها الثقافية الإبداعية، ناهيك عن إيجاد فرص العمل وترسيخ الفكر الثقافي فيها. وهنا يمكن الإشارة إلى المشهد الفني المعاصر المزدهر في العاصمة السنغالية داكار الذي يزخر بعدد كبير من الأحداث الثقافية المهمة التي حجزت للمدينة موقعاً متقدِّماً في قائمة المدن المبدعة قد يكون أبرزها معرض داك آرت Dak’Art الذي تأسس عام 1989م والذي يُعدُّ أقدم بينالي في إفريقيا، حيث يركِّز على الفن المعاصر والأدب، بالإضافة إلى “متحف الحضارات السوداء” الذي افتتح في 2018م ويهدف إلى إعادة تشكيل فهم التاريخ الإفريقي وكذلك الفن المعاصر في إفريقيا والشتات.
ولا بد من ذكر أهمية معارض الكتب ودورها الثقافي الإبداعي كما الحال مع معرض الكتاب الدولي في الرياض الذي يُعدُّ أحد أكبر المهرجانات الثقافية في المملكة، والذي يجعلها محط أنظار المثقفين والقرَّاء من جميع أنحاء العالم للاطلاع على أحدث المنتجات الإثرائية في الجانب الثقافي، وقد بات يرسم هوية المدينة في الانفتاح الثقافي والعلمي والأدبي.
وفي مكان قريب في الخليج العربي ها هي إمارة الشارقة بدأت تخلق سمعة لها باعتبارها مكاناً للإبداع في الإمارات العربية المتحدة على الرغم من أن العلامات التجارية الفنية الكبرى مثل “غوغنهايم” و”اللوفر” قد أسست متاحف لها في أماكن أخرى في الإمارات العربية المتحدة، ولكن الشارقة حدَّدت لنفسها أجندة ثقافية مختلفة، حيث ازدهر تقويمها الثقافي مع أحداث مثل بينالي الشارقة للفنون المعاصرة، وهو بينالي التصميم الجرافيكي الذي تم إطلاقه حديثاً، بالإضافة إلى مهرجان الفنون الإسلامية.
ومن محدِّدات المدينة المبدعة أيضاً ابتكار رمز للمدينة يكون بمثابة العلامة التجارية لها مما يساعد على تحفيز روابط ذهنية إيجابية لصورة المدينة، بحيث يمكن لهذا الرمز أن يقدِّم حافزاً مرئياً فورياً لمجموعة من المشاعر والأفكار التي تضع المدينة في أفضل ضوء ممكن. ومن الأمثلة على رموز المدن الناجحة شعار مدينة مدريد الذي يظهر ذراعين تحتضنان كلمة “مدريد” مما يشير إلى انفتاح المدينة وترحيبها بكل من يزورها، وشعار مدينة ساو باولو الذي يصوِّر كلمة “ساو بولو” وسط مجموعة مبهجة من الخطوط الملوَّنة ليرمز إلى الجو الاحتفالي في المدينة، وشعار مدينة ملبورن الذي يتضمَّن عدداً كبيراً من حرف الـ “M” في جميع الألوان وتدرجاتها مما يشير إلى مدينة ديناميكية وتقدمية منفتحة على التفكير المستقبلي.
بالإضافة إلى كل ذلك هناك أفكار أخرى لجأت إليها المدن المبدعة حول العالم مثل إعادة الأحياء القديمة فيها التي تتميز عادة بصورة نمطية واحدة من الشوارع الضيقة والمباني التراثية والمقاهي القديمة. ولأنها كذلك، وبسبب ضيق المساحات فيها، فقد سمحت بالتفاعل التلقائي بين البشر وتحوَّلت في كثير من الأحيان إلى روح المدينة الإبداعية النابض بالحياة، ناهيك عن الاهتمام بفن الشارع الذي يجعل الفن متاحاً للجميع وغيرها من الأفكار الأخرى المحفزة للإبداع والابتكار.
أخيراً، إذا ما علمنا أنه حسب إحصاءات منظمة اليونسكو فإن الصناعات الثقافية والإبداعية أصبحت من بين القطاعات الأسرع نمواً في العالم، إذ باتت تحقق عائدات سنوية تبلغ نحو 2250 مليار دولار وتولِّد 30 مليون وظيفة وتسهم بنحو %10 من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، يمكننا القول إن الإبداع كنز دفين في المدن، إذا تم اكتشافه بكل خباياه الثمينة لا شك بأن المكافآت ستكون عديدة ومتشعبة.
اترك تعليقاً