مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
سبتمبر - أكتوبر | 2018

الرياض.. عندما تقلّدت عقدها الماسي


صورة نادرة للملك عبدالعزيز التقطت في البصرة سنة 1916م

في عددها العاشر من المجلد السابع والأربعين في شوال 1419هـ “يناير-فبراير 1999م” أصدرت القافلة عدداً خاصاً بمناسبة الاحتفال بمرور مئة سنة على دخول جلالة الملك عبدالعزيز -رحمه الله- إلى الرياض. ومن بين المقالات والتحقيقات التي تضمَّنها العدد، استطلاعاً كتبه رئيس تحرير القافلة السابق الأستاذ محمد غرم الله الدميني، بعنوان “الرياض تتقلّد عقدها الماسي”. وهنا مقتطفات منه.

مضينا باتجاه مبنى المتحف الوطني، الذي تبلغ مساحته الإجماليّة 29000 متر مربع، ويقــع في الجانب الشرقي من المركز. وبين لغـط عشرات العمال، وصرير آلات الثقب واللحام، وكتل الحديد والأخشاب والإسمنت المتناثرة على سطوح الأرضيات، فهمنا من مرافقنا أن المتحف قد صمم ليعكس تطور شبه الجزيرة العربية الطبيعي والإنساني والديني والثقافي والسياسي.
كان الهدف من إقامة هذا المركز الضخم في قلب الرياض، هو إعادة إحياء قلب المدينة. فرحيل مراكز النشاط التجاري والاقتصادي إلى شمال الرياض أوقف النمو الحضري الطبيعي لسكان المدينة القديمة، وحملهم على هجرها. ومشروع إحياء وسط المدينة، أو ما يسمى مشروع تطوير منطقة قصر المربع، يهدف إلى إعادة بناء اللُّحمة بين سكان المدينة وزوارها، وبين العناصر أو المفردات التاريخيّة التي تشدهم إلى روح المكان وبعده الزماني.

مبنى وزارة الداخلية في الرياض

آخر الرحلة
عندما كانت السيّارة تطوف بنا شوارع الرياض وأحياءها وساحاتها، وكنا نحاول تدوين بعض ملامح نموها الاجتماعي والعمراني والاقتصادي، بمناسبة حلول الذكرى المئويّة الأولى لتأسيس المملكة، ارتسم أمام عيني شريط من الخيالات والانطباعات، بعضها يأتي من الزمن الماضي البعيد: وبعضها خلفته قراءتي المكثفة أخيراً لما خطه يراع الرحالة والمستكشفين العرب والأجانب خلال قرن عن شبه الجزيرة العربيّة، عن الصراع السياسي فيها، وعن الصراعات الأجنبيّة عليها، وعن المعارك والدماء التي سالت فوقها، ثم التضحيات التي قدَّمها الأجداد وأوصلت هذه الأرض الطيبة إلى مظلة التوحيد.

باعة ومتسوقون ازدحمت بهم سوق شعبية في الرياض قرب الجامع الكبير، وذلك سنة 1949م

من الزمن البعيد تأتي نفحات الشعر، وسِيَر الشعراء الجاهليّين، وتنقلهم عبر ذرى اليمامة، وبين بطاحها ومناهلها، يرْثون بعضهم ويهجون أعداءهم، ويشبّبون بالنساء فتنبذهم القبيلة، ويهيمون في الصحراء، فلا تزيدهم المفازات إلا ولعاً بالشعر، وافتتاناً بالأنثى، وشجاعة في الإقدام والمنازلة. في هذه الأنحاء عَبر عنترة والأعشى، والشعراء الصعاليـك، وعمرو ابن كلثوم، وميمـون بن قيس، ورؤبـة بن العجــاج، وجرير، وغيرهم. وفي مكان قديم طمره اليوم شارع أو مبنى أو مصنع، وقف الأعشى ذات يوم يصف حبيبته فيقول:
كأن مشيتها من بيت جــــارتها
مرّ السحابة لا ريث ولا عجلُ
تسمع للحليّ وسواساّ إذا انصرفت
كما استعان بريح عشرق زجلُ
ليست كمن يكره الجيران طلعتها
ولا تراها لسر الجار تختـتــلُ
يكـــــــاد يصرعها لولا تشدّدهــا
إذا تقوم إلى جاراتها الكســلُ

صورة لقصر المربّع حين أصبح مركزاً للإدارات الحكومية عام 1949م

أمّا من الزمن القريب فتنثال أمامي صور الرحالة والمستكشفين والسياسيّين الذين جابوا الجزيرة من شمالها حتى جنوبها، ومن شرقها حتى غربها، مشياّ على الأقدام فوق الرمال اللاسعة، أو محمولين فوق ظهور الإبل، يقتلهم العطش والمرض والوحشة، ويصبحون طرفاً في نزاعات القبائل.
ما الذي يدفع المقيم السياسي لحكومة بريطانيا في الخليج، لويس بلي، عام 1865م، إلى الذهاب إلى الرياض، ليعقد معاهدة مع الإمام فيصل بن تركي، في ذلك الزمن الذي تقاس فيه المسافة بين مناطق الجزيرة بالأيام؟ وما الذي يحمل المعتمد البريطاني وليام شكسبير على التعرض لنيران مدافع ابن الرشيد في حربه مع الملك عبدالعزيز ليسقط قتيلاً في جراب عام 1915م؟ وكيف قضى عبدالله فلبي، إثر قدومه للرياض في 17 أكتوبر 1915م، ما ينيف على أربعة عقود، باحثاً ومدققاً في كل أحوال سكان الجزيرة وأنماط عيشهم، وواصفاً جغرافية البلاد وخصائصها الجيولوجيّة وملامحها الخاصة؟ وكيف تكبّد الرحّالة والمؤرخ الشهير أمين الريحاني المشاق الصعبة ليكتب كتبه المرجعيّة عن قلب جزيرة العرب، وفصول كتابه الممتع “ملوك العرب”؟ وكيف اقتحم المصوّرون الأوائل أمثال: الألماني كارل رسوان والبريطاني جورج ريندل والبريطانيّة غيرترود بيل، والبولندي محمد ليوبولد فايس، ومعهم أيضاً فلبي وشكسبير، بمعدّاتهم البسيطة، حواجز الأعراف والتقاليد الاجتماعيّة ليلتقطوا صوراً نادرة، أصبحت فيما بعد تاريخاً مصوراً لمظاهر الحياة الصعبة، وسبل العيش القاسي التي اكتنفت سكان الجزيرة عشرات السنين؟
مثل هذه الأسئلة وغيرها تضفي على مدينة الرياض، وهي تحتفل بالذكرى المئويّة الأولى، مزيــداً من السحر والعبق التاريخي، والثقة بالعبور إلى القرن الحادي والعشرين.

 

 

 

 

 


مقالات ذات صلة

التحول الكبير في أفريقيا، حيث تعرَّف الأفارقة على فنون وتقنيات وإبداعات لم يألفوها، وظهرت اللوحة الفنية، التي كانت أعجوبة حيَّرت العين الإفريقية.

يستطيع المتأمل في تجربة محمد الفرج بسهولة ملاحظة ملمح يتكرَّر في أعماله، وهو أن الفنان لا يتورَّع عن كشف الذهنية التي أوصلته إلى تنفيذ عمله الفني.

صاحب حركة النهوض التي عاشتها الثقافة العربية، أثناء القرن التاسع عشر وامتدادًا إلى العقود الأولى من القرن العشرين، تدفق عدد من المفاهيم أوروبية المنشأ التي قُدّر لها أن تغيّر مسار الثقافة العربية نتيجة لجهود العديد من المترجمين والباحثين والمفكرين لا سيما من تعلم منهم في أوروبا أو أجاد لغات أجنبية. وهذه المفاهيم كثيرة ومتنوعة تمتد […]


0 تعليقات على “الرياض”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *