الموسيقى والفن والرياضة لغات عالمية مشتركة بين البشر؛ لأنها تكسر الحواجز الفاصلة بينهم، وتضفي هوية واحدة عليهم جميعاً، وهي الهوية الإنسانية. كما أن اجتماع البشر من أجل اختبار تجارب مشتركة هو حاجة إنسانية نفسية، وأمر كان يقوم به البشر منذ بداية الزمن تقريباً. ومن أبرز هذه التجارب المشتركة المهرجانات الموسيقية التي تجمع بين الناس، حيث تتحدث الموسيقى إليهم جميعاً وتعزِّز التواصل ما بينهم، وتقدِّم أكثر ما تطلبه النفس الإنسانية، وهو الترفيه عن النفس وإثراء الروح.
المهرجانات الموسيقية ليست ظاهرة جديدة تشكَّلت وازدهرت في أواخر القرن العشرين. فأصولها تعود إلى القرن السادس عشر قبل الميلاد مع الألعاب “البيثية”، حيث كان الإغريق الأوائل يقيمون مهرجاناً مدته خمسة أيام في مدينة دلفي، في الموقع الذي قتل فيه بطلهم الأسطوري أبولو التنين بيثو. وكانت العادة أن تجري هناك مسابقات للموسيقى الاحتفالية مرَّة واحدة كل أربعة أعوام. وفي القرون الوسطى أقيمت المهرجانات الموسيقية في أوروبا على شكل مسابقات موسيقية حية. كما ازدهرت الحفلات الموسيقية في العالم العربي، لا سيما في العصر العباسي، وبصورة خاصة في عصر هارون الرشيد الذي أبدى اهتماماً لافتاً بالموسيقى، حتى إن ابنه المفضل “أبا عيسى” كان موسيقياً بارعاً يشترك في الحفلات الموسيقية في البلاط مع أخيه أحمد. ومن ثم ظهرت الحفلات الموسيقية في مصر مع ظهور المسارح مع بداية حملة نابوليون بونابارت.
ظهرت الحفلات الموسيقية في مصر مع ظهور المسارح مع بداية حملة نابوليون بونابارت.
وبدأ أساس المهرجانات الموسيقية في شكلها الحالي بشكل أساسي في القرن التاسع عشر بمصاحبة التحوُّلات الثقافية التي أخذت تركِّز على الرغبة في العيش “الراقي” وسماع الملحنين الموهوبين. وتعزّزت هذه الرغبة على مستوى المجتمعات ككل في صفوف الطبقة البرجوازية التي أصبحت السلطة الرسمية في فرنسا، وذات نفوذ اجتماعي كبير في معظم الدول الأوروبية. فانتشرت حفلات الموسيقى الكلاسيكية في أوروبا في البداية مع موسيقى باخ في عام 1829م. وأقيمت سلسلة من المهرجانات الموسيقية في جميع أنحاء القارة، حيث كانت النخب تتوجه إلى المسارح لتذوق الموسيقى والاحتفاء بها. وبعد أن أسهمت الثورة الصناعية في تطور وسائل النقل، بدأت الطبقات الوسطى في أوروبا تحضر المهرجانات حيثما كانت تكلفة ذلك معقولة.
وفي النصف الثاني من القرن العشرين، انتشرت المهرجانات الموسيقية بشكلها الجماهيري الحالي في كثير من بلدان العالم. كما أصبحت جزءاً أساسياً من المشهد الثقافي في العالم العربي، منذ أول مهرجان أقيم عام 1956م في مدينة بعلبك في لبنان على أدراج قلعتها الرومانية الشهيرة، وشهد عروضاً مسرحية وحفلات لأهم المطربين في العالم، وكذلك مهرجان موازين الذي يقام سنوياً في الرباط ويُعدُّ ثاني أكبر مهرجان في العالم بعد مهرجان “دوناويزلفست” في فيينا بالنمسا، وصولاً إلى سلسلة المهرجانات التي باتت تقام في المملكة مثل مهرجان شتاء طنطورة الذي أقيم في منطقة العلا الأثرية الجميلة، وموسم جدة الذي انطلق عام 2014م وتطور ليستضيف مؤخراً أسماء عالمية كبيرة، وموسم الرياض الذي استضاف أول حفلة لموسيقى الجاز في السعودية عام 2018م.
المهرجانات الموسيقية واقتصاد التجربة
من بين أسباب رواج المهرجانات الموسيقية وتزايد الطلب عليها، يسمى “اقتصاد التجربة”، حيث أصبح الأشخاص يسعون وراء التجارب والذكريات ويهتمون بالخبرات الشخصية القابلة للمشاركة عوضاً عن امتلاك الأشياء المادية. وعن الدافع وراء ذلك يقول رايان هاول أستاذ في علم النفس المشارك في جامعة سان فرانسيسكو الأمريكية: “إن الناس يدركون فعلاً ويتوقعون بأن تجعلهم تجارب الحياة أسعد من شراء الأشياء المادية”.
ومن أحد أهم جوانب التجربة التي توفرها المهرجانات الموسيقية أنها تتحوَّل إلى ملاذ مثالي يلجأ إليه الناس ليتحرروا من ضغوط حياتهم اليومية، حيث يمكنهم الانغماس في جو من الموسيقى والفرح، ويستطيعون استمداد البهجة من المزاج الإيجابي العام الذي يسيطر على الحشد الجماهيري الحاضر، ومن إمكانية العيش في عالم خيالي ساحر ترسمه الديكورات المقامة في المهرجان ولو لساعتين من الزمن أو أكثر قليلاً.
البشر لديهم حاجة فطرية إلى الانتماء وإلى تكوين علاقات مع أشخاص آخرين، وأن هذه الحاجة هي جزء أساسي من سلوكهم الإنساني، وحضور المهرجانات الموسيقية يلبِّي هذه الحاجة بالذات.
فعلى الرغم من أن المهرجانات الموسيقية تختلف عن بعضها بعضاً في جوانب كثيرة، وثَمَّة أمور شائعة ومشتركة في ما بينها، مثل الديكورات الجميلة والطعام الذي يقدّم في محيط المهرجان والأضواء الملونة التي تروق على الفور لعيون الزائرين. وثَمَّة أيضاً المشاعر السعيدة التي تسيطر على الحاضرين بحيث تجعلهم ألطف وأكثر تفاؤلاً، حتى يمكن القول إنه لا مكان للتشاؤم في المهرجانات الموسيقية. وهذه المشاعر الإيجابية تشق طريقها إلى قلوب الحاضرين بحيث تجعل تجربة حضور المهرجان في قلوبهم لتسجل فيها ذكريات جميلة لا تمحى. وبسبب كل ذلك تتحوَّل المهرجانات إلى مساحة بعيدة عن روتين الحياة اليومية، حيث يمكن للحاضرين التصرف بطريقة لا تحكمها القواعد والعادات الاجتماعية التقليدية، فيما تقدّم لهم الفرصة لمواجهة “فقدان” الذات الحقيقية التي قد تغيب عنهم في خضم دورة الحياة المتسارعة.
الإحساس بالانتماء
المهرجانات الموسيقية كما هو حال الأحداث العالمية الضخمة مثل كأس العالم في كرة القدم والألعاب الأولمبية ليست مجرد مصادر للتسلية والترفيه، بل مناسبات تجمع الناس وتقرّب ما بينهم. ويشير الباحثان روي بوميستر الأستاذ في جامعة كوينزلاند الأسترالية ومارك ليرى الأستاذ في جامعة ديوك الأمريكية في بحث مشترك قدَّماه حول الحاجة البشرية للانتماء إلى أن البشر لديهم حاجة فطرية إلى الانتماء وإلى تكوين علاقات مع أشخاص آخرين، وأن هذه الحاجة هي جزء أساسي من سلوكهم الإنساني، وحضور المهرجانات الموسيقية يلبِّي هذه الحاجة بالذات.
فالانضمام إلى مجموعة الحاضرين يعطي الشعور بالانتماء إلى المجتمع الصغير الذي يعيش تجربة الاستمتاع بالموسيقى ولو لفترة قصيرة من الوقت. فهناك، داخل المهرجان، تحوِّل الموسيقى الحشد إلى مجتمع واحد تذوب الفروقات وتنكسر الحواجز فيه ليصبح ذا هوية واحدة. وليس من قبيل الصدفة أن الجنود كانوا يسيرون إلى الحرب على وقع طبول الموسيقى العسكرية، وأن جمهور المتفرجين في ملاعب كرة القدم يحملون الرايات ويعزفون الموسيقى وينشدون الأغاني لتشجيع فريقهم المفضل. فلا شيء يمكنه أن يضاهي قوة الموسيقى في بثّ العاطفة بين حشد من الناس وربطهم معاً ليتحوَّلوا إلى مجموعة منسجمة تشعر بالانتماء إلى بعضها بعضاً في محيط من المشاعر الجماعية.
منافع عامة تتجاوز حدود المهرجان
وبعيداً عن كل هذه التجارب التي ينخرط فيها الحاضرون على المستويات الفكرية والبدنية والنفسية والعاطفية، تحوَّلت المهرجانات الموسيقية في العقدين الماضيين إلى صناعة بحد ذاتها تتولاها شركات ضخمة تتبنى التواصل مع الفنانين والجهات الراعية، وتهتم بالتسويق وأمور الديكور والتنظيم وكل ما يدور في فلك المهرجان من تأجير أكشاك طعام وبيع هدايا تذكارية. ومن هنا فهي توظف تشكيلة كبيرة من الأشخاص ذوي التخصصات المختلفة، من مهندسي الديكور والصوت والعاملين في مجال الإعلانات والتسويق والعمال وحتى الذين يعملون في مجال التأمين وغيرهم الكثيرين ممن يستفيدون مباشرة من إقامة المهرجان بحد ذاته.
تحوَّلت المهرجانات الموسيقية في العقدين الماضيين إلى صناعة بحد ذاتها تتولاها شركات ضخمة تتبنّى التواصل مع الفنانين والجهات الراعية، وتهتم بالتسويق وأمور الديكور والتنظيم وكل ما يدور في فلك المهرجان من تأجير أكشاك طعام وبيع هدايا تذكارية.
لكن من منظور أوسع فالمنفعة لا تعود على هؤلاء فقط، بل يمكن للمهرجانات الموسيقية أن تعزِّز الاقتصاد المحلي وتتحوَّل إلى دعامة مهمة من دعائم السياحة، حتى إنها أصبحت وسيلة مهمة لإعادة رسم صورة مدن بأكملها. ويقول الكاتبان جون كونيل وكريس جيبسون في كتابهما “المهرجانات الموسيقية والتنمية الإقليمية في أستراليا” أنه “يمكن للمهرجانات الموسيقية أن تكون عنصراً جدياً في التنمية الاقتصادية المحلية واستراتيجيات التجديد”. فأولاً، وقبل كل شيء، تُعدُّ المهرجانات فرصة اقتصادية مهمة بالنسبة للمدينة أو القرية التي تقام فيها كونها تجذب السياح إليها، فيسهم هؤلاء في دعم صناعة الفنادق والمطاعم وغيرها من القطاعات الخدماتية في ذاك المكان. وحتى لو كانت الزيارة لا تتعدى الأيام القليلة، فإنها تساعد في التعريف عن المكان كوجهة سياحية محتملة. يقول مدير مهرجان “صوت الحكمة” الذي يقام سنوياً في مدينة زنجبار الحجرية منذ عام 2004م، إنه: “فضلاً عن أن المهرجان، الذي بات يستضيف فنانين من جميع أنحاء القارة الإفريقية ومن خارجها، يحدث كثيراً من التفاعل الجميل بين الموسيقى العالمية والموسيقى المحلية، فالمهرجان يجلب، أيضاً، منافع اجتماعية وثقافية واقتصادية للمنطقة من خلال توفير فرص عمل وبناء مهارات وتأمين سبل العيش وتعزيز اقتصاد زنجبار على المستوى الشعبي، مع الحفاظ على تقاليد الموسيقى المحلية على قيد الحياة”.
هل تستحق المهرجانات الموسيقية كل العناء والأموال التي تستثمر في إقامتها؟ الجواب هو نعم بالتأكيد، لأن إيقاع موسيقاها يصل إلى أبعد من التسلية والترفيه عن الأشخاص الحاضرين ليصل إلى كل المجتمع المحيط بها ويجلب معه المنفعـة التي تعم الجميع.
صوت موسيقاها يتحوَّل إلى صوت الأمكنة
وفي كثير من الأحيان يتحوَّل صوت الموسيقى الذي ينبعث من تلك المهرجانات إلى صوت المدن التي تستضيفها، وهي تحكي حكاية المكان وهو ينبض بالفرح والحياة ويعرف عن معالمه السياحية المهمة. فإلى جانب السياح، تجذب المهرجانات الصحافيين وقادة الرأي الآخرين، حيث يكون المهرجان بالنسبة لهؤلاء “حدثاً إعلامياً” ينقلون من خلاله صورة مختلفة وقصصاً إيجابية تعرّف عن المكان بصورة جديدة. يقول أحد المسؤولين عن مهرجان شتاء طنطورة، إن المهرجان ساعدهم على إبراز “الجوهرة الأثرية للمملكة” وهي منطقة العلا الزاخرة بالمعالم الأثرية الجميلة التي تظهر العمق التاريخي الرائع للمملكة، لا سيما مع مسرح المرايا الذي استضاف على خشبته أسماءً فنية عالمية مهمة، والذي صمم ليكون امتداداً للطبيعة حوله، حيث بني وسط الكثبان الرملية في الصحراء العربية مع جدران مصنوعة من المرايا، تعكس التلال والمنحدرات من الحجر الرملي الذهبي في صور ساحرة.
وإلى كل من يسأل: هل تستحق المهرجانات الموسيقية كل العناء والأموال التي تستثمر في إقامتها؟ الجواب هو نعم بالتأكيد، لأن إيقاع موسيقاها يصل إلى أبعد من التسلية والترفيه عن الأشخاص الحاضرين ليصل إلى كل المجتمع المحيط بها ويجلب معه المنفعة التي تعم الجميع.
اترك تعليقاً