مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
يوليو – أغسطس | 2020

“سِّيدة البحر”..
قضية المرأة في قالب أسطوري


خالد ربيع السيد

بدأ صُّناع الأفلام السعوديون في السنوات القليلة الماضية، يحقِّقون أفلاماً تتبع أنماطاً وقوالب سردية غير تقليدية. ويرجع ذلك إلى ثقتهم بقدرة الفن السينمائي في حبك قصص درامية تُبلغ ما يريدون إيصاله إلى الجمهور، وتعطيهم في الوقت نفسه مساحة أوسع للتعبير عن رؤاهم الفكرية من دون أن تتعارض مع قيم المجتمع ولا أن تتصادم مع العادات والتقاليد. وضمن هذا المنحى تم إنتاج فِلْم “سيِّدة البحر”، للمخرجة السعودية شهد أمين.

إضافة إلى الإقبال الجماهيري، حظي فِلْم “سيِّدة البحر” باهتمام لافت للنظر من قِبَل النُّقاد العرب والأجانب خلال عرضه في أكثر من مهرجان دولي. إنه أول فِلْم للمخرجة شهد أمين، قام بالأدوار الرئيسة فيه: أشرف برهوم، يعقوب الفرحان، فاطمة الطائي، هيفاء الآغا، حفصة فيصل، عبدالعزيز شتيان، وبسيمة الحجّار. وهو إنتاج سعودي إماراتي عراقي مشترك، تم تصويره بالكامل بالأسود وتبلغ مدة عرضه 75 دقيقة.
يبدأ السرد في الفلم بظهور “مثنّى” (الممثل يعقوب الفرحان) في ليلة مكتملة القمر، واقفاً أمام الشاطئ يحمل بين يديه طفلته الصغيرة، ويرمقه رجال القرية حاملين المشاعل من خلفه، استعداداً لممارسة تقليد قديم يقضي بأن تضحِّي كل أسرة بأطفالها من الإناث، ووهبهن إلى المخلوقات الغامضة التي تعيش في البحر. وعندما يدنو مثنّى من البحر، يرق قلبه ويغيّر رأيه فجأة، مقرراً إنقاذ ابنته وعدم رميها في الماء.
هكذا يبدأ الفلم الذي تناولت فيه مخرجته قضايا وموضوعات معاصرة تجري أحداثها الدرامية بين الأسطورة والخيال، حيث الرمزية تحيل المشاهد إلى تأمُّل الواقع المعيش، في محاولة للتعبير عن أحوال المرأة وصراعاتها ومعاناتها مع المجتمع.
ينتمي الفلم إلى السينما الشعرية والواقعية السحرية في آنٍ واحد. فهو يروي قصة تدور في قالب من الخيال، مع ميل مقصود للتجريد عن طريق عدم تحديد المكان، وجعل الزمان في الماضي القريب، وذلك قبل تطوّر سفن ووسائل الصيد من البحر، حيث يصوّر الفلم مفردات هذه القصة في سياق غير تقليدي؛ فيجنح إلى التجريب والتحرّر من “الحبكة” بقوامها المعتاد.

عالَمٌ خيالي بلا حبكة
تجري أحداث الفلم بلا حبكة درامية متكاملة، في جزيرة معزولة يقطنها صيادون في عرض البحر؛ وضمن أجواء أسطورية في قرية نائية متشدِّدة ضد الإناث، يضحِّي فيها أهلها ببناتها قرباناً لكائنات بحرية، كي يعيشوا هم بأمان. الأمر الذي يذكرنا بتقليد “عروسة النيل” الذي كان متبعاً في الحضـارة الفرعونية، وكان يقضي بإلقاء فتــاة عــذراء في النيل، حتى لا يغضب عليهم النهر ويفيــض ويُغرق زرعهم.
وفي هذه القرية، حين تضع امرأة مولودة يطلقون عليها اسم “حياة” (وللاسم دلالته المهمة)، كان يتعيّن تقديم حياة قرباناً للبحر الهائج ولمخلوقاته وحورياته النهمة لالتهام القرابين. لكن، كما ذكرنا، يتراجع والد حياة عن إغراق ابنته الوحيدة. فيعتبر الصيادون “حياة” وصمة عار لحقـت بهـم، وأصبحوا يعتقدون أن إفلاتها من الغرق قد جلب لهم سوء الحظ.
بعد مرور ثلاثة عشر عاماً، تكبر الطفلة “حياة” (الممثلة باسمة حجّار) وتصبح شابة يافعة تعمل في مصنع للملح إلى جانب نساء القرية، وهو عمل شاق ومجهد.
أما الصيد وما يأتي به من أسماك فهو مصدر قوت أهل الجزيرة. وحتى يتوفّر السمك لا بد أن يرضى البحر عن الصيادين، ففي مكان سحيق في الأعماق تعيش “سيِّدة البحر” أو الحورية الجبارة التي ينبغي طلب ودّها ونيل بركتها ورضاها باستمرار عن طريق تقديم الهدايا والقرابين لها. ومن دون هذه التضحيات التي يتعيّن أن تقدّمها كل عائلة في الجزيرة، والتي أصبحت سلوكاً مقدساً وتقليداً متوارثاً عبر الأجيال لا ينبغي الحياد عنه، لن يرضى البحر ولن يهب الصيادين خيراته. بل يمكن أن تهب العواصف العاتية لتُغرق السفن وتهلك أصحابها.

المخرجة شهد أمين
حاصلة على درجة البكالوريوس في إنتاج الفيديو والدراسات الفنية السينمائية من جامعة “ويست لندن متروبوليتان”.
وتحمل شهادة في كتابة السيناريو. وتضم قائمة أعمالها الفلمين القصيرين “موسيقانا” و“حورية وعين” الذي حاز جائزة أفضل فِلْم روائي قصير من مهرجان أبوظبي السينمائي 2014م. و“نافذة ليلى” الذي فاز بجائزة أفضل فِلْم في مهرجان أفلام السعودية.

النظرة للمرأة في مجتمع ذكوري
لا يخفى على المشاهد أن الفكرة العامة للقصة مستمدة من الواقع. ولكنها تظهر في الفلم من خلال الرؤية الخاصة عند المخرجة لمعاناة الأنثى والمرأة بشكل عام في المجتمع العربي التقليدي. وهو كما تراه مجتمعاً ذكورياً، يحاصر وجود المرأة ويقمعها، باعتبارها كائناً أدنى من الذكر. فلا يسمح لها الصيادون كما في حالة حياة التي يرمز اسمها للعطاء، بالخروج معهم للصيد. وتُحرم بقسوة من ممارسة حياتها كما ترغب بدعوى أنها ضعيفة، غير قادرة على الفعل الذي يقوم به الرجال. وبالتالي لن تقدر بطبيعة تكوينها الجسماني على تحمُّل مشاق الرحلات البحرية التي يخرج فيها الرجال الأشداء للصيد. تنتفض “حياة” وتتمرَّد على هذه التقاليد، فتغيّر العادة الموروثة وتزعزع الوضع السائد وتصبح هي من تخافه القرية.
تحاول حياة أولاً أن تثبت لرجال القرية طوال الوقت أنها تتفوّق على الذكور بجرأتها وشجاعتها وإقدامها على الصيد وعلى النزول إلى البحر الهائج والعودة بما يعجز عن الإتيان به الرجال. ولكن بعد أن تضع والدة حياة مولوداً ذكراً، يصبح تقديم هذه الفتاة الشابة قرباناً لسيِّدة البحر أمراً حتمياً. ولكن حياة تقفز وتختفي في البحر. وتغيب لأيام. فيعتقد الصيادون أنها قضت وانتهى أمرها، لكنها تعود وتظل صامتة. وتدريجياً يتحوَّل جسمها إلى جسم حورية البحر. لقد اكتسبت شكل الحورية الأسطورية التي يخشاها الجميع.

تقنيات وحِرَفية عالية
إنتاج الفلم لافت للنظر بالحِرَفية العالية في خلق التكوين البصري للصورة السينمائية، وذلك بفضل الخبرة الفنية التي يتمتع بها مدير التصوير جواو ريبرو، ووظفّها في إبراز قوة البطلة وغرابة البيئة، وضآلة قوى الإنسان أمام الطبيعة. فنجده وقد صبغ الصورة بمسحة ضبابية تسهم في تعميق الإحساس بالطابع الخيالي الأسطوري للأحداث، من دون إغفال مغزاها المعاصر طبعاً.
من ناحية أخرى، نجد أن التصوير بالأبيض والأسود يحيل المتفرج إلى الماضي وإلى عالم الحكايات التي نقرأها في كتاب “ألف ليلة وليلة”. وإلى جانب هذا وذاك، نجد القدرة العالية في توليف علاقة بديعة بين المؤثرات الصوتية وتتابع الصورة، باستخدام الأغنيات الفولكلورية والموسيقى الحسية الجذابة التي وضعها مايك وفابيان كورتزر.
ويعتمد المونتاج الإيقاع الهادئ في الانتقال بين اللقطات والمشاهد؛ ليوحي بعمق الأسطورة في الزمن. ثم تداعيات الحوار بين الممثلين ونطق الجمل والكلمات بطريقة تسهم في غرائبية البناء الدرامي والشخصيات، لا لكي تبعدها عنّا، لكن لتقربنا كمشاهدين منها، والإيحاء لنا بأنها شخصيات حقيقية وحاضرة بقربنا في مكان ما.

جوائز نالها فِلْم “سيِّدة البحر”
• نال جائزة فيرونا، عن فئة “الفلم الأكثر إبداعاً” في مهرجان البندقية، 2019م.
• حصل على “التانيت” البرونزي في مهرجان قرطاج، 2019م.
• “جائزة ساذرلاند” ضمن مسابقة أول فِلْم روائي طويل. بمهرجان لندن السينمائي 2019م.
• جائزة أفضل مخرج وجائزة لجنة النُّقاد بمهرجان الرباط الدولي لسينما المؤلف 2019م.
• جائزة “الشاشة الفضية” لأفضل فِلْم روائي آسيوي بمهرجان سنغافورة السينمائي.
• عرض بمهرجان القاهرة السينمائي، ومهرجان السودان للسينما المستقلة، ومهرجان ساوث باي ساوث بولاية تكساس الأمريكية 2019م.


مقالات ذات صلة

خلال أمسية شعرية ضمَّت مجموعة من الأسماء، ألقى محمد الفرج في الجولة الأولى قصيدته وهو يمشي بين الحضور، متوجهًا إلى جمهوره بالكلام، ونظنه تعثَّر في قدم أحدهم. ولكنه استفاد من الإمكانات الأدائية الكبيرة التي يوفرها له دور الحكواتي الذي اعتاد القيام به؛ إذ إن الفرج فنان تشكيلي وحكَّاء إلى جانب كونه شاعرًا. غير أن مقدِّمة […]

صاحب حركة النهوض التي عاشتها الثقافة العربية، أثناء القرن التاسع عشر وامتدادًا إلى العقود الأولى من القرن العشرين، تدفق عدد من المفاهيم أوروبية المنشأ التي قُدّر لها أن تغيّر مسار الثقافة العربية نتيجة لجهود العديد من المترجمين والباحثين والمفكرين لا سيما من تعلم منهم في أوروبا أو أجاد لغات أجنبية. وهذه المفاهيم كثيرة ومتنوعة تمتد […]

من الملاحظات المهمة التي سمعتها من عدد من الفلاسفة الذين شاركوا في مؤتمر الرياض الدولي للفلسفة في ديسمبر 2021م، أن الحضور الغالب كان من غير المحترفين في الفلسفة. والمقصود بالمحترفين هنا هم أساتذة الجامعات وطلاب الدراسات العليا تحديدًا. فالمعتاد في مؤتمرات الفلسفة في العالم هو أن يحضرها أسـاتذة الجامعات الذين يقدمون أوراقًا علمية في المؤتمر […]


0 تعليقات على ““سِّيدة البحر”..”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *