التعريف بالمهندسة المعمارية العراقية الراحلة زها حديد، يشبه التعريف بمعالم هندسية مشهورة في أنحاء العالم، كدار الأوبرا في مدينة غوانزو الصينية، أو مبنى شركة السيارات الألمانية “بي إم دبليو” المركزي في مدينة لايبزيغ، أو مركز الملك عبدالله للدراسات والبحوث البترولية “كابسارك” في الرياض. فالمعمارية العراقية كانت تُعرف -قبل رحيلها- من مجرد ذكر اسمها، كما لو أنها أحد الأعمال الهندسية التي صممتها بنفسها، والتي توزّعت في أنحاء مدن العالم، وصارت تشبه مصمّمتها وكأنهما كائن واحد. فكما يعرف الناظر أن هذه لوحة هي لفان غوغ أو بيكاسو أو سلفادور دالي بمجرد النظر إليها، باتت تصاميم حديد كذلك.
تميّز معماري فني
تقوم أفكار زها حديد الهندسية على تدوير الزوايا والانسيابية وكسر الخطوط المستقيمة عامودياً وأفقياً، وإعادة تركيبها في توليفة جديدة، وهذا ما جعل معظم أعمالها مخالف لطبيعة الاستقامة والتقاء الخطوط في زوايا. وجميعها مشغولة بحس جمالي ثقافي نابع من كون المصممة رسّامة أيضاً ومصوِّرة فوتوغرافية ومصممة مجوهرات وأثاث في أهم الشركات أو دور الأزياء والتصميم، ما يجعل أعمالها الهندسية أقرب إلى أن تكون أعمالاً فنية تشكيلية، مما هي مجرد تصاميم هندسية رياضية.
حصدت حديد في حياتها شهرة كرَّستها على رأس لائحة المعماريين في العالم. ونالت عدداً كبيراً من الجوائز عن تصاميمه، كما كانت في العام 2004 أول امرأة تحصل على جائزة “بريتزكر” في الهندسة المعمارية التي يشار إليها أو توصف بأنها جائزة نوبل للهندسة المعمارية، إضافة إلى فوزها مرتين بجائزة “ستيرلينج”، وحصولها على وسام الإمبراطورية البريطانية، والوسام الإمبراطوري الياباني، وتعدد مرات حصولها على الميدالية الذهبية الملكية ضمن جائزة “ريبا” .
تصف حديد تصاميمها، في احدى المقابلات التي أجريت معها، بأنها تنتمي إلى مدرسة “المعمار التفكيكي” الذي ينبع من سلسلة كاملة من الأشخاص الذين كانوا معنيين بالتبعثر والتكسر. و”في بداية القرن العشرين، راحت بعض الحركات الفنية المعنية بالتجريد تنظر إلى الفن المجازي وإلى تجريدات هندسية مثل الخطوط العربية والصينية… أول من اكتشف العلاقة بين كتابة الأحرف والتصميم المعماري هو كولهاس، حين لاحظ أن طلبة المعمار العرب والإيرانيين (وأنا واحدة منهم) قادرون على عمل تعبيرات منحنية أكثر من غيرهم، مما جعله يفكر أن ذلك ناجم عن خط الكتابة العربية نفسه”.
من الأهوار إلى العالمية مروراً بالرياض
زها حديد ابنة بغداد، ولدت فيها عام 1950، وترعرعت في أحيائها، وتلقَّت الدراسة الابتدائية والثانوية في مدرسة الراهبات الأهلية ثم في مدرسة خاصة في سويسرا، قبل أن تنتقل إلى بيروت للدراسة في الجامعة الأمريكية، بعد ذلك درست في الفترة ما بين عامي 1972 و1975 فن الهندسة المعمارية، لتلتحق بمكتب كولهاس، أستاذها السابق الذي وصفها بأنها “كوكب يدور في مداره الخاص”، وذلك قبل أن تؤسس مكتبها الخــاص الذي سيحصــد شهرة عالميــة قلّ نظيرها.
لم تكن هذه المهندسة التي ارتقت سلُّم العالمية بجهد وإصرار تدعمهما الموهبة، بعيدة عن مدينة الرياض بالمعنى الثقافي الاجتماعي، أي بطقسها ورمال الكثبان والبوادي، وواحات النخيل وبيوت الطين في الدرعية، والأحياء الداخلية الضيقة المصممة بطريقة تسمح بتبريدها ومرور نسائم الهواء فيها، والتي تتلاءم في تصميمها وتركيبها وتوزيعها والمواد المستعملة فيها مع الطبيعة المحيطة بها كما كان الحال في الأهوار العراقية حيث يتداخل عيش البشر بطبيعة الأهوار، وتتذكر حديد تأثير الأهوار على افكارها الهندسية قائلة: “أذكر إجازاتنا مع أهلي في منطقة الأهوار، جنوب العراق، التي كنا نسافر إليها عبر مركب صغير. كنت انبهر بطبيعتها، وخصوصاً بانسياب الرمل والماء والحياة البرية التي تمتد على مرمى العين، فتضم كل شيء حتى البيوت والناس. اعتقد أن هذا العنصر المستوحى من الطبيعة وتمازجها مع العالم الحضري، ينسحب على أعمالي، فأنا أحاول دائماً التقاط تلك الانسيابية في سياق حضري عصري. وحين درست الرياضيات في بيروت، أدركت أن ثمة علاقة تربط بين المنطق الرياضي والمعمار والفكر التجريدي”.
إبداعاتها في الرياض
عملت حديد على تصميم ثلاثة مشاريع كبرى لمدينة الرياض المحببّة إلى قلبها بسبب امتدادها الأفقي، وتطوّرها السريع، وتمدّدها سنة بعد سنة على مساحات واسعة، وكأنها موجة هادرة لا تعرف شاطئاً ترسو عليه. وهذا النوع من المدن الحديثة والجديدة لطالما جذب هذه المهندسة الموهوبة، خصوصاً في المدن الصينية الناشئة وفي مدن دول شرق آسيا التي ازدهرت في العقود الماضية.
وتصاميمها للرياض هي المحطة الرئيسة لمترو الرياض، وصرح ثقافي هو مركز التراث العمراني في الدرعية، وآخر علمي هو مركز الملك عبدالله للدراسات والبحوث البترولية “كابسارك”.
فحي الطُريف في الدرعية التاريخية القريبة من العاصمة الرياض مدرج على لائحة التراث العالمي، وقد فازت زها حديد بتصميم أحد المشاريع المهمة فيه قبل وفاتها في العام 2016، وهو مشروع “مركز التراث العمراني” الذي ستكون إحدى وظائفه الحفاظ على هذا الموقع التراثي العالمي التاريخي.
استوحت زها حديد تصاميم المركز من التراث العمراني للدرعية نفسها، ومن الكثبان الرملية والبيئة التراثية، خصوصاً في حي الطريف الذي يضم أهم معالم الدرعية التاريخية، ومنها قصر سلوى ومسجد الإمام محمد بن سعود ومجموعة كبيرة من القصور والمنازل، إضافة إلى المساجد الأخرى والأوقاف والآبار والأسوار والمرافق الخدمية. وأعطت للمركز شكلاً من خطوط متعرجة كما الكثبان الرملية، وخطوطاً مستوحاة من المناظر الطبيعية والمباني التاريخية التي تحيطه. وقد جعلت فيه أربع واحات خضراء، كاستعادة لعلاقة سكان الدرعية بالطبيعة من حولهم، حين حوّلوا الوادي إلى واحة خضراء كبيرة، قبل أن تتوالد مدينة الرياض من ذاك الحي وتتمدَّد.
وفي تصميمها لـ “مركز الملك عبدالله للدراسات والبحوث البترولية” انطلقت حديد من” ترابط الخلايا السداسية الشكل في ورق الشجر كتأكيد وتحقيق لفلسفة التواصل”، كما يكتب المهندس نيروز يوسف منذر في أحدى مقالاته حول هندسة “كابسارك”، واستخدمت في تحقيق التوافق مع الطبيعة، الفناء والبهو الواحة الصغيرة في داخله لربطه مع التراث العمراني للمنطقة، ومراعاة المناخ المحلي، بعد توسيع وتحديد المناطق المظللة والحدائق والفراغات المفتوحة، حيث تتم استضافة اللقاءات والاجتماعات.
وأبرز الأفكار التي ميَّزت الرؤية التصميمة للمركز هي قابليته للتوسع في المستقبل في حال حدوث متغيرات تتطلَّب زيادة المساحات أو بناء أقسام جديدة، وقد سهل ذلك الهيكل الخلوي المستوحى من الأشكال البلورية، التي تبدو وكأنها لعبة “البازل” التركيبية، حيث تكون كل قطعة من المبنى معدة لاستقبال قطعة أخرى تلتصق بها عند الحاجة.
وقد حصل المبنى الرئيس في المركز على الجائزة البلاتينية من “الريادة في الطاقة والتصميم البيئي” (LEED) بسبب تصميمه الصديق للبيئة.
وفي الرياض صممت حديد محطة مترو الرياض في مركز الملك عبدالله المالي، وهي المحطــة الرئيسيــة التي تتقاطــع عندها عدة خطوط، وتُعد واجهة المشروع برمته.
فعلى مساحة إجمالية تبلغ 20434 متراً مربعاً. يجري حالياً بناء هذه المحطة المستقبلية لتكون بمنزلة نقطة التبادل الرئيسة ما بين ثلاثة خطوط. وقد صممتها حديد لتكون ذات ست منصات على أربعة طوابق عامة ومستويين تحت الأرض كمواقف للسيارات. ويمتد المشروع بتصميمه الخلاب خارج التصنيف المعتاد لمحطات النقل، باحتوائه على ساحـات عامة وتعدد وظائفه، فهو ليس فقط موقع وسط ونقطة التقاء الناس خلال رحلاتهم اليومية، ولكنه أيضاً ساحة عامة للمدينة ككل.