يمكن للتكوينات الصخرية في البراري أن تتخـذ أشـكالاً جميلة إلى حدٍّ يدفع الحكومات في بعض الدول إلى إعلانها محميات طبيعية، أو حدائق صخور، أو متاحف صخور.. ومن دون أن نتقصّد البحث عن مثل هذه «المتاحف»، وجدنا أنفسنا فجأة أمام أحدها في محيط مدينة «روافة» في شمال المملكة.
تقع روافة بين مدينتي تبوك وضبا، وتبعد عن الأولى نحو 90 كيلومتراً. ولعل الجبال الصخرية المتوسطة الارتفاع وذات التضاريس المميزة التي تحفُّ بالطريق إليها من تبوك، هي هناك لتهيئة الزائر لما سيشاهده لاحقاً.
كانت زيارتنا إلى روافة لسبب لا يمت إلى الصخور الطبيعية بصلة. ولكن زميلنا المصوّر نايف العطوي، العارف جيداً بنواحي تلك المنطقة، حرص على أن يصطحبنا في رحلة على طريق وعر إلى ناحية تبعد قليلاً عن المدينة، حيث وجدنا أنفسنا أمام مشهد لم نرَ مثيلاً له من قبل.
أمام حديقة الصخور
فوق أرض سهلية تقريباً، تناثرت مجموعة من الصخور العملاقة، التي يستحيل إيفاء غرابتها أو فرادتها حقها من الوصف. حتى إن تبعثرها على هذه المساحة الكبيرة خدع أبصارنا، ولم ندرك حقيقة ضخامة الواحدة منها إلا عندما دنونا منها أكثر.
واحدة منها تشبه سفينة في عباب بحر من الرمل، وثانية تشبه الناقة حتى ليشك المرء في أن تكون تكويناً طبيعياً، وثالثة تشبه ثلاثة حيوانات رابضة وكأنها أُسود تنتظر فريستها.. ورابعة تبدو بقاعدتها الدقيقة الملامسة للأرض وضخامة كتلتها القائمة في الهواء وكأنها هناك لمجرد نقض قانون الجاذبية..
كأنها حية
وفيما راح رفاق الرحلة يحاولون قراءة خطابات هذه الصخور، وكأنهم في مباراة لاختيار أفضل تشبيه، لفتنا نايف إلى أن ما تبدو عليه هذه الصخور يتبدل تماماً، ويختلف كل الاختلاف بمرور الوقت خلال النهار. فهي في الصباح تبدو بأشكال توحي بصور غير تلك التي توحي بها تحت شمس الظهيرة، أو تحت شمس الغروب. وذلك بسبب لعبة الضوء والظلال التي لا تنفك تتحرك على تضاريسها الحادة والكثيرة وما فيها من فجوات وأسطح نافرة. حتى إن هيئات هذه الصخور وما توحي به من مشاهد، تختلف تماماً عندما تكون السماء صافية، عمَّا تبدو عليه عندما تكون السماء غائمة. وما الذي يمكن أن نطلبه أكثر من ذلك لكي نصف مكاناً ما أو متحفاً بأنه حي؟
شيء من التفسير العلمي
كيف قامت هذه المجسَّمات الصخرية هنا؟ سؤال لا بدَّ لكل من يراها أن يطرحه وبإلحاح. والجواب المتداول دائماً هو أن عوامل التعرية من فروقات حرارية عالية ورياح وأمطار تنحت هذه الصخور عبر آلاف السنين، وهي مستمرة في نحتها لآلاف السنين المقبلة حتى تحويلها كلها إلى رمال وحصى صغيرة. ولكن هذا الجواب لا يشفي الغليل، لأنه يؤدي بدوره إلى أسئلة عديدة أخرى: لماذا نحتت عوامل التعرية هذه البقعة من الصخرة وعفّت عن تلك؟ ولماذا لم تنحتها كما تنحت الحجارة الصغيرة من كل الجهات فتحولها إلى شكل كروي أو بيضاوي؟
وبشيء من التبصر والمساعدة من ذوي المعرفة بالجيولوجيا، أدركنا أن هذه الصخور هي كلها رسوبية التكوين. تشكَّلت أولاً في باطن الأرض، ومن ثم ارتفعت بفعل الحركة الجيولوجية إلى سطح الأرض ضمن طبقة كاملة. وبوصولها إلى السطح، بدأت عوامل التعرية تفعل فعلها. ولكن التركيب المعدني لصخور الطبقة الرسوبية يختلف من موضع إلى آخر، باختلاف المعادن المترسبة فيه. وبذلك تكون بعض جوانب صخرة رسوبية ما أصلب من جوانب أخرى، وأقدر منها على مواجهة عوامل التعرية. ومن الطبيعي إذاً أن تفعل عوامل التعرية فعلها أولاً في المناطق الأضعف، بحيث تصمد أمامها المناطق الأصلب.
وعندما تصبح الصخرة المنحوتة جزئياً ذات فجوات ونتوءات، يتغير وقع عوامل التعرية عليها. فالفجوات المظللة تصبح أقل عرضة للتقلبات الحرارية لأنها بمنأى عن أشعة الشمس والمطر، كما أن أثر الهواء بحركته وضغطه على الصخرة بما يحمله من رمال وجزيئات صلبة، يتبدل تماماً، فلا يعود متجانساً على كافة جوانبها، وبذلك تصبح عملية النحت والتفتيت قوية في بعض المواضع وضعيفة في مواضع أخرى، ليبدأ بذلك تشكيل المنحوتة «فنياً».
الصخرة الحزينة
تقطَّع بحثنا عن التفسير العلمي لهذه الظاهرة الطبيعية غير المألوفة أكثر من مرة بفعل طغيان المشاعر والأحاسيس الشخصية عليه، كلما اقتربنا من واحدة من هذه الصخور. فبالقرب من واحدة منها، أحسسنا برهبة من الاقتراب أكثر، لأنها كانت عند أسفلها مجوفة بحيث إن أعلاها بدا كجبل من صخرة واحدة معلَّقة فوق رؤوسنا وقد تسقط علينا في أية لحظة.. الشعور نفسه انتابنا أمام صخرة أخرى مشابهة، ذات قاعدة نحيلة جداً تحمل كتلة صخرية ضخمة، لا تفسير لبقائها صامدة في الأعلى، سوى الشك في صدقية قانون الجاذبية.
ومع مزيد من التجوال على هذه الصخور رغم تباعدها عن بعضها بعضاً، كانت الشحنة العاطفية التي تولِّدها في النفوس تكبر وتكبر.. وعند وقوفنا أمام واحدة من أضخمها وشاهدنا الخطوط العامودية النافرة على أحد جوانبها، وكأنها تسيل عليها سيلاً، بدت لنا كالدموع، وذكرتنا بتشبيه لأحد الشعراء: «كأنها دموع عين مكحلة..» فقررنا تسميتها «الصخرة الحزينة».
خطاب الزمن
عندما جلنا بأبصارنا على هذه الحديقة الصخرية العملاقة في نظرة وداعية متأملة ومتأنية، أحسسنا بحضور الزمن من حولنا.. الزمن الطويل الذي استغرقه تشكيل هذه الصخور على هذه الهيئات البديعة. آلاف، مئات الآلاف، ملايين السنين؟ لا نعرف. ما نعرفه أنها هنا على هذه الهيئة منذ زمن بعيد، وستبقى هنا لزمن طويل مقبل. ولكن..
إن عوامل التعرية ظالمة وعنيدة، وتستمر اليوم في نحت هذه الصخور وتفتيتها ولو ببطء شديد غير ملحوظ. ويكفي أن نعرف أن الطبقة الرسوبية التي تشكَّلت فيها هذه الصخور، كانت في الأساس من الرمال التي أنتجتها عوامل التعرية من الجبال البركانية الأصلب منها. وطالما أن الصخور البركانية لم تصمد في وجه عوامل التعرية إلى الأبد، فمن المؤكد أن هذه الصخور الرسوبية ستنهزم بدورها، وستستمر في التآكل والتفتت إلى أن يأتي يوم بعد آلاف السنين، لا يبقى فيه من هذه المنحوتات الجميلة غير الرمال.