في ذكرى مرور أربعة قرون على وفاة الشاعر والمسرحي الإنجليزي الكبير وليم شكسبير، انطلقت في شتى البقاع، وبالأخص في موطنه، مهرجانات تحتفل بالذكرى الأربعمائة لوفاة واحد من أعظم الكتَّاب المسرحيين على الإطلاق. وتشمل تلك المهرجانات عروضاً ومسرحيات وأسواقاً وجولات وندوات وغيرها، تهدف جميعها إلى احتفاءٍ يليق بالإرث الأدبي الخالد الذي تركه شكسبير من أعمال شعرية ومسرحية كلاسيكية تربّع بسببها على عرش الأدب.
من ناحية أخرى، أكثر إثارة ربما، أعادت هذه المناسبة إلى الواجهة من جديد أسئلة حول حقيقة شكسبير، يصل بعضها في شكوكه إلى اعتباره شخصية مُختلَقة ولا وجود لها على أرض الواقع. وقد طُرح هذا السؤال من قِبل مجموعة من الباحثين، واتُخذت في سبيل الإجابة عنه خطوات تراوحت بين الجدية العلمية ومحض الافتراض. إضافة إلى أنه، ومنذ وقت مبكِّر، ارتفعت شكوكٌ حول عدد من النصوص التي نُسبت إلى شكسبير، وبعض تلك النصوص لا يزال الخلاف حول مؤلفها قائماً حتى اليوم.
تتعزَّز الشكوك المتعلِّقة بأصالة شكسبير بشبه انعدام الوثائق التي تسجل حياته الخاصة. فظهرت نظريات تنفي وجود شكسبير بالشكل الذي يعرفه العالم اليوم. وبالطبع، تقدِّم هذه النظريات فرضية بديلة تقول إن ما نُسب إلى شكسبير من نتاج أدبي، إنما كتبه كتّاب آخرون أرادوا أن يستخدموا شخصية شكسبير قناعاً لأفكارهم، يقيهم مواجهة السلطة آنذاك. بمعنى آخر، لم يكن اسم وليم شكسبير في رأي تلك النظريات سوى اسم مستعار. بل إن سبع سنوات من حياته ظلت مجهولة الأثر تماماً، وأسهمت في ظهور فرضيات مختلفة عن مكانه، ودعمت فرضيات أخرى متعلقة بمن رُشحوا ليكونوا مؤلفي مسرحيات شكسبير، وهم كُثر.
هل هو كريستوفر مارلو؟
ولعل أهم الأسماء التي طُرحت باعتبارها أسماء المؤلفين الحقيقيين لمسرحيات شكسبير هو الكاتب الإنجليزي الشهير كريستوفر مارلو. فقد قابل شكسبير كريستوفر مارلو الذي تشبه قصةُ حياته قصةَ حياة شكسبير، في ما عدا أن الأول تلقَّى تعليماً ممتازاً وحصل على منحتين للدراسة إحداها من أكاديمية الملك النحوية الشهيرة التي ارتبط اسمها باسم شكسبير في ما بعد، والأخرى من جامعة كمبردج.
وذاع صيت مارلو في المسرح بعد أن كتب مسرحيات عظيمة. لكن الجزء الذي يثير التساؤل بالنسبة لعلاقته بشكسبير يكمن في النشاط السياسي الذي مارسه مارلو معارضاً، وأدّى به إلى مواجهة عقوبة الإعدام، ثم قُتل في شجار قبل إعدامه ببضعة أيام. وتقول النظرية إن مارلو زوَّر حادثة موته ولاذ بالهرب سراً. ولم ينشر شكسبير أول أعماله إلا بعد اختفاء مارلو. وتستند هذه النظرية أيضاً إلى تشابه كبير بين أعمال كل من شكسبير ومارلو، سواء في الموضوعات أو في الأسلوب، كما أن كليهما استخدم الشعر الحر، واستعمل الرموز نفسها. واستشهد مروِّجو تلك النظرية بجملٍ تصل أحياناً إلى حدٍّ التطابق وجدت في مسرحية مارلو «يهودي مالطا» ومسرحية شكسبير «روميو وجولييت».
افتقاره إلى التعليم الأكاديمي!
وكما أشرنا سابقاً، لم يحفظ التاريخ أية وثائق ومن أي نوع، سواء أكانت أوراقاً رسمية أم إشارات من أولئك الذين عاصروا شكسبير، تدل على أن أكبر أديب إنجليزي تلقَّى تعليماً معتبراً، لكونه لم يلتحق بجامعة على الإطلاق. وهذا ما جعله محل انتقاد بعض الأدباء من أمثال مواطنه الشاعر والمسرحي بن جونسون. ولكن، في الوقت نفسه، أصبح السؤال مُلِحاً حول كيفية تفسير براعة شكسبير الأدبية في وقت تنعدم فيه احتمالية انخراطه في التعليم. وعلى سبيل المثال، كيف يمكن تفسير معرفة شكسبير الضليعة باللاتينية التي استُدلّ عليها من خلال مقولات من الأدب اللاتيني وضعها الكاتب على أفواه شخصياته المتعددة؟. كما أن من تبنَّى النظرة التشكيكية في مسرحيات شكسبير لم يجد توافقاً منطقياً بين سيرة الكاتب الذاتية وبين روح كتاباته وأجوائها الأرستقراطية. على كل حال، لم يتوصل الباحثون إلى إجابات شافية في هذا الشأن، وهذا ما جعل أسئلة «أصالة» شكسبير قائمة حتى يومنا هذا.
الاستنجاد بالتطبيقات الحاسوبية
استمراراً في تقصي الفرضيات المشككة في وجود شكسبير أو في كونه فعلاً مؤلف كل الأعمال المنسوبة إليه، استُعين بالتطبيقات التي تقدِّمها تقنية الحاسوب لحل لغز شكسبير في أكثر من مرة مؤخراً.
فالإمكانات التي باتت متوفرة بفضل استخدام الكمبيوتر في التحليل الأدبي هائلة، وأسفرت عن نتائج مذهلة من خلال قدرتها على القيام بمهام تستعصي، أو تكاد، على الاستطاعة البشرية، مثل إحصاء الكلمات والتعابير، وتتبّع تكرارها في العمل الأدبي الواحد أو في مجموع الأعمال الأدبية، من أجل استنباط أنساق مفرداتية وأسلوبية يمكن أن تنبئ عن كاتب النص الحقيقي. وهكذا عُقدت مقارنات حاسوبية بين شكسبير وغيره من الكتَّاب المسرحيين الذين يشتبه في أنهم مؤلفو مسرحياته الحقيقيون.
إذ بدءاً من العام 1987م، شرع باحثون في مقارنة أسلوب شكسبير بسبعة وثلاثين كاتباً آخرين قُدِّموا باعتبارهم هم من كتب في الأصل أعمالاً منسوبة إلى شكسبير. هذه المقارنة مستمرة إلى الآن، وكان من نتائجها أن الأعمال الأدبية التي خضعت للمقارنة تكشف عن أسلوب متسق لكاتب واحد وليس لكتَّاب متعددين. كما أظهرت النتائج أيضاً أن الأسلوب المفحوص في تلك الأعمال يبيّن أن كاتبها يختلف في أسلوبه عن كل أولئك المرشحين ليكونوا الكتَّاب الأصليين.
وإضافة إلى ما تقدّم، يبدو الكمبيوتر أكثر إنصافاً لشكسبير من المؤرخين، إذ ظهرت أبحاث ودراسات عدة أجريت بمساعدة برامج الكمبيوتر، وتشير إلى نسبة احتمالية عالية بأن يكون شكسبير مؤلف أعمال لم تُنسب سابقاً إليه، ولو على سبيل المشاركة في تأليفها.
من أديب شعبي إلى أديب النخبة
من سمات أدب شكسبير أنه يحتل مكانة مرموقة بين متذوقي الأدب الرفيع. وما فتئ الباحثون في الجامعات وسائر المؤسسات الأكاديمية ينهلون من معين أدبه ويتحصلون على أرقى الشهادات من خلال دراسته. ولكن هل كان شكسبير دوماً هكذا، أي ثقافةً عليا؟ الجواب هو بالنفي. إذ كان شكسبير جزءاً من الثقافة الشعبية، وكان ارتياد عروض مسرحياته أو ترديد قصائده ملمحاً من ملامح الحياة الشعبية في بريطانيا وأمريكا. ولهذا، فهو مثال مهم على أن الفروق الموضوعة بين ما يسمى الثقافة الرفيعة والثقافة الشعبية ما هي إلا فروق وهمية صنعها المجتمع، مدفوعاً في الغالب بقيم برجوازية، بعد أن قرر حصر بعض الأذواق الفنية في طبقة معينة. والنتيجة أن يُنظر أحياناً إلى إرث شكسبير على أنه من الثقافة العليا التي لا يحظى العموم بفرصة الوصول إليها وتذوقها. لكن الواقع أن ذيوعه لدى جمهور العموم كان أكبر بكثير من الآن، وليس أدلّ على ذلك من حفظ عوامّ منتصف القرن التاسع عشر قصائدَه ومسرحياتِه عن ظهر قلب، وامتلاء مسرح «غلوب» الواقع على ضفاف نهر التايمز بالجماهير الغفيرة ، وهو المسرح نفسه الذي أسهم شكسبير نفسه في تشييده عام 1599م مع باقي أعضاء المجموعة المسرحية التي كان ينتمي لها. فما الذي حصل حتى أصبح شكسبير متعة يحوزها النخبة دون غيرهم؟
بعد صعود تشارلز الثاني إلى عرش الحكم، استُبدل مسرح غلوب بمسارح صغيرة مغلقة اجتذبت طبقة من الأرستقراطيين القادرين على دفع تكاليف التذاكر الباهظة. وتبع ذلك دخول شكسبير كمادة لدراسة الأدب في الأكاديمية وتفاني نقَّاد النخبة في انتقاد عادات الذهاب إلى المسرح التافه والدعوة لإنشاء منافذ «ترفع» إرث شكسبير عن ذوق العامة وجيوبهم. الصراع الذوقي بين الثقافة «التافهة» والثقافة «الرفيعة» لخصته معركة حقيقية نشبت في نيويورك عام 1849م أمام مسرح آستور. ففي أثناء عرض لمسرحية «ماكبث» ثار خلاف بين ممثليْن ينتمي كل منهما إلى قطب ثقافي، ومُنع الجمهور من الدخول، فصاحوا «أحرقوا عرين الأرستقراطية اللعين» ثم أخذوا يقذفون الحجارة. وأفضى تدخل الشرطة لفض الشغب إلى مقتل 22 شخصاً وإصابة أكثر من مئة.
ختاماً، يسود اتفاقٌ أن شكسبير خيرُ من وظَّف المشاعر الإنسانية درامياً ورسم الصراعات التي تنتج عن تضارب تلك المشاعر. لقد ابتدع شخصيات مسرحية استطاع الجميع أن يتماهى معها بسهولة. وهذا ما يفسِّر امتداد أثره عبر اللغات والثقافات والأزمنة. ولطالما ألهمت أعماله، بعد أن تُرجمت إلى كافة لغات العالم الحية، خيال الأدباء والفنانين والمخرجين والممثلين وغيرهم، ولا تزال أعماله تُقتبس إلى اليوم في أشكال جديدة من الإنتاج الأدبي والفني. ولكن قدَر شكسبير هو أن يبقى شخصية مثيرة للجدل، حتى بعد أربعة قرون على تاريخ وفاته.