الفن العـام هو ذاك الـذي يُصنـع خصيصـاً لفضاء عام، وهو بالتالي ملك المجتمع ككل، بخلاف الفن الخاص الذي يتوجه إلى أفراد، ويبقى حبيس الغرف المغلقة في القصور وبيوت كبار الأثرياء.
وللفن العام دوره المميَّز في منح البيئة الحضرية التي تحتضنه مكانتها الثقافية، فيصوغ هويتها، ويترك أكثر من بصمة على الحياة الاجتماعية والاقتصادية فيها.
وبعدما ظل مفهوم الفن العام لقرون عديدة شبه مقتصر على التماثيل والمجسمات الاحتفالية والتذكارية، تطور هذا المفهوم في العصر الحديث إلى ما هو أبعد من ذلك.
بالمعنى الواسع، يمكن القول إن الفن العام قديم قدم التاريخ. فإذا ما نظرنا إلى تماثيل الفراعنة في مصر القديمة على سبيل المثال، لوجدنا المنحوتات الأربع العملاقة المصنوعة من الحجر الرملي لرمسيس الثاني جالساً أمام معبدهِ الصخري في أبو سمبل جنوبي مصر، التي تم تصميمها خصيصاً لجمهورٍ محدَّد بالذات، هم أعداؤه النوبيون. وكانت تلك المنحوتات استعراضاً فظاً لقوة الذات الملكية؛ وتعبيراً عن الفن الذي يُجبر المشاهد على التسليم.
ولمثل هذه الغاية، وفي وقت لاحق، أقامت السلطات الرومانية تماثيل ضخمة لأباطرتها في جميع أنحاء الإمبراطورية من أجل إظهار عظمة روما. وكانـت المـدن اليونانيـة في وقـت مبكر من الداعمين لفن النحت المعبِّر عن الفضائل الدينية والإجتماعية في أعمال متاحة للجميع قابلة لتقدير المجتمع بأكمله.
في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين أصبح الفن العام يعبِّر عن فكرة أو يحمل رسالة أو قيمة إنسانية عالمية أبعد من الأشكال التصويرية والانتصارية السابقة
الفن العام ليس منحوتات فقط
وعلى مر التاريخ، اقتصر مفهوم الفن العام على تماثيل ومنحوتات احتفالية أو تذكارية لشخصيات أو أحداث تاريخية عسكرية وثقافية مهمة، مصنوعة من الحجر أو البرونز. وهكذا تشكّل فهم الجمهور وتوقعاته للفنون العامة من خلال هذه الشواهد التاريخية التي بقيت طاغية في شوارع المدن وساحاتها العامة التي غالباً ما اتخذت تسميتها منها. ولكن الفن العام، ومنذ التاريخ القديم، لم يقتصر على النحت فقط.
تقول روزاليند كراوس، الناقدة الفنية وأستاذة الفن في جامعة كولومبيا الأمريكية، في مقال لها بعنوان “النحت في الميدان الموسع”، بأنه ليس هناك اختلافات كبيرة بين النحت والفنون غير النحتية، مثل الهندسة المعمارية في الممارسات الفنية من ناحية اعتبارها ضمن نطاق الفن العام. وقد يكون معبد البارنثيون على جبل الأكروبول في أثينا المثال الأبرز على الفن العام الذي يؤكد على عدم وجود حدود جامدة بين النحت والفنون المعمارية، وعلى أنه لا يوجد افتراض بأن الفن العام يجب أن يكون تمثيلياً فقط.
الفن العام في المفهوم الحديث:
رمزية مختلفة ومروحة جديدة من الفنون
في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، أصبح الفن العام يعبِّر عن فكرة أو يحمل رسالة أو قيمة إنسانية عالمية أبعد من الأشكال التصويرية والانتصارية السابقة. وهكذا بنى غوستاف إيفل “برج إيفل” في باريس كإيقونة للتقدُّم التكنولوجي في عام 1889م، الذي تحوَّل فيما بعد ليرمز إلى مدينة باريس وكل شيء فرنسـي. وهكذا استقـر تمثال الحرية على خليج مدينة نيويورك الأمريكية ليكون رمزاً للحرية التي تنير العالم. ولم تكن الفكرة وراء الأعمال الفنية العامة هي التي تغيّرت فقط بل في الفترة نفسها أيضاً ظهرت أشكال مختلفة من الفن العام أضيفت إلى المنحوتات والهياكل المعمارية السابقــــة وأصبحـــت تضــم مجموعـــة من الفنـون من بينهـا فن الأرض والفـن البيئــي بمــا في ذلك فن الغرافيتي.
وفن الأرض يُعدُّ من أحدث الفنون العامة في القرن العشرين، وهو فن يقوم على النحت أو التشكيل في الطبيعة نفسها، ومن أبرز الأمثلة عليه رصيف ميناء سبيرال جتي الحلزوني في ولاية يوتا الأمريكية من توقيع الفنان روبرت سميثسون الذي هو عبارة عن بحيرة كبيرة مملوءة بالماء والملح، يتداخل معها شكل حلزوني يقطع البحيرة بشكل عرضي ليلتف عكس اتجاه عقارب الساعة ويمثل شكلاً من أشكال الفن الذهنوي المفاهيمي.
الفن العام أهم من الناتج القومي الإجمالي أو حجم الجيوش، كمقياس لقوة وتأثير الأمة. فهو عنصر أساسي في انتشار النفوذ الثقافي للبلاد كما تشهد الأهرامات والمعابد من مصر القديمة واليونان وكذلك برج بيزا المائل في إيطاليا وقلعة بعلبك في لبنان
أما الفن البيئي فهو أحد الفنون التي تسعى للحفاظ على أشكال الحياة والموارد والبيئة في الأرض وعلاجها أو تحفيزها، والمثال على هذا النوع من الفن “حديقة ورق عبَّاد الشمس” في ولاية بنسلفانيا الأمريكية، حيث تم تحويل نهر ملوَّث بنفايات تعدين الفحم إلى سلسلة من البرك المائية المتلاصقة التي تقوم في النهاية بتصفية وتنظيف المياه قبل أن تتدفَّق إلى البحر، وقد زرعت أشجار مختلفة على حافة كل بركة تعكس ألوان الماء المختلفة أثناء تنقيتها. وهناك في عالمنا العربي أمثلة كثيرة على الأعمال الفنية التي تندرج تحت تسمية الفن البيئي منها معرض نفايات البحر بعنوان “تحويل الرخيص إلى نفيس”، حيث قام الفنان السعودي عبد الله إدريس بجمع نفايات علب المياه الغازية من شاطئ جدة مع بعض مخلفات البحر ليقيم بها هذا المعرض المتميِّز الذي يحتوي على أعمال جمالية مبدعة.
وأخيراً انضم فن الغرافيتي إلى اعتباره فناً عاماً، بعد أن تأرجح لسنوات طويلة بين الفن والفوضى، وأصبح مصدراً لتجميل المدن في لغته التصويرية الفريدة.
اختلاف الفن العام عن الفن الخاص
ولكن مهما كان نوعه وشكله والفكرة وراءه يبقى الفن العام، بطبيعته، مختلفاً جوهرياً عن نظيره الخاص. فالفن العام ليس مجرد فن للأثرياء أو أولئك الذين يسعون لزيارة المتاحف والمعارض الفنية، بل هو فن للجميع. وعن الفن العام قالت صحيفة “نيويورك تايمز” في إحدى مقالاتها: “مع الفن العام في الهواء الطلق، تتقارب النظرة الخاصة مع العامة، حيث تكون الأعمال الفنية نموذجاً فنياً ديمقراطياً مثالياً ومتاحاً للجميع”. وعلى عكس الفن المخصص للقطاع الخاص الذي يدخل كسلعة في سوق الفن، فالفن العام هو فن جمالي فقط للتأمل والاستمتاع.
لماذا نسعى إلى الفن العام؟
من المنظور الفردي الضيق قد نسأل: ما هو الجزء من إنسانيتنا الذي يسعى إلى الفن العام مع غياب الأدلة التجريبية التي تؤكد على ضرورة وجوده؟ قد يكون شيئاً غير محسوس يرضي حاجة غريزية تدفعنا إلى التمثيل والترميز والتشكيل والتزيين والتفصيل والتمييز لجعل الأمكنة مميَّزة في كل من الجغرافيا والزمان. وقد تعتمد الإجابة على وجهة النظر.
فقد يرى الفنان الفنَّ العام كلقاء ضروري يجبر الشخص على التوقف والملاحظة والتفكير والاستماع والرد، وقد يرى المصمم، الفن العام كمحدد لمساحة ما أو كمادة مشغولة بطريقة معينة تجذب الناس إلى مساحة معينة وترفع من قيمتها، وقد ينظر السياسي أو المخطط أو رجل الأعمال إلى الفن العام كصانع صورة يجذب الانتباه إلى المجتمع كوجهة سياحية، ويعزِّز وضعه الاقتصادي التنافسي، ويسهم في تحديد مكانته في العالم. وقد يرى المجتمع الفن العام كتعريف ذاتي، يُبرز الذاكرة الثقافية ويسجل أحداث الماضي. أما بالنسبة للمواطن، فقد يكون الفن العام جزءاً من حياته اليومية المألوفة الذي يتلاشى بشكل غير ملحوظ في الخلفية المشهدية، بعد أن يقص الشريط وتتلاشى أصوات التصفيق التي علت وقت تدشينه.
أما من المنظور العام الأشمل، فتكتسب المدن قيمة من خلال الفن العام. إذ يمكن لهذا الفن تعزيز القيمة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية للمدينة، ومن خلاله تكون المدن ذات بيئة حضرية مثيرة للاهتمام وتصبح أماكن أقدر على جذب للناس للزيارة والعيش فيها. فيزداد رونقها وينشط فيها الخيال ولا تكون المجسمات والأعمال العامة في ساحاتها وشوارعها مجرد تعبير عن المسعى الإبداعي لشخص واحد، بل لها القدرة على تنشيط خيال كل من يراها. وبالإضافة لكل ذلك، فهي تحفِّز التفكير والنقاش الذي قد يتراوح بين إعجاب وانتقاد لما تمثله من رموز وقيمة فنية إبداعية، وهذا ما أكده الفيلسوف يورجن هابرماس الذي قال إن الفن العام يُعدُّ مجازاً، كخطاب بين الفنان والجمهور.
ولكل هذه الأسباب، بقيت المرجعيات الرسمية في عصرنا الحديث، وحتى في الأوقات الاقتصادية الصعبة، تخصص الموارد للمجسمات والأعمال الفنية العامة التي أخذت تنتشر بشكل متزايد في شوارع المدن وساحاتها. وربما لهذه الأسباب أيضاً، قامت الجهات المعنية في المملكة بالاهتمام بالفن العام وتطويره، وبالأخص العناية بالمتحف المفتوح على الكورنيش البحري في مدينة جدة الذي كان يضم منحوتات كانت قد استقدمت إلى المدينة بين عامي 1973م و1986م وكانت من توقيع بعض من أشهر الأسماء في الفن الأوروبي الحديث، من أمثال هنري مور، وألكساندر كالدر، وجان آرب، وجوان ميرو وغيرهم، بالإضافة إلى مجموعة مختارة من الفنانين العرب من أمثال ربيع الأخرس من سوريا، ومصطفى سنبل من مصر.
ولكن كل هذه الأعمال كانت بحاجة إلى إعادة ترميم بعد سنوات من تعرّضها إلى ملح البحر والرياح الرملية والرطوبة الشديدة، وهذا ما قامت به الجهات المسؤولة بالفعل في فترة متأخرة، وقامت بتعزيز تلك المجموعة الفريدة من الأعمال الفنية الجميلة بإضافة أعمال من توقيع فنانين سعوديين عليها كمجسم “غذاء للفكر” للفنانة السعودية مها الملوح، ومنحوتة “تحليق” للفنانة نورا، التي تحمل في طياتها قوة ومثابرة المرأة كطير يحلق في عوالم اللاحدود.
وقد لا تكون المملكة وحدها هي التي اهتمت بالفن العام في عالمنا العربي، بل نجد في دبي أيضاً مجموعة رائعة من المنحوتات الكبيرة التي تعتمد على مواضيع مثل حياة الفروسية والمناظر الطبيعية الصحراوية وقوة المجتمع المحلي. وقد يكون أجملها “الحصان الأندلسي” للنحّات الجنوب إفريقي فنسنت دا سيلفا – الذي يُعدّ ثاني المنحوتات الفنية المستوحاة من عالم الفروسية في وسط مدينة دبي بعد تمثال “حصان 2007” للفنان التشكيلي الكولومبي فرناندو بوتيرو. وفي دبي أيضاً عمل من وحي شجرة السدر التي ترمز إلى بيئة الخليج، وترتبط في الوعي الجماعي لسكّان المنطقة بالصبر ومعاندة الظروف المناخية القاسية، وهو عمل عبارة عن تمثال من البرونز بعنوان “السدرة” من تصميم الفنان الكويتي سامي محمد.
وربما لا نبالغ في القول إذا ما اعتبرنا أن الفن العام واحداً من أهم عناصر الناتج القومي الإجمالي كمقياس لقوة وتأثير الأمة. فهو عنصر أساسي في انتشار النفوذ الثقافي للبلاد، كما تشهد الأهرامات والمعابد من مصر القديمة واليونان، وكذلك برج بيزا المائل في إيطاليا، وقلعة بعلبك في لبنان. في الماضي كما في الحاضر، يشمل الفن العام شبكة معقَّدة من الفنانين الذين يعملون فيه في سياق العمل السياسي والتنمية الاقتصادية وغيرها من القيم والاهتمامات العامة. ولعل الفن العام الأكثر تأثيراً هو الذي يدمج أفكاراً وقضايا عالمية يصل صداها خارج حدود مجتمع معيَّن، ويجذب إليه انتباه الزوار من كل أنحاء العالم. أليس هذا هو السبب وراء أعداد السياح الهائلة الذين يقومون بزيارة الأعمال الفنية العامة الكبرى أينما كانت؟
اترك تعليقاً