يستحوذ الاهتمام بالإبداع السردي على طائفة غير يسيرة من الأجيال الشابة في الخليج وخارجه، وتدعم ذلك وتمهّد له مواقع القراءة، ومدوّنات القراء، ومواقع التواصل الاجتماعي، مثل تويتر وفيسبوك، وهذا من شأنه أن يصنع جيلاً بأكمله من القرّاء الذين يتابعون صنفاً بعينه من الكتب والمؤلفين، وقرائهم.
وعلى حين تستبق دور النشر في لبنان ومصر وغيرهما إلى ترجمة الأعمال الأجنبية، ويتنافس القراء على التباهي بأنهم حصلوا على ترجمة هذه الرواية أو تلك، وقرأوها، ودوّنوا عنها، وفي حمى هذا اللهاث الماراثوني، نلاحظ تغيّراً يسترعي اهتمام الواعي، وهو: كثرة الأعمال المترجمة، وتفاوت مستوياتها، وانتشار المديح المفرط من القرّاء والمقالات والتدوينات؛ لترويج بعض الأعمال المترجمة ترجمة رديئة، دون أدنى تنبيه أو تحذير أو تقويم نقدي لهذا العدد الكبير من النصوص المترجمة.
ففي تقويم الأعمال المترجمة ، لا يخرج الحديث – في معظمه – عن الإشادة بالكاتب المترجَم له وكتابِه، خصوصاً إذا سبق له نيل جائزة من الجوائز، وكأنّ الكاتب يجاوز قنطرة النقد إذا حصل على جائزة في بلد غربي، أو تُرجم إلى لغات عدّة، وعليه؛ ما عاد من حق القارئ إلا أن يُشيد به! وفي المقابل، نشهد قسوة شديدة من هذا الجيل في الحكم على كتابات المؤلفين العرب، التي لم يستكملوا مرحلة الاطلاع عليها؛ لأن الأعمال المترجمة المراكَمة عليهم لا تتيح لهم ذلك، ومع ذلك فإن لهم آراءً طاردة عن قراءة الكتّاب العرب، خصوصاً الروّاد منهم، حتى الذين حصلوا على جوائز عالمية. وهذا يدل على ضيق الصدر بالكتابة العربية، والإعراض عن قراءة منجزها وتقويمه، مع مناصبتها العداء، في ظل ضعف في مستوى الفرز أو التقويم، مع الانسياق وراء مؤثرات غير ذاتية ولا موضوعية – وإنما هي تسويقية بحتة – عند قراءة الأعمال المترجمة وتقويمِها.
فعلى سبيل المثال: في ترجمة دار كلمة لرواية “كان الثعلب يومها هو الصياد”، نجد على الغلاف الخلفي ما نصه: “عاشت هيرتا موللر في برلين حتى عام 1987م”. ثم نجد على الغلاف الخلفي الذي طبعته الدار نفسها لترجمة رواية “ما الإنسان سوى دراج كبير في هذه الدنيا” للكاتبة نفسها، ما نصه: “تمكنت في عام 1987 من مغادرة رومانيا إلى برلين، حيث ما زالت تقيم حتى اليوم”.
فأيهما الصحيح؟
قد يقال: إن هذا خطأ طباعي، وهذا القول قد يكون صحيحاً، لكن المراد ضرب مثال في هذه العجالة على أحد الأخطاء التي أصبحنا نجدها في هذه الترجمات.
وفي مقدمة ترجمة “الهيئة المصرية العامة للكتاب” لرواية “ليتني لم أقابــل نفسي اليوم” للكاتبــة نفسها أيضاً، يصدر عن المترجم ما يشبه التنبيه إلى أن ترجمـة “دار كلمة” لعنوان رواية “إسقاطات” للكاتبة المذكورة غير صحيحة، وأن الترجمة الصحيحة هي: “منحدرات”، غير أن المترجِم المستدرِك يعود ويخطئ عندما يعرض في مقدمته لأحداث جرت في رواية أخرى هي: “كان الثعلب يومها هو الصياد”، فيقول إن البطلة كلارا كانت زوجة عميل لدى نظام تشاوشيسكو، وهذه معلومة خاطئة أيضاً، يعرفها من قرأ الرواية وأمعن النظر وقارَن.
فمن أين لنا أن نثق بأن هذه الترجمة أو تلك ترجمةٌ سليمـة على النحو المنشود؟!
أما الحديث عن الأخطاء اللغوية والركاكة الأسلوبية، وشيوع العبارات العامية في هذه الكتب، ووجود مقاطع مستغلقة لا يُفهم من ترجمتها شيء، وأخرى كأنها مترجمة ترجمة آلية، فهو أمرٌ حدّثْ به ولا حرج، حتى إن بعض قراء موقع غودريدز العاديين رصدوه في انتقادهم الشديد لترجمة رواية “أرجوحة النفس” للكاتبة نفسها أيضاً، وهي أفضل أعمالها في نظر بعض النقاد، وصدرت عن دار كلمة أيضاً، فكال قرّاء الموقع لها اللوم الذي تستحقــه على رداءة الإصدار، من غير بخس ولا تطفيف، وكان تعليق أحدهم أن: “الترجمة كانت في منتهى الفشل”.
يبدو أن زمن المترجمين الموثوقين والدور الموثوقة في الترجمة قد غبَر، وما عاد أمام القرّاء من سبيل إلا أن يحترفوا بأنفسهم مهنة مراجعة الأعمـال المترجمــة عوضاً من الناشريــن ومراجعيهم في هذه الدور.
وتحضرني الآن – وبهذا أختم – ذكرى ناشر اتصلت به لكي أسأله عن بعض الأخطاء في أحد الكتب، فصرح لي، هاتفياً، بأنه لم يقرأ الكتاب، ولم يعرضه على من يراجعه من الأساس، ولكن بما أن كاتبه مرموق ومشهور وعنوانه يبيع فهو مضطر إلى نشره، وأما قراءة مئات الصفحات وتجشم عناء مراجعتها وتقويمها، فذلك أمر له أهله، وأخشى ما أخشاه أن أهله في تناقص، يوماً بعد يوم.