مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
مايو - يونيو | 2018

جبل طارق والعرب


في عددها لشهر ربيع الأول 1389هـ (مايو- يونيو 1969م)، نشرت القافلة استطلاعاً مصوّراً حول علاقة العرب بجبل طارق، بقلم الأستاذ عبدالعزيز الرفاعي. نقتطف منه ما يأتي:

صورة جوية لجبل طارق تشمخ قمته على السحب

منذ الفتح الإسلامي للأندلس، اقترن اسم هذا الجبل باسم فاتحه القائد المسلم طارق بن زياد، مولى موسى بن نُصَير، أحد قادة الخليفة الأمويّ عبدالملك ابن مروان. وقد ظلّ الجبل مُحتفظاً بهذا الاسم إلى الوقت الحاضر. أمّا في الأزمنة القديمة فقد تداولَته عدّة أسماء. بَيد أنّه كان قُبَيل الفتح الإسلاميّ يُعرَف بجبل كالبي (mons calpe)، ويقول الأستاذ محمد عبدالله عنان في كتابه “الآثار الأندلسية الباقية” إنَّ الجبل أو الصخرة تربض في البحرِ على شكل أسدٍ عظيم، رأسه نحو البحر…
ولقد حاول الخليفة الموّحديّ، عبد المؤمن ابن عليّ أن يُطلق اسماً جديداً على الجبل، أو المدينة التي ابتناها به، فأمر بتسميته “بجبل الفتح” أو “مدينة الفتح”، إلا أنّ اسم جبل طارق ظلّ غالباً، وإن اقترن اسم “جبل الفتح” في المؤلّفات العربية التالية للعهد الموّحديّ بشيءٍ من الذيوع.
وقد شَمَل اسم جبل طارق، المَضيق الذي تقعُ الصخرة على شواطئه الشمالية، فأُطلق عليه أيضاً اسم مضيق جبل طارق. وقد كان العرب يسمّونه “الزقاق” أو “المجاز” أو “معبرة هرقل” أو “معبرة الأسد”، ولعلّ ما ذكره الأستاذ عنان عن شكل الصخرة علاقة بهذه التسمية الأخيرة.
أمّا تسميته بمعبرة هرقل، وهو أحد أبطال “الميثولوجيا الإغريقية” أو هركول، فيقول صاحب منجد الآداب والعلوم، إنّ الأقدمين دعوا باسمه عواميد هركول، وهو مضيق جبل طارق، لاعتبارهم أنّ المرور منه إلى الأطلسي لا يقوى عليه إلّا الجبابرة…
وكما يُطلق اسم جبل طارق على المدينة وعلى المضيق، فإنّه يُطلَق أيضاً على الميناء القائم غربي الصخرة، وعلى الخليج الذي يقوم عليه الميناء.

منظر لصخرة جبل طارق وهي تطل على اسبانيا من الشمال

طريف أولاً
إنّ جبل طارق ليس أوّل أرض أندلسية وطأتها أقدام الفاتحين العرب، كما يتبادر إلى الذهن، إذ كانت التجربة الأولى لهم في جزيرة طريف، وهذا الاسم هو أيضاً معزو إلى صاحب المحاولة الأولى نفسه “طريف ابن مالك”، وهو أيضاً من رجال البربر، قام بمُحاولته سنة 91ه (710م)، على رأس حملة إسلاميّة صغيرة جهّزه بها موسى بن نُصَير، بيد أنّها كانـت مُجرّد محاولة، وقد احتفظت الجزيرة الأندلسية باسم صاحب المحاولة.
أمّا المحاولة الثانية فقد كانت فتحاً حقيقيّاً للبلاد الأندلسيّة، فلا غرو أن ذهب طارق بشهرتها، فقد كان من ذوي العزم والتصميم، خاصّةً إن صدقت قصّة إحراقِه سفن العودة، من دون مبرّر لأيّ تشكيك، وكان فتحَه لها في أواخر ربيع الآخر سنة 92ه (711م).

منظر آخر لقمة جبل طارق وقد ظهر إلى يسارها أحد مستجمعات المياه

الجبل والعرب
يتألّف جبل طارق من كلس جوراسي ويبلُغُ طوله 4,5 كيلومتر، وعَرضُه 1,2 كيلومتر، وارتفاعه 429 متراً. كما يبلغ تعداد سكانه حوالي ثلاثين ألفاً، وهم خليط من الإسبان والإنجليز، وبعض العرب والمراكشيين.
ويربط شبه جزيرة طارق بسائر ايبيريا أو بإسبانيا منطقة محايدة تتألّف من سهل رمليّ، وتمتدّ بجوار الصخرة نحو سبعمئة متر، ويَبلغ عرضها نحو أربعمئة متر، وتُشكّل هذه المنطقة المَعبر الذي يصِل عن طريقه بعض العاملين في الميناء الذين يعودون في المساء إلى الأرض الإسبانيّة.
وقد ظلّت سيطرة المسلمين على الجبل ممتدّة لما يزيد على السبعمئة عام، فقد خسروه بصفة نهائيّة سنة 1492م، حيث استولى عليه الإسبان، بعد عدّة محاولات وحَمَلات.

“..وجبل طارق هذا كريم التربة، عظيم المنعة، باسق مع أعنان السماء، يكاد في المامته يصل إلى الجوزاء، كلما استودع في أرضه نما وزكا وفضل، وجل وأثمر…”

وبعد أن أنجز العمران الضخم الذي أمر به الخليفة الموّحدي عبد المؤمن بن علي، عبر البحر من “سبته” ليشهد ذلك العمران ويحفل به، وعلى أثره أُطلق اسمٌ جديدٌ على الجبل هو “جبل الفتح”. وقد كان احتفاله بإنجاز هذا العمل العظيم احتفالاً مشهوداً تبارى فيه الشعراء والخطباء…
ويُحدّثنا الأستاذ “محمد عبدالله عنان ” في كتابه القيّم “الآثار الأندلسيّة الباقية في إسبانيا والبرتغال” أنّ هنالك بقايا الحصن الأندلسيّ أو القصر الأندلسيّ أو المغربيّ، وأنّه عبارة عن قلعة حصينة، تقوم فوق ربوة عالية، تقع على مَقرِبة من الطرف الشماليّ الغربيّ للصخرة، ومن تحتها سراديب وعقود عربية، وأنّه يدلّ تخطيط القلعة وحافاتها على أنّها قد ترجع إلى عهد الموّحدين، مُشيراً إلى ما بناه الخليفة عبد المؤمن، كما مرّ ذِكره. ولكنّه يعود فيقول إنَّ بعض الأثريين يرى أنّ بناء هذه القلعة يُشبه التحصينات الغرناطيّة، وأنّها قد أُنشِئت فيما يبدو في عصر السلطان يوسُف ابن الحجاج في النِصف الأوّل من القرن الرابع عشر. ويُضيف الأستاذ عنان قائلاً، إن المُرّجح أنّ هذا البناء قد أُقيم على أنقاض القصبة الأندلسيّة القديمة، التي أُقيمت منذ الفتح. كما يذكر بعض الآثار الأخرى كالحمامات العربية والأسوار الأندلسيّة ولكنّه لا يَجزم بأشياء يقينيّة معزوّة إلى مؤسسيها، إذ يبدو أنّه لم تَعد هناك نقوش أو خطوط توضِّح ذلك بصفةٍ جازمة.

 


مقالات ذات صلة

خلال أمسية شعرية ضمَّت مجموعة من الأسماء، ألقى محمد الفرج في الجولة الأولى قصيدته وهو يمشي بين الحضور، متوجهًا إلى جمهوره بالكلام، ونظنه تعثَّر في قدم أحدهم. ولكنه استفاد من الإمكانات الأدائية الكبيرة التي يوفرها له دور الحكواتي الذي اعتاد القيام به؛ إذ إن الفرج فنان تشكيلي وحكَّاء إلى جانب كونه شاعرًا. غير أن مقدِّمة […]

صاحب حركة النهوض التي عاشتها الثقافة العربية، أثناء القرن التاسع عشر وامتدادًا إلى العقود الأولى من القرن العشرين، تدفق عدد من المفاهيم أوروبية المنشأ التي قُدّر لها أن تغيّر مسار الثقافة العربية نتيجة لجهود العديد من المترجمين والباحثين والمفكرين لا سيما من تعلم منهم في أوروبا أو أجاد لغات أجنبية. وهذه المفاهيم كثيرة ومتنوعة تمتد […]

من الملاحظات المهمة التي سمعتها من عدد من الفلاسفة الذين شاركوا في مؤتمر الرياض الدولي للفلسفة في ديسمبر 2021م، أن الحضور الغالب كان من غير المحترفين في الفلسفة. والمقصود بالمحترفين هنا هم أساتذة الجامعات وطلاب الدراسات العليا تحديدًا. فالمعتاد في مؤتمرات الفلسفة في العالم هو أن يحضرها أسـاتذة الجامعات الذين يقدمون أوراقًا علمية في المؤتمر […]


0 تعليقات على “جبل طارق والعرب”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *