تعيش القوارض في كل مكانٍ على وجه الأرض، باستثناء المنطقة القطبية الجنوبية، وتشكِّل نحو %40 من مجمل أعداد الثدييات، وتُعد من أكثرها تنوعاً. معظمها صغير الحجم، إلا أن بعضها يصل وزنه إلى 80 كيلوغراماً. وبعضٌ منها، الذي كان قد انقرض منذ فترةٍ طويلةٍ، كان يبلغ وزنه 1000 كيلوغرام. وتمتاز هذه الكائنات بقاطعين اثنين طويلين يستخدمان لقرض الغذاء والأشياء ونخر الخشب وعض الفرائس، ومن هنا اكتسبت اسمها “القوارض”. وخلال تاريخها الطويل، كانت القوارض مصدر إزعاج للإنسان. إذ نقلت إليه عديداً من الأمراض، أهمها الطاعون والتيفوس، وكبّدته خسائر فادحة في القطاع الزراعي. وكانت مصدر دمار وخراب في كثير من الأماكن التي سكنتها، حيث تُلحق حفرياتها أضراراً بالبنايات وقنوات الري والجسور والطرقات. وهنا إطلالة على آخر ما توصل إليه العلم في دراسة القوارض وحواسها التي ترى بها العالم.
يبلغ عدد أنواع القوارض نحو 1700 نوعٍ، تنتمي إلى 30 عائلةً، وتقسم إلى ثلاث مجموعات رئيسة هي:
المجموعة السنجابية، والمجموعة الفأرية.
المجموعة الشيهمية (تشمل مجموعة شيهم العالم القديم والعالم الجديد).
يتغذّى معظم القوارض على النباتات وبذور الحبوب والمخلفات المنزلية، وبعضها الآخر على الحشرات والأسماك واللحوم والحيوانات النافقة على حد سواء. وهي قادرة على التكيّف مع مختلف الظروف البيئية. بعضها يعيش في باطن الأرض، وبعضها الآخر يتسلّق الأشجار الباسقة. وأنواع أخرى تعيش في الأماكن المهجورة والخربة وبالقرب من أكداس النفايات وبقايا الأطعمة. ومنها ما يعيش في شبكات الصرف الصحي ومصارف المياه ومخازن الحبوب والغلال والأخشاب.
وتشمل القوارض كلاً من الفئران والجرذان والسناجب والجرابيع أو اليرابيع والقنادس والدعالج والقنافذ والخنازير الغينية والخلديات أو المناجذ وغيرها من الأنواع. علماً أن كثيراً من تلك الأنواع تضم أنواعاً أخرى؛ فالفئران مثلاً تضم ما يزيد عن 86 نوعاً، ومن أهمها فأر المنزل والفأر النرويجي وفأر الحقل، وفأر الغابة، وفأر الصحراء، وغيرها…
وهذه الكائنات بعضها قزم وصغير كفئران إفريقيا القزمة التي يبلغ طول الواحد منها نحو 6 سم ويزن 7 غرامات، وبلغ وزن بعضها الآخر نحو 80 كيلوغراماً كالكابيبارا أو خنزير الماء.
تكيّف عجيب
تمتاز القوارض بسرعة تكاثرها. وقد يبلغ ما ينتج عن عملية تزاوجها خلال سنوات ثلاث 180 مولوداً. إذ إن الأنثى تضع من 3 إلى 6 مراتٍ في السنة الواحدة، وتلد في كل مرةٍ من 9 الى 10 صغار. وهذه الكائنات قادرة على التكيف والتناسل في مختلف الظروف البيئية الطبيعية. وتعيش عادة في مجموعات، بعضها تحت الأرض كالفئران، وبعضها الآخر كالقنادس يعيش في الماء، ومنها ما يعيش على الأشجار كالسناجب، والجرابيع تعيش في البيئة الصحراوية القاسية.
ومن الملاحظ أن هذه الكائنات تتمتّع بقدرات فسيولوجية متميزة، فهي سريعـة وبعضها يمكنه القفز عالياً وهي بارعة في بناء المساكن أو الجحور بدقة عالية.
وتحصل القوارض على غذائها بواسطة زوجين من القواطع القوية موجودين على الفكين السفلي والعلوي. وما يميّز هذه القواطع أنها تنمو باستمرار طوال حياة القارض القصيرة نسبياً. وهذا يحتِّم عليها أن تبري قواطعها باستمرار وتشحذها من خلال قضمها لكل ما يقابلها، حتى لو كانت الصخور والقطع المعدنية. كما يوجد في فمها فجوة تخلو من الأسنان، وتقع بين القواطع والأضراس ومهمتها طرح المواد غير المرغوبة بها مثل التـراب والحصى الصغيرة وغيرها.
وعلى الرغم من الأضرار الفادحة التي تتسبب بها القوارض للإنسان كالقضاء على المحاصيل الزراعية أو نقل الأمراض الخطيرة، إلا أن كثيراً منها يقدّم خدمات مهمة للبيئة وللإنسان في الوقت نفسه. فبعضها يقضي على الحشرات الضارة وبعضها يشكِّل غذاءً للمخلوقات المفترسة. كما أنها تعمل على نقل ونشر بذور النباتات. وقد استغل الإنسان هذه الخاصية وربَّاها في مزارع خاصة للاستفـادة من فروها أو لاستخدامها في بعض المجالات المهمة، كالكشف عن الألغام الأرضية، وكذلك، مع الأسف، في المختبرات العلمية لإجراء التجارب الطبية والعلمية عليها.
القدرات الحسيّة للقوارض
تُعد معظم القوارض من الحيوانات ذات النشاط الليلي. وكثير من أنواعها يعيش في دهاليز وجحور أرضية أو في كهوف مظلمة. وقد تطورت لديها حواس تمكّنها من البحث عن غذائها واتقاء الأخطار والهروب من الأعداء والتواصل فيما بينها.
وتتمتع هذه الكائنات بقوة كبيرة على التذكُّر واكتشاف أي تغيّرات طارئة تحدث في البيئة التي تعيش فيها. فهي تحفظ تماماً المسارات التي تسلكها والفتحات التي تهرب منها. كما أنها تفحص بدقة ما تجده أمامها وخصوصاً المواد الغذائية، فتتذوقها بحذر شديد وتتابع مسار الروائح المنبعثة من أي مادة غذائية حتى ولو كانت تبعد عنها عشرات الأمتار. وهي أيضاً تحفظ عن ظهر قلب رائحة الإنسان وتبتعد عنه.
يستطيع كثير من الكائنات كالنحل والطيور والسلاحف البحرية وبعض البرمائيات، استشعار المجال المغناطيسي للكرة الأرضية. وهذا يساعدها في هجراتها ورحلاتها الطويلة وتنقلاتها لمسافاتٍ بعيدة
وحاسة الشم عند القوارض متطوِّرة جداً. فهي تستخدمها لتجنب الأعداء وللتزاوج ولمعرفة أبناء جنسها. كما أنها تمتلك قدرة مدهشة على التعرف على رائحة بول القوارض الأخرى؛ مستخدمة هذه الوسيلة لإرسال تحذيرات للقوارض الأخرى في حال وقوع أحدها في مأزق كمصيدة أو فخ. وتستخدم أمهات القوارض حاسة الشمّ للتعرّف على صغارها والبحــث عن غذائها والتعــرف على نوعيتـه وصلاحيته للأكل.
وللقوارض بشكل عام حاسة تذوُّق متطوِّرة جداً، تماثل حاسة التذوق عند الإنسان. فهي قادرة على التفريق بين الغذاء العادي والغذاء الذي يحتوي على مواد غريبة حتى ولو كانت بتركيز قليل جداً؛ فهي تميز مادة الاستروجين بتركيز 2 جزء من المليون وترفض شرب الماء الذي يحتوي على مواد سامة ولو كان بتركيز جزء من المليون. وهذه الحاسة غير العادية عند القوارض تجعل عملية مكافحتها صعبة جداً. لأن القوارض تخبر بقية أفراد عائلتها بوجود أي سموم أو مواد ضارة من خلال التبول عليه.
ومن الحواس المتطوّرة للقوارض، حاسة السمع وهي تتفوّق على حاسة السمع عند الإنسان. إذ إنها قادرة على سماع الموجات فوق الصوتية، وهي تصدر أصواتاً خاصة وتلتقط صدى الصوت لمعرفة طرق سيرها في الجحور والممرات الضيّقة وفي الكهوف. وهي بذلك تتواصل مع بقية أفراد مجموعتها.
وبيَّنت التجارب التي أجريت على الجرذان قدرتها على التقاط ذبذبات فوق صوتية تبلغ 100 كيلوهيرتز، كما أن الفئران المنزلية تتحمل 90 كيلوهيرتز بينما الإنسان يستطيع سماع الموجات التي هي بحدود 20 كيلوهيرتز. وقد استخدم الإنسان هذه الخاصية لطرد الفئران والجرذان من المخازن والصوامع.
كذلك فإن ما يميِّز القوارض عن غيرها حاسة اللمس التي تمكنها من السير في الظلام الدامس. وهذه الحاسة تتركّز في اليدين والقدمين وفي الشعيرات المنتشرة على جسم الحيوان، فالفئران تتمتّع بشوارب طويلةٍ دائمة الحركة، تساعدها على تحسس طريقها في الظلام وفي الممرات الضيقة وتفادي العوائق التي يمكن أن تعترض طريقها. وهذه الشعيرات ذات الحساسية الفائقة تغطي معظم أجزاء جسم الحيوان. وترتبط قاعدة الشعرة الواحدة بشبكة عصبية متطورة تنقل الإحساس إلى الدماغ.
أما حاسة البصر أو الرؤية لدى القوارض، فلم تتطوّر على غرار بقية الحواس الأخرى سالفة الذكر. لأنها كائنات تعيش في الليل، وبالتالي فإن هذه الحاسة هي أضعف الحواس عندها. فعيونها مجهزة للرؤية الليلية أو في الظلام، وهي حساسة للضوء الشديد، ولا تستطيع أن تميز بين الألوان التي تظهر لديها كظلال رمادية. ويُعدّ اللونان الأصفر والأخضر الأكثر جاذبية للقـوارض، حيث يبدوان لها على صـورة رمادية غامقة.
وبالرغم من ذلك، فإن للفئران والجرذان مثلاً القدرة على اكتشاف معالم الأماكن من حولها. وتميز الحركة المحيطة بها دون مشاهدة صورٍ واضحة. فالجرذ يستطيع أن يميز من على مسافة 9 أمتارٍ، والفئران من على بعد 13 متراً. أما وضوح الرؤية لديها فبالكاد يكون على بعد متر ونصف المتر، وهذا يساعدها على القفز في جحورها التي تحفظ أماكنها والهرب من الأعداء.
الفئران والمجالات المغناطيسية
يستطيع كثير من الكائنات كالنحل والطيور والسلاحف البحرية وبعض البرمائيات، استشعار المجال المغناطيسي للكرة الأرضية. وهذا يساعدها في هجراتها ورحلاتها الطويلة وتنقلاتها لمسافاتٍ بعيدة، حيث تحدد بذلك اتجاهاتها. وقد بيّنت الدراسات التي أجراها الباحثون أن بعض الكائنات كالخفافيش والخلد والفئران، التي تعيش في الظلام، لديها القدرة على استشعار المجال المغناطيسي أيضاً.
وحتى وقت قريب، لم يكن في استطاعة العلماء فهم الآلية الدقيقة التي تمكن هذه الكائنات من تحديد اتجاهاتها بدقة عالية مستعينة بالحقل المغناطيسي للأرض. لكن في عام 2015م، بينت التجارب التي أجريت على فئران الغابة، امتلاكها لبوصلة داخلية تختلف تماماً عن تلك الموجودة في الكائنات الأخرى التي تستشعر المجال المغناطيسي، إذ تبيّن أنها تعتمد على عمليات كمومية تساعدها في تحديد مواقعها.
وحسب ما نشرته دورية “Scientific Reports” في عام 2015م، فقد أجريت تجارب على فئران الغابة، بحيث وضعت في حاوية مقفلة تماماً وموجودة في مجال مغناطيسي يمكن التحكم باتجاهاته. وقد وجد الباحثون أن الفئران بنت جحورها في الطرف الأقرب إلى الشمال أو الجنوب المغناطيسي في الحاوية. ولدى تغيير اتجاه الحقل المغناطيسي، قامت الفئران بتغيير اتجاه جحورها من جديد. ويعتقد الباحثون أن استشعار الحقل المغناطيسي تم بطريقة كمومية، إذ إنه ناجم عن إلكترونات متحركة داخل عينيّ الفأر.
هذه المعلومات التي توصل إليها الباحثون جديدة تماماً. كما علق عليها المختص بالفيزياء الحيوية ثورستن ريتز من جامعة كالفورنيا، حيث ذكر أن معارف العلماء حول الحاسّة المغناطيسية للثدييات كانت معدومة، وأن العمليات الكمومية تقدّم تفسيراً جديداً ومنطقياً لسلوكيات الفئران التي تتأثر بالحقل المغناطيسي للأرض.
من جهته قال عالم الحيوان “باسكال مالكيمبر” من جامعة “دويسبرج إسن” الألمانية والمشارك في الدراسة، إن امتلاك بعض الحيوانات لبوصلة مغناطيسية لاستشعار الاتجاهات عند تنقلها أمر منطقي ومفهوم تماماً. لكن السؤال كان حول الثدييات التي تعيش في الظلام كالقوارض، هل تمتلك حقاً مثل هذه البوصلة المغناطيسية؟ وهذا ما حدا بالباحث “مالكيمبر” في عام 2013 لإجراء تجاربه على بعض فئران الغابة التي وضعها في حاويةٍ اسطوانيةٍ بها قش ونشارة خشب، وقد وضع الحاوية في منطقةٍ نائيةٍ بعيدةٍ عن تشويش المدينة لتفادي التأثير على أدوات القياس المستخدمة في التجربة. فلاحظ الباحث أن الفئـران بنت لها مساكــن من القش داخل الحاوية مقابل المجال المغناطيسي الشمالي والجنوبي، وعند تغيير اتجاه المجال المغناطيسي المسلط على الحاوية، غيرت الفئران أيضاً من اتجاه مساكنها.
هذا وتشير الأبحاث إلى أن تحديد الاتجاهات يكون لدى بعض أنواع البكتيريا وسمك السلمون من خلال بوصلة ذات بلورات من الحديد المغناطيسي، وهي تحاكي البوصلة الحقيقية التقليدية. لكن ما توصل إليه الباحثون حول بعض الطيور والقوارض التي تستطيع تحديد الاتجاهات بدقة عالية يكون بواسطة بوصلة تعتمد على العمليات الكمومية القائمة على تحريض مادة بروتينية موجودة في شبكية عين الكائن الحي. حيث يتحرّر زوجان من الإلكترونات يتحسّسان المجال المغناطيسي، مما يتسبب في تحفيز تفاعلات كيميائية داخل الكائن الحي تساعده على تحديد موقعه والاتجاه الذي يسير عليه.
البوصلة الكمومية تساعد الفئران على ربط حركتها اليومية داخل محيطها بخريطة واضحة المعالم ودقيقة للعالم الذي تعيش فيه
هذه النتائج دفعت العالِم مالكيمبر إلى إجراء مزيد من التجارب على فئران الغابة لدراسة مدى تأثرها بالحقل المغناطيسي بالغ الانخفاض والقريب من الأمواج الراديوية كالمستخدم في الاتصالات والإذاعات. حيث عرَّض فئران التجارب إلى هذا الحقل المغناطيسي الضعيف سريع التبدُّل، وكانت النتيجة أن قامت الفئران ببناء جحورها باتجاه بين الغرب والشمال الغربي والشرق والجنوب الشرقي. وهذا يعني أن عملية التشويش عليها بواسطة الحقل المغناطيسي المتبدِّل قد تسبّب في إبطال البوصلة الخاصة بتلك الفئران.
إن فهم العلماء للبوصلة الكمومية يعد خطوة مهمة للتعرف على كيفية استفادة الفئران وبعض القوارض الأخرى من المجالات المغناطيسية للأرض في حياتها اليومية. فحسب ما ذكره الباحث جون فيليبس المشارك في الدراسة، فإن هذه البوصلة الكمومية تساعد الفئران على ربط حركتها اليومية داخل محيطها بخريطة واضحة المعالم ودقيقة للعالم الذي تعيش فيه. إذ إن هذه الكائنات لا تسافر ولا تهاجر لمسافات طويلة على غرار الطيور المهاجرة والسلاحف البحرية. وهذا يناقض تماماً الفكرة السائدة أن البوصلة الحيوية مهمة فقط للكائنات التي تقطع مسافات طويلة والتي تنتقل بين القارات والمناطق الجغرافية والمناخية المختلفة.
اترك تعليقاً