أدب وفنون

جائزة نوبل في دائرة الشك مجدداً

الروائي كازو إيشيغورو.. لماذا؟

عندما منحت الأكاديمية السويدية في العام الماضي جائزة نوبل القيّمة للمغني والشاعر الأمريكي بوب ديلان، اندلعت زوبعة من الجدل العالمي حول صدقية لجانها واختياراتهم التي ازدادت سنة بعد سنة إثارة وغرابة.. لكن في الخامس من أكتوبر، كشفت الأكاديمية السويدية اسم الفائز بجائزتها لعام 2017م. وتوجت الكاتب البريطاني ذي الأصول اليابانية كازو إيشيغورو. حينها انهارت التكهنات الكثيرة، التي عبّر عنها النقَّاد والناشرون والصحافيون والمراهنون، وتذهب كلها لصالح ثلاثة أسماء، هي: نغوجي ثيونغــو، أو مارغريـت أتوود أو هاروكـي موراكامي، وبرزت مجدداً الأسئلة المشككة بموضوعية الجائزة.

في خضم المنافسة على جائزة نوبل لهذا العام، كانت ترد بعض التصريحات من هنا وهناك تصر على أن الأقرب إلى الفوز بالجائزة هذه المرة هو هاروكي موراكامي، لسبب وحيد وهو أن اللجنة أصبحت أقل أصالة وعمقاً، وفي هذه الحالة لن يكون الأدب الرفيع محظوظاً.

سنوات سارة دانيوس المثيرة
وبعد حصول الروائي البريطاني كازو إيشيغورو، على جائزة نوبل في الأدب لعام 2017 تبخرت أيضاً كل التوقعات الرصينة، التي كانت تميل إلى تتويج الأدب الإفريقي ومعـه الروائي الكينى نغوجي ثيونغو، لعل هذا الاختيار يعيد نوبل إلى الصواب والأدب الرفيع.
لكن حسب لجنة الجائزة فإن إيشيغورو يستحق التتويج، لأنه “كشف في رواياته التي تتسم بقوة عاطفية عظيمة الخواء الكامن تحت شعورنا الواهم بالعلاقة بالعالم”. فهل القوة العاطفية العظيمة كافية لمنح الروائي الجائزة؟ ألا يمكن تعميم هذا المبرر على زميله موراكامي أو الكاتبة الكندية مارجريت آتوود..لا بل إن معظم الروايات الناجحة تستند إلى القوة العاطفية والإحساس بالتوتر تجاه العالم. وأكثر من ذلك، فإن الأدب الشعبي والهجين نفسه يوظف هذه المعادلة الروائية.

لم يكن الاستغراب مقتصراً على مجموعة من النقَّاد الأدبيين،

 

الذين يرون أن تقاعد سكرتير اللجنة المثقف والكاتب والمؤرخ هوراس إنغدال وتعويضه بالسكرتيرة ماريا سارة دانيوس يؤشر على تغييرات كثيرة مقبلة وربما لا يتوقعها أحد. فهل يعكس هذا التجديد توجهاً جديداً في اختيارات لجنة نوبل؟ يبدو أن الأمر يحمل كثيراً من المؤشرات الصائبة. ولنتأمل هذه المعطيات، انتُخبت السويدية دانيوس في مارس 2013م، عضواً في الأكاديمية السويدية لتشغل المقعد رقم 7، الذي كان يشغله سابقاً كنوت أهنلوند. وفي عام 2015م أصبحت أميناً دائماً للأكاديمية، لتصبح أول امرأة تشغل هذه المهمة. وفي سنة وصولها، فازت بنوبل أليس مونرو، وبذلك تم تتويج القصة القصيرة، هذا الجنس الأدبي المستبعد عن التتويج والأضواء، رغم وجود منافسين أهم منها أدبياً، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر زميلتها مارغريت أتوود. وفي السنة التالية فاز الفرنسي باتريك موديانو وحوله أيضاً طفت غيمة من التشكيك في قيمته الأدبية وانتماءاته العرقية. ولا ننسى أن دانيوس متخصصة في الأدب الفرنسي وكتبت كتباً عن الروائيين الفرنسيين. وفي العام الحاسم، أي 2015 خرجت السكرتيرة الجديدة لتعلن أن الفائزة هي الكاتبة والصحافية البيلاروسية سفيتلانا ألكسيفيتش، مبررة منحها نوبل بالقول إن كتاباتها متعددة الأصوات وتمثل صرحاً عن المعاناة والشجاعة في زماننا، رغم أن القيمة الأدبية للكاتبة كانت موضع تساؤلات كثيرة. وبالعودة إلى أعمالها الروائية، نصطدم بحقيقة جلية أن سفيتلانا صحافية تحقيقات أكثر منها كاتبة روايات. وإذا عدنا إلى مبدأ الالتزام وصراعها السياسي لاحترام حقوق الإنسان، فهذا الأمر سيجعلها في قائمة جائزة نوبل للسلام لا متوجة بجائزة نوبل للأدب. فمن الواضح إذاً أن سنوات دانيوس عرفت اختيارات مثيرة ومفاجآت من العيار الثقيل.

كازو إيشيغورو بين أوستن وكافكا
تقول سكرتيرة الجائزة دانيوس مبرِّرة حصول كازو إيشيغورو على الجائزة “إذا مزجنا جين أوستن وكافكا، نحصل على كازو إيشيغورو” إن الإحالة إلى أوستن بارزة في أعمال كازو، وتبدو بجلاء في رواية “بقايا النهار”، التي أكسبت كازو إيشيغورو شهرة عالمية؛ لأنها أولاً حصلت على جائزة “المان بوكر” في عام 1989م، وترجمت إلى عدة لغات، وثانياً لأن حضور الروايـة تعزِّز بعد نقلها إلى فِلم سينمائي ناجح أخرجه جيمس ايفوري في عام 1993م، ولعب بطولته الممثل القدير أنطوني هوبكنز وإيما طومسون.
يقول كازو عن روايته ساعة تألقها: “لقد وضعت روايتي في إنجلترا الأسطورية هذه لخلخلتها وتفكيك مجتمعها بشكل أفضل. إن الحنين هو سلاح سياسي يحافظ عليه المحافظون، ويخدمهم للترويج أن هذا البلد كان أجمل قبل وصول الأجانب، وقبل أن يتعرَّض النظام الطبقي للهدم، قبل أن يصبح جيل الستينيات متساهلاً ومتسامحاً”. في هذا المقام بالذات نجد طيف كافكا حاضراً بقوة. خاصة وأن كازو يحب تحويل الوقائع اليومية العادية والأحداث الرتيبة إلى هواجس وقضايا ذاتية عن الهوية والاندماج والتثاقف. إنها كتابة تحاول تصفية حساباتها مع المجتمع التقليدي وقيمه العتيقة، لكن من دون حل للصراع ولا رغبة في الانتصار.

بين اليباب والاغتراب
ولد إيشيغورو في نغازاكي عام 1954م، وهاجر إلى إنجلترا في سن الخامسة مع والده عالم جيولوجيا البحار الذي كان يفكر في العودة إلى اليابان، ولكن تجديد عقده إلى أجل غير مسمى سمح له بالبقاء. عرقلت الثقافة المزدوجة إيشيغورو على التحرك نحو الأدب. كان يحس أن ما سيكتبه لن يفهم أبداً. فهو يحمل الآن من المرجعية القرائية مكتبة كاملة من اللغة والخيال والقيم، ولكنه يحمل أيضاً ذاكرة مؤثثة بذكريات اليباب الذي أصاب مدينة نغازاكي مدينة الأشلاء والبقايا والخراب النووي. فكيف يمكنه أن يكتب أدباً من كل شيء ومن لاشيء؟
بدأب كبير وبصيرة فذة، تمكَّن إيشيغورو من كتابة حكايات تحفر في الحياة اليومية الغريبة بالنسبة للقادم من اليابان. وكان تركيزه على فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وتأثيرها على الذات المتشظية بين هوية مزدوجة ومجتمع يميل إلى إقصاء الأجنبي. فجاءت أعماله الروائية تباعاً “ضوء شاحب على التلال” في عام (1982م)، و”بقايا النهار” (1990م) و “لا تهجرني أبدًا” (2006م). وبذلك، أصبح روائياً معروفاً، ولكنه أيضاً كاتب سيناريوهات للسينما، من خلال تجربة “بقايا النهار” في عام 1993م، و “لا تدعني أذهب أبداً” مع المخرج مارك رومانيك في عام 2010م. كان كازو إيشيغورو قد حصل بالفعل على التشجيع والتنويه من طرف النقَّاد والإعلام والقراء.
لكن اليابان، التي تركها في سن الخامسة، ليست سوى صورة غامضة. وعلى الرغم من أنها غنية بالألوان، لا يمكنه أن يتذكرها إلا خيالياً. فاليابان بالنسبة للمؤلف الذي عاش وتعلَّم في إنجلترا ليست سوى ذاكرة بعيدة وهاربة، وفاتنة على وجه التحديد بغرابتها. وإذا كان كازو اختار هذا البلد الذي لا يعرفه جيداً ولم يره في شبابه كإطار لروايتيه الأوليين، فذلك لأن النسيان جعل نظرته إلى اليابان نظرة عجائبية وشبه خيالية. كانت اليابان شرنقة هلامية، لكنها المكان المثالي لكاتب شاب حالم مزدوج الثقافة، لصبّ خياله في قالب حكائي جديد يسبر الماضي ويستشرف المستقبل. وبهذه الطريقة فقط أثّرت اليابان (بلده الأصلي) في تجربته الأدبية.

ولأنه تعلّم في المدارس الجيدة في إنجلترا بعد أن درس اللغة الإنجليزية والفلسفة في جامعة كينت، تابع دورات الكتابة الإبداعية في جامعة إيست أنجليا، محاطاً من كل جانب بالأدب الإنجليزي الذي يكن له كازو التقدير والتعظيم، معترفاً في مناسبات عديدة بفضل ديكنز، وجورج إليوت. كما تأثر تأثراً كبيراً بالثقافة الأمريكية، خلال سنوات ما بعد الثانوية التي قضاها في الولايات المتحدة، حيث رافق تيار الهيبيز، وسافر على طول الساحل الغربي، وقيثارته على ظهره، مع رصيد ائتماني لا يتجاوز الدولار الواحد في اليوم.
كان يتحدَّث في بيت الأسرة باللغة اليابانية مع والديه. لكنه يصرح اليوم أنه يتكلمها بطريقة “سيئة للغاية”. وفي المقابل، تمكَّن الرجل من امتلاك لغة التبني والتعليم، اللغة الإنجليزية، إذ أصبح قادراً على صياغة الواقع الاغترابي بأسلوب مبتكر وقوي، وتكييفه حسب صورة السارد، كما هو الحال مثلاً في “بقايا النهار”، التي سردت بلغة إنجليزية جليلة وشديدة البرودة على لسان ستيفنز بتلر، السارد والشخصية الرئيسة.

اليابان، التي تركها إيشيغورو في سن الخامسة، ليست سوى صورة غامضة، على الرغم من أنها غنية بالألوان، لا يمكن أن يتذكرها إلا خياله

قبل عامين، نشر كازو إيشيغورو كتابه الأخير 2015م، “العملاق الدفين”، وهي رواية تدور أحداثها في إنجلترا السلتية/القروسطية في عهد الملك آرثر. تستحضر هذه الرواية الفريدة من نوعها المخلوقات السحرية والأسطورية. فهل هي رواية عجائبية؟
على الرغم من أن منتقديه يتهمونه بازدراء هذا النوع، إلا أن إيشيغورو ما زال يرفض التصنيف على هذا النحو؛ لأن الخيال الروائي بالنسبة له لا يمكن تصنيفه، سواء أكان واقعياً أو عجائبياً أو خيالاً علمياً كما في روايته “لا تهجرني أبدًا”، فهو ليس سوى أداة ضرورية لمنح العمل الروائي قوة وامتداداً دلالياً، وارتباطاً بالسياق المكاني والتاريخي ووضعيات الشخصيات، فهذه المكونات تبقى في المقام الأول قيماً رمزية.
سعى إيشيغورو منذ بداياته إلى كتابة أدب “عالمي” يحمل قيماً جديدة. فما يهم الكاتب أولاً وقبل كل شيء هو جوهر طبيعتنا البشرية. وهذا، ما نجده في “بقايا النهار”، إذ تصبح الشخصية وسياقها الاجتماعي والنفسي استعارة كبرى عن سياق اجتماعي وثقافي عام. فمهنة رئيس الخدم مثلاً التي تُعد مهنة إنجليزية ترتبط بثقافة طبقة أرستوقراطية وسلوكات تتسم ببرودة عاطفية عالية وكبرياء مبالغ يكمن في كل شيء، تجعل من الصعب فرز وجهات النظر السردية بين ما هو اجتماعي وسياسي وعاطفي.
لم يسقط كازو في فخ الكاريكاتير، بل على العكس من ذلك، فإن شخصياته مركبة ومعقدة جداً. كما أن كل شيء يبدو خفيفاً وهادئاً على سطح حكاياته. ولكن تحت الجلد يخيم عالم أكثر اضطراباً. وبفضل السرد الذي يغلب عليه “ضمير المتكلم”، يقود القارئ إلى التعاطف فوراً مع هذه الشخصيات الناقصة التي تواجه قصورها وأخطاءها كاشفة على مدار السرد طابعها السيكولوجي، بمهارة ذهنية وضمنية تكثف المعنى وتزيد من غموض حياة الشخصيات، التي تكتشف في النهايــة أن الانفلات من الاغتراب يكمن في الإذعان الحزين.

أضف تعليق

التعليقات