مُنذ أكثر من ثلاثمئة سنة، لاحظ الفيزيائي والفيلسوف بليز باسكال، “أننا” عندما نقرأ بسرعة كبيرة أو ببطء شديد فإننا لا نفهم شيئاً. وفي عام 1940م، صدر كتاب بعنوان “كيف تقرأ كتاباً” شبَّه مؤلفاه قراءة الكتب بالتعلُّم من دون معلِّم، وبفنِّ إمساك المعلومات حين يقذفُها كُتّابهَا.
وقبل عقودٍ قليلة، ازداد عدد الكتب التي تتناول نتائج دراسات أو تأمُّلات متخصصين متنوّعين في سلوك القراءة وأنواعها ومستوياتها. فمثلاً، يقول علماء النفس الإدراكي عن عملية القراءة بعد أن حلَّلوا أدق تفاصيلها، مثل حركة العينين وحديث النفس إنها نشاطٌ إيجابي مُعَقَّد يجري في الذهن. ويصفها التربويون بأنها مهارة مطلوبة للنجاح في المجتمع، تعطي صاحبها قدراً كبيراً من المعلومات وبالتالي فهماً واسعاً للعالم. أما الأدباء فيُوجز تعبيرهم الرافعي بقوله: “بالقراءة تكتسب قريحة مستقلّة، وفكراً واسعاً، ومَلَكَة تقوِّي الابتكار”.
تتبنَّى لغاتٌ عديدة مُصطلَح “من الغلاف إلى الغلاف” الذي يُشير إلى دفّتي الكتاب اللتين تكتنفان جانبيه. وترتبط هذه العبارة حرفياً بالمطبوعة الورقية؛ مثل الكتاب أو المجلة، وتعني قراءة المطبوعة كُلّها. وحينما تسبقها جملة (قرأتُ…) تُوحِي أن القراءة كانت ناجحة ومُفَصّلة، ومُعَمَّقة ومستمرّة. فالغلاف يظهر دائماً في خيال القرُّاء كباب يفضي نحو المعرفة، ووصلٍ وفصلٍ، بين القارئ والكاتب وبين الجهل والعلم. ومع أن عبارة جورج إليوت “لاتحكُم على الكتاب من غلافه” في روايتها “الطاحونة على النهر فلوس” منتشرة انتشار النارِ في الهشيم منذ زمن، إلاَّ أنَّ القرّاء يعرفون أن الغلافَ يَشَي بما وراءه في أحيانٍ كثيرة.
المشكلة التي ذَكَرَها باسكال – وأكدتها الدراسات اللاحقة – هي مقدار سرعة القراءة، والمعيار الذي استندت إليه نتيجته (لا نفهم شيئاً)، هي كمية المعلومات التي تبقى في ذاكرة القارئ. واليوم، في ظل الواقع التقني المتسارع، ظهرت مشكلة أخرى، وهي الاستمرارية الفاعلة التي تُوحِي بها عبارة “من الغلاف إلى الغلاف”. فها هي نعومي بارون، مؤلفة كتاب “مصيرُ القراءة في العالَم الرقميِّ” تشير إلى نتائج دراسة أجرتها عام 2015م أظهرت تغيُّر طريقة القراءة اليوم. وبالتالي أصبح كثير من المؤلفين ينشُرون أعمالاً لا تتطلَّب تفكيراً عميقاً أو قراءة متصلة متأنية. وتقول في المقدِّمة: “فكِّر بسرعة! هكذا كنا نقول بصوت عالٍ عندما كنَّا صغاراً ونحن نلقي بالكرة بعيداً، والآن أصبحنا نقول هذه العبارة ونحن نقرأ”.
تتطلَّب القراءة الناجحة موازنة بين السرعة والاستمرارية بلا إفراطٍ أو تفريط. وإن كان الإفراط في السرعة والتفريط في الاستمرارية قد يبدوان مألوفين بالنسبة لنا، فهنا مثالٌ عن الإفراط في الاستمرارية: قبل عدّة سنوات أمضى الكاتب الأمريكي أمِن شي عاماً كاملاً يقرأ لعشر ساعاتٍ يومياً قاموس أكسفورد الضخم الذي يزيد على 20,000صفحة (59 مليون كلمة)، وبعد هذا الجهد، وصف التجربة كفيضانٍ لغوي “كنتُ كمن يحاول تذكرّ كل الأشجار التي يراها من نافذة قطارٍ مسرع”.
واليوم، من غير المتوقّع أن تكون عبارة “من الغلاف إلى الغلاف” ضمن مصطلحات الوسائط الإلكترونية، فطبيعة هذه المنصات فرضت محتويات بلا أغلفة، وحفّزت الإفراط بالسرعة والتفريط بالاستمرارية بعدما ألقت بفيض من المعلومات أسرع ممّا قد يتخيله مؤلفا كتاب الأربعينيات وربما بارون. وما يحتاجه القارئ الآن هو تسخير هذه الإمكانات التقنية الرائعة الفائقة، ومعرفة كيف يقرأ بتوازن. عندما سأل فولتير مَنْ سيقود الناس؟ قال: “أولئك الذين يعرفون كيف يقرأون”.
مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
يوليو – أغسطس | 2020
القراءة رقميًا:
من الغلاف إلى الغلاف
رئيس التحرير
مقالات ذات صلة
为阿拉伯国家最著名的文化杂志之
رأت ما نشره الكاتب أحمد السعداوي في مجلة القافلة، في العدد الماضي (العدد 700)، تحت عنوان “الرواية.. فن التواضع”، إذ استعرض رأي “جون برين” بخصوص كتابة الرواية الأولى التي أشار إلى أنها تبدو أشبه بالتنويعات على السيرة الذاتية.
ذا أردت أن تقرأ بفاعلية، فاقرأ كتبًا مُعمّرة، أي تلك الكتب القديمة المُتخمة بالدروس الحياتية طويلة المدى؛ كتبًا قديمة ذات قيمة عالية، مليئة بـ “الزبدة” والطاقة الكامنة للمعلومة، ذلك لأنها استمرت طوال السنين وقودًا لتقدم البشرية.
القراءة السريعة ضرورة للقارئ النهم ، ورقياً كان أو إلكترونياً والاستمرار في ذلك- القراءة السريعة- ولمدة طويلة سيستفيد القارئ لا محالة.
صحيح، أو كما قال جاك دريدا: ليس المهم عدد الكتب التي تقرأها بل أن تقرأها جيدا حتى لو كان كتابا واحدا