الدراسات التي تتناول الإنسان القديم، وما طرأ عليه عبر التاريخ من تغيّرات جسدية وسلوكية ونفسية، كانت تتعثر نظرًا لصعوبة توثيق السمات المتعلقة بأفراد الحضارات السابقة وشعوبها وأنشطتها المختلفة بالطرق التقليدية. ولكن وسائل الذكاء الاصطناعي المتعددة أسهمت في إعادة النظر في كثير من الأبحاث التاريخية المعنية بدراسة الحضارات السابقة؛ بغية التعرُّف على عادات شعوبها، ووسائل معيشتهم، وطرق تفكيرهم، ومناهج إدارتهم لأمورهم المعاشية، إضافة إلى الكشف عن الاتجاهات النفسية التي سادت في تلك الحقب الماضية. وقد حُدَّ من سيل التكهنات والتخمين والتصور الخاطئ، الذي كان يرافق فيما مضى تدوين التاريخ القديم.
مَدّ الذكاءُ الاصطناعي علمَ الآثار بعناصر مضيئة ومفردات غيّرت كثيرًا من معتقدات العلماء وآرائهم التاريخية التي استقوها باستخدام وسائل تقليدية قديمة، وآن الأوان لإعادة النظر في كثير مما صاغته من نظريات وفرضيات تمسّ التاريخ القديم.
فقد اعتمدت دراسة هذا التاريخ حتى وقت قريب على تخصصات مثل علم النقوش؛ وهو دراسة النصوص المنقوشة مباشرة على مواد صلبة كالحجر والفخار والمعدن من قِبل أفراد وجماعات في العالم القديم. لقد نجت آلاف النقوش حتى يومنا هذا، لكن كثيرًا منها تعرَّض للتلف على مرِّ القرون وأصبحت نصوصها الآن مُجزأة؛ إذ كان يتم نقلها أو الاتجار بها بعيدًا عن موقعها الأصلي. وكان على المتخصصين في علم النقوش القيام بمهام شاقة جدًا ومُضنية لاستعادة النص وتحديد المكان والتاريخ الأصليين للكتابة، وهي المهام المعروفة بالإسناد الجغرافي والإسناد الزمني؛ بهدف وضع نقش ما في التاريخ وفي عالم الأشخاص الذين كتبوه وقرؤوه. وما كان يزيد البحث صعوبة هو محدودية الوسائط التي في متناولهم. فالتقنية الأهم في هذا المضمار، والتي اُستخدمت منذ بداية القرن العشرين، هي التأريخ بالكربون المُشِّع الذي هو مادة عضوية، لكن هذه التقنية غير قابلة للاستخدام بسبب الطبيعة غير العضوية لمعظم الآثار المنقوشة.
أدوات جديدة
بين أيدي علماء اليوم والباحثين المختصين بعلم الآثار والتاريخ كثير من المصادر المعينة على استخلاص البيانات المهمة التي تُظهر النشاط البشري في السابق، والبصمات والسمات الجسدية والنفسية عبر عصور التاريخ. وثمة قائمة طويلة من الموارد التي تطرق باب التاريخ، وتفتح لنا عقل الماضي؛ لنستقي منها ضالتنا المرجوّة من المعلومات التاريخية عبر الإفادة من إمكانات تقنية الذكاء الاصطناعي.
توجّه أساليب الذكاء الاصطناعي طاقتها نحو دراسة النتاج الثقافي للشعوب القديمة بأشكاله المختلفة. وأمامنا طائفة كبيرة من الكنوز المتمثلة في مجموعات الكتب القديمة والمراجع التاريخية واللوحات والنصوص والحفريات وما شابه ذلك، وكلها مصادر غنية إن اُستفيد منها على نحو جيد. وهذا ما يُثري علمَ الآثار بمعلومات وافرة حول طبيعة المجتمعات القديمة ونمط تفكيرها، والبيئات المختلفة التي عاش فيها القوم، وما مرّوا به من عوامل ومؤثرات جسدية ونفسية. لا سيما أنّ الإنسان القديم حاول التعبير عن نفسه وبيئته، فسرد لنا من خلال تلك الآثار الملموسة جزءًا من تاريخ حياته، وما اعتراه من مشكلات وأزمات وأمراض، عن طريق التعبير بالنحت والرسومات الصخرية في العصور الغابرة.
ترجمة اللغات القديمة المبهمة
كُتبت كثير من النصوص القديمة بلهجات مبهمة لا يمكن التعرُّف عليها باستخدام الآلات التقليدية التي لا تنهج تقنية الذكاء الاصطناعي، فهي لم تُدرَّب على فهم اللغات التاريخية القديمة. وقد أمكن، باستخدام الذكاء الاصطناعي، قراءة الكثير من النقوش والكتابات الصخرية والنصوص التاريخية، وإلقاء الضوء على ما حوته من أفكار الشعوب ومعتقداتهم وعاداتهم وتراثهم المتمثل بأهازيجهم القديمة وحُليهم وأزيائهم على سبيل المثال.
ومن أمثلة نجاح الذكاء الاصطناعي في مجال ترجمة التراث الحضاري القديم، ترجمة مخطوطات اللغة الأكادية التي كُتِبت بما يُعرف بالخط المسماري، وهي لغة ذات أهمية تاريخية كبيرة تحدثت بها قديمًا شعوب بلاد ما بين النهرين. وقد كُشف، مؤخرًا، عن وجود مئات الآلاف من الألواح الطينية المكتوبة بالأكادية. ولكن، وبسبب ندرة خبراء هذه اللغة، فإن جزءًا كبيرًا منها ما زال في عِداد المبهمات غير المفهومة حتى نجح الذكاء الاصطناعي في تحليلها اللغوي، وفكَّ الكثير من ألغازها باستخدام الوسيلة المعروفة باسم “التعلم الآلي باستخدام الشبكات العصبية العميقة”.
دوره في ترميم الآثار
تحتوي الكثير من الألواح الطينية القديمة، التي سَطّرت عليها الحضارات تقاليدَها ومخزونها المعرفي، على كثير من الأسرار التي محتها عوامل الزمن والطبيعة. إذ تسببت العوامل الجوية والسرقات وظروف الحرب، مثلًا، بضياع كثير من الألواح والآثار، ليغيب معها سيلٌ من المعلومات التي أظهرت لنا حياة الشعوب الغابرة.
ويُتيح لنا الذكاء الاصطناعي ترميم ما تلف من نقوش تلك الألواح وإعادة بنائها، وملء ما فيها من فراغات وثغرات، والتنبؤ بما يناسبها من مفردات تتفق مع السياق العام، بالإضافة إلى إعادة تجميع الأحرف والرموز المبعثرة هنا وهناك، وصولًا إلى نص مقروء ومفهوم.
ومن المأمول أيضًا أن تُنقذ أدوات الذكاء الاصطناعي الآلاف من المخطوطات والكتب النادرة في المكتبات والمتاحف من التلف، بإعادة ترميمها لاعتمادها في البحوث العلمية وإتاحة الاطلاع على الثقافات القديمة من جديد، وتعديل ما جرى عليها من أحكام سابقة جانبت الصواب.
كما نجح استخدام خوارزميات الذكاء الاصطناعي في كشف أغوار التحف الفنية، ودراسة وجوه التماثيل عن قرب، وتحليل تعابيرها ومشاعرها الدفينة، وسلّط الأضواء على ما ارتداه أصحابها من أزياء وما تزيّنوا به من حُلِي. وبعد ذلك، دُرس الأمر عن كثب وفْقَ منظور خاص دلّ على جملة اهتمامات القوم وميولهم النفسية.
من جهة أخرى، فإن للذكاء الاصطناعي وحدات خاصة يكمن دورها الكبير في إعادة ترميم الرسومات واللوحات الفنية، ومعالجتها بأسلوب فائق الدقة. وقد نجحت تلك الوحدات في استكمال الأجزاء المقتطعة من اللوحات، وإعادة الروح إلى التحف الفنية، وتصييرها إلى واقع قريب من حالتها التي وُضِعَت عليها. وكان هذا عاملًا رئيسًا أسهم في الكشف عن الحالة النفسية للشعوب القديمة التي عَبّرت عنها ريشة رسامي هذا النتاج الفني.
ومن مزايا الذكاء الاصطناعي الأخرى التي ارتقت بعلم الآثار، ما له من دور كبير في التعرُّف على جغرافية العوالم القديمة، وكشف المواقع التاريخية الدفينة، وتعقّب أثرها من خلال الأوصاف التي وردت عنها في المرويات القديمة أو السجلات التاريخية.
اكتشاف آثار جديدة
يُعَدُّ التصوير الجوي باستخدام الأقمار الاصطناعية المبرمجة بالذكاء الاصطناعي أحد أهم المصادر التي ترفد عِلم الآثار بدلالات علمية تشير إلى وجود دليل أثري ما؛ كالإشارة إلى أماكن المستوطنات البشرية الدفينة، وإلى مخلّفاتها الحضارية بأشكالها المختلفة.
وثمَّة اليوم أيضًا أجهزة كاشفة خاصة تعمل بتقنية الذكاء الاصطناعي، وتمتاز بقدرتها الفائقة على التنقيب عن الأدوات المعدنية المدفونة في باطن الأرض، أو تلك التي غمرتها المياه في المدن الغريقة.
ومن الوسائل الأخرى التي يدخل فيها الذكاء الاصطناعي استخدام المسح الجيوفيزيائي المعتمد على الموجات الصوتية للتنقيب عن الآثار، وفحص التربة وتحليل عناصرها ودراسة الرواسب؛ بغية التحري عن بقايا أثرية قد تقود لاحقًا إلى كشف الغطاء عن حضارة دفينة ما.
وتستـطيع التكنولوجيا الذكية أيضًا تحديد أعمار تلك اللُّقيات القديمة باستخدام وسائل الأشعة التشخيصية ذات المصداقية العالية بالمقارنة مع الوسائل التقليدية التي كثيرًا ما كان ينقصها الدقة العلمية؛ وهو ما أوصل إلينا سيلًا من المعلومات التاريخية المغلوطة.
نجح استخدام خوارزميات الذكاء الاصطناعي في سبر أغوار التحف الفنية، وقراءة وجوه التماثيل المنحوتة، وتحليل تعابيرها ومشاعرها الدفينة.
وللذكاء الاصطناعي كذلك حضور قوي في إعداد الخرائط التصويرية للمواقع الأثرية، وإعادة ترتيبها على خارطة التراث العالمية، وأرشفة البيانات التاريخية، وإعادة تنظيمها، وإعادة تصور أبعاد الموقع الأثري وحدوده، وما ضمّه من الموارد الطبيعية ذات التأثير المباشر في حالة الشعب الجسدية والنفسية.
ومن أهم تطبيقات الذكاء الاصطناعي في قراءة التاريخ وسبر أسراره، إجراء ما يُعرف بالاختبارات الجزيئية الحيوية، كاختبار الحمض النووي الخاص بالجثة أو المومياء، ودراسة الجينات المستخرجة من بقايا الخلايا والأنسجة، وهو من أكثر الوسائل الذكية دقة في تحديد نوع الأمراض، سواء أكانت جسدية أم نفسية، وسبر الآثار التي خلّفها ذلك في جسم صاحبها.
تجربة جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية
وثمَّة تجربة ناجحة تبنَّتها جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية (كاوست)، لكشف أسرار آلاف الهياكل الحجرية القديمة الغامضة في المناطق الأثرية في المملكة. وقد نهض بأعباء ذلك فريق بحثي متخصص سخّر تقنيات الذكاء الاصطناعي لتحقيق هذا الهدف.
تضمنت هذه التجربة توظيف طرق معالجة حاسوبية ذكية وعالية الدقّة لجمع قدر كبير من البيانات التاريخية. وأنشأ فريق العمل برنامجًا ذكيًا خاصًا للكشف عن الهياكل الحجرية، والحصول على أدلة تشير إلى المواقع الأثرية المحتملة باستخدام الصور الملتقطة بواسطة الأقمار الاصطناعية. واُستخدم في هذا المشروع أيضًا منهج خوارزميات خاص يعتمد تقنية التعلم الآلي العميق.
وسَرَّعت تقنيات الذكاء الاصطناعي الجديدة المستخدمة في “كاوست” من سير العمل في منظومة الاستكشاف التاريخي بصورة كبيرة، واختزل ذلك شهور العمل الدؤوب الطويلة إلى أيام قلائل فحسب.
وجاءت نتائج الدراسات مشجعة؛ إذ قَدَّمت إجابات شافية عن كثير من الأسئلة المطروحة عن حجم الآثار ومساحتها وأماكن التوزيع الجغرافي لبقاياها، وهو ما يدلّ على نجاح تجربة استخدام الذكاء الاصطناعي في مجال قراءة التاريخ.
ختامًا، فإنّ ما ذكر عن آفاق الذكاء الاصطناعي، ودوره الكبير في تغيير الطريقة التقليدية التي تسلكها الأبحاث التاريخية، ما هو إلا غيض من فيض. ولا شك أنّ قادمات الأيام حُبلى بكثير من المفاجآت التي ستعيد رسم صور تاريخ مَن سبقنا مِن الشعوب. ويقينًا سوف يظلّ الإنسان مشغولًا باكتشاف عوالم سلفت كانت من قبلُ في غياهب المجهول الذي يستحيل فهم كنهه وأسراره.
اترك تعليقاً