تندرج رواية «إكليل الخلاص» في إطار المشروع الأدبي الذي ظهر في السنوات الأخيرة، ويعمل على رصد التحولات الاجتماعية في مراحل زمنية مختلفة. ففيها يصوغ الروائي محمد المزيني شخصيات تمثِّل الجيل الحالي بأحلامه وطاقاته والرغبة الدائمة في البحث عن حياة تشبه ما يتخيله عنها. هيثم السيد يقدِّم قراءته لهذه الرواية الحافلة بالمواقف والانفعالات التي وإن كانت تصوِّر تفاصيل مأساوية في بعض الفصول، إلا أنها تظل موحية بأمل ينبعث من بين لحظاتها، حتى في أكثر التطورات الدرامية تعقيداً.
تتميز هذه الرواية بالعلاقة القوية التي تنسجها لا شعورياً مع القارئ. فالتقنية السردية التي استخدمها المزيني قادرة دائماً على شد القارئ إلى المضي قدماً حتى معرفة الفصل التالي، وحتى يصل إلى نهايتها التي تتخذ شكلاً مفتوحاً يجعل القارئ يشعر وكأنها ليست نهاية الرواية بقدر ما هي نهاية أحد فصولها، بانتظار فصل قادم قد يأتي في رواية مقبلة.
يحضر العنصر اللغوي بشكل واضح في الأسلوب الذي كتبت به رواية «إكليل الخلاص»، من خلال استخدام المفردة العميقة والتصوير البلاغي. كما يحضر الحس الإنساني متشكلاً في صورة الطفل اليتيم الذي يكبر متشرداً باحثاً عن مأوى وعمل يوفر له حد الحياة الأدنى ليصبح عرضة مستمرة لمصاعب وتحديات وظروف قاسية. أو في صورة الإنسانة التي تضعها الغربة وغياب ذوي القربى في مواجهة صعاب تزيد من حجم معاناتها وهي الأم لطفلين أيضاً. ومن جهة أخرى، تعرض الرواية حالة الانفصام التي تجعل أحد أبطالها يبحث عن خلاص نفسه في وطن آخر، والحاجة التي تدفعه أحياناً إلى إلقاء نفسه في مغامرات غير مأمونة العواقب.
وهكذا تبرز ثيمة «السفر» التي يستخدمها كثير من الروايات المحلية لصنع عوالم أخرى ومسارح جديدة للأحداث. فتدور نصف أحداث الرواية في دولة أوروبية تفرض أسلوب حياتها على الشخصيات التي تبحث فيها عن شكل مغاير لأحلامها وعواطفها ومستقبلها، وفي كل الأماكن التي تمر بها فصول الرواية، كان المؤلف يستخدم أسلوباً وصفياً يحفل بكل التفاصيل اليومية والهامشية ليقرِّب الصورة من ذهن القارئ الذي سيجد نفسه كل مرة مندمجاً في عمق الحكاية، مشدوداً إلى ما يستجد فيها من مواقف وما يترتب عليها من أحداث.
مفهوم الرواية وتحديد الدافع
يعرِّف المزيني الرواية بأنها «لعبة النص المفتوح المطل على كل الفضاءات الأدبية والأشكال التعبيرية المتنوعة وهي المسرح الكامل للإنسان في كل حالاته وتجلياته». ومن هذا التعريف، ينطلق المزيني في كتابته الأدبية، ونقترب نحن من معرفة الإجابة عن سؤالنا حول نوعية الدافع الذي يحدد طبيعة المنتج الروائي الذي نحن بصدده. فيتضح لنا أن الكتابة عند هذا الأديب مسكونة بهاجس يبدو محدداً وحاسماً في تركيزه على تناول الواقع الاجتماعي المرتهن لتحولات حضارية بالغة التأثير، يصفها بـ «التقلبات العاتية» التي عصفت بالإنسان الذي انفصم بشكل عنيف عن بيئة حياتية، ليجد نفسه من دون مقدمات في دوامة من الظروف المتسارعة التي تراكم واقعاً قد يدفعه إلى البكاء بقدر ما يجبره على الصمت تحت ذريعة تقليدية تقول إن «الرجال لا يبكون».
وهنا يعتقد المزيني أن الرواية مثلت له إزميلاً «حفر به الأفواه المردومة بسكوت قسري يشبه موت الحواس من فرط قسوة الألم، وحينئذ تصبح الكتابة بصيص حياة أخير، قد لا يمنع شعورنا بالوجع لكنه يبعث فينا مفهوماً كامناً بأن تألمنا يعني أننا ما زلنا نعيش على الأقل». وفق المفهوم ذاته، نستطيع أن نفهم لماذا كتب محمد المزيني أعمالاً على نحو «مفارق العتمة» و«عرق بلدي» ولماذا يواصل محاكاة ذلك الدافع المحدد المعلن بأكثر من طريقة. إنه رجل لا يؤمن بأن كثرة الإحباط سبب كاف لمصادرة شجاعة المواجهة، ولهذا ينحى إلى تسمية الأشياء بمسمياتها، حتى أن تعبيره يأتي متحدياً من دون أن يفكر فيما إذا كان يخوض غمار معركة خاسرة سلفاً. وفي «إكليل الخلاص» التي نقرأها هنا، يثبت المزيني أنه لايمثل ردة الفعل السلبية لحالة الهزيمة، ولكنه يعيد تشكيل وعي يملك في أسوأ الاحتمالات قراره بأن يمارس هزيمته كما يشاء، بل وأن يتحايل عليها، من أجل أن يجد نفسه حيث يريد لها أن تكون، لا حيث يفرض عليها الواقع ما يجب أن تكون عليه.
حيادية الشكل تنحاز بالمضمون
نحن أمام نص يعرض فكرته بهدوء، من دون أن يترك أثراً يمكن الاستدلال به على انفعالية تعبيرية توجد عادة حيت تتعلق الكتابة بمثل هذا الهم. نص يحيِّد المشاعر فينتصر للفن، يؤمن بأن بعض الصور لا تتطلب الإدانة بقدر ما تحتاج إلى من ينقلها بحيادية كما هي. وبهذا، يصبح محمد المزيني أحد الروائيين القلائل الذين تعاملوا بذكاء أدبي مع طبيعة المرحلة التي دفعت بروايات كثيرة جداً إلى الانزلاق في مغبة انحيازها لأحكام مؤلفيها على نحو مكشوف، يحولها أحياناً إلى ما يشبه العرائض الاحتجاجية أو الخطابات الفكرية الموجهة في الوقت الذي تغيب فيه الرواية التي يفترض حضورها توفير مقوماتهما كعمل أدبي إنساني له دلالاته المرحلية ومتطلباته الفنية.
نعم.. لكل روائي موقف لكن مكانه لا يجب أن يكون داخل نصه، ولكل روائي تعريف للرواية لكنه يجب أن يكون تعريفاً شمولياً، فلا يتخذها وسيلة عشوائية للتعبير عن فكرة شخصية، أو استخدامها بعبثية كردة فعل مرتجلة على معطيات واقعية وحضارية، وهذا ما يمكن لمسه في روايات قليلة مثل «إكليل الخلاص»، التي تشكِّل الحلقة الأخيرة من المشروع الروائي لمحمد المزيني، بتناوله العمق السوسيولجي وفق منهجية ترصد ملامح زمنية متتابعة، وترسم في كل مرة شخصية المجتمع الذي تتحدث عنه وطبيعة واقعه الثقافي والحياتي عموماً.
«الإكليل» كان الرمز الذي استخدمه الروائي هنا للشعور بكبرياء الانتصار المرتبط بالتاج الذي يوضع على الرأس، بينما يأتي «الخلاص» كمرادف موضوعي لذلك الانتصار الذي يمثل بدوره نقيضاً مباشراً لفكرة الهزيمة التي تناولتها سابقاً. وبهذا يمنحنا العنوان انطباعاً مبدئياً عن طابع الرواية التي تبدأ بمشهد صاخب لبطلها «عبدالرحمن» وهو يهرب بمنتهى الفزع من رجل استغل يتمه وتشرده ليسكنه عنده، قبل أن تتكشف إنسانيته المزعومة عن همجيته، ذلك المشهد الذي يشبه بدايات بعض الأفلام الأجنبية بمطاردات صاخبة منذ وهلتها الأولى، كان نقطة تحول رسمت في مراحل لاحقة نوعية الحياة التي سيعيشها البطل، وهو ما زال دون سن المراهقة. فمن مكان إلى آخر، تتقاذفه ظروف مؤلمة حتى يستقر به المقام في عمارة سكنية يتعرف فيها على «سعاد»، ليبدأ السياق الدرامي بالتصاعد ضمن ظروف بالغة التعقيد، غير أن ذلك لا يجعل الرواية تفقد خيط التشويق الذي يمسكه الروائي بحرفية من طرف، بينما يمسك من الطرف الآخر خيطاً درامياً مختلفاً بطله «خالد» الشاب الذي يستعد للسفر في مشهده الأول، وهو يسائل المكان عمَّا تسبب له به من غربة بالغة القسوة حتى قرر الرحيل نحو منفى اختياري تكون الحياة به أخف وطأة، وهناك تجري الأحداث في وجود شخصيات جديدة تتمثل بقاسم سائق التاكسي العربي، ومليكة مضيفة الطيران، وفاطمة التي تتجه في الرحلة ذاتها إلى المكان نفسه.
أما رحلة قراءة هذه الرواية فتبدو محكومة بسرعة تكوين العقد الدرامية وحلها، وبتسارع الأحداث بوتيرة تكاد تكون متشابهة بين السياقين الدراميين اللذين تقوم عليهما الرواية. إذ يبرع الكاتب حقاً في ربط القارئ بخيط التشويق الذي يجعله يستصعب الدخول في الفصل التالي حيث السياق الآخر، بينما تراود ذهنه الأسئلة بإلحاح حول ما سيحدث في السياق الأول، ذلك الذي ينهيه المؤلف كل مرة في لحظة حاسمة جداً!.
يستمر المؤلف في نسج تفاصيل الرواية اعتماداً على طرفي الخيط اللذين يسيران جنباً إلى جنب وعلى نحو يجعلك تقتنع أن فرصة الالتقاء بينهما تشبه فرصة التقاطع بين مستقيمين متوازيين في الظروف الطبيعية للرياضيات. ففضلاً عن مسرح الأحداث المكاني المختلف بينهما حيث يدور أحدهما في الوطن مع «عبدالرحمن» والآخر في الخارج مع «خالد»، هناك تفاصيل ضمنية معقدة تحكم علاقة كل منهما بواقعه.
فالأول يعاني الأمرين من أذى الوحدة وصعوبة الحياة في مكان بات يحاصره بأذى الذين تعاملوا معه بمنتهى القسوة، لاسيما حين دخلت سعاد في حياته والتي صارت بدورها عرضة دائمة لظروف بالغة القسوة والامتهان بسبب وضعها الاجتماعي الملتبس، وعجز عبدالرحمن عن فعل أي شيء حياله.
أما الثاني فكان وجوده في الخارج الذي تسبب له بمتاعب مختلفة، بدءاً من تنكر الناس له، أو تعرضه لحالات سرقة فيما كان يقضي جل وقته مع قاسم وفاطمة في عدة أماكن من ضمنها فندق لسيدة عجوز، غير أن «الروائيات» التي تتفق مع الرياضيات في أهمية إيجاد حل لكل العقد الموجودة، تكسر في الوقت نفسه قانون المستقيمات المتوازية حين يتعلق الأمر بالسياقات الدرامية. لاسيما في رواية تبدو محكمة الحبكة والنسج مثل «إكليل الخلاص». لأن التقاطع سيحدث بسلاسة متناهية حين نرى أن خيط المعرفة البسيطة بين خالد وعبدالرحمن التي نشأت من خلال تعاملات تجارية قديمة، يقود إلى حل كل عقد الرواية التي بقي الروائي ينسجها على مدى النص. فيغادر عبدالرحمن ليطوي مرحلة العذاب في حياته ويلتقي بأخيه من أبيه والذي لم يكن سوى «سعود»، الشخص المهم في مكانته العملية، والذي هو كذلك زوج فاطمة، رفيقة خالد في الرحلة والغربة المكانية. بينما ترتكب «سعاد» جريمة قتل وهي تدافع عن نفسها من توحش وابتزاز عامل أجنبي كان يتهددها طيلة الرواية. أقدمت على فعلتها بشكل أسطوري وبقيت فوق جثة قتيلها مبتسمة وتحتسي القهوة، من دون أن تعلم أن السيدة العجوز صاحبة الفندق الذي يزوره خالد ورفاقه قد توفيت، ومن دون أن تعلم أيضاً أن تلك السيدة لم تكن سوى والدتها التي لم ترها يوماً. وهي الفكرة النهائية التي آثر الروائي محمد المزيني أن يدعها حائرة على شفاه عبدالرحمن في نهاية الرواية، وكأنه يرغب في تكريس ميله الذي صرح به نحو النهايات المفتوحة.
ليس هناك رقم هامشي في هذا النص، ففكرة الخلاص متجسدة ضمن أكثر من حدث وبأكثر من طريقة. فخلاص «سعاد» مثلاً، كان بقتل الخوف الذي لازم حياتها حين تمثل لها في شخص يسيء إليها، ولهذا فقد كانت نشوتها بالخلاص أكبر من تفكيرها فيما ينتظرها لاحقاً، بينما كان خلاص «عبدالرحمن» متمثلاً في كسر دائرة شديدة الضيق من التشتت المعيشي في غياب كل من تبقى له، وفي ظل مجتمع يحيطه بنظرات تملؤها قسوة التعامل والتعذيب المعنوي المستمر. وبذلك تأتي النهايات كحل عادل مع الجميع، رغم اختلاف استحقاقات هذا الحل بين شخص وآخر. إنها التقنية الكتابية التي يفترض أن يتقنها الروائي دون أن يترك فيها أدنى هامش من الترهل البنائي أو الانزياحات السردية التي تحيل الرواية إلى دفتر مذكرات مفتوح لقلم يفكر بكل ما يخطر على بال صاحبه ليس إلا.
وعلى بعد خطوات من طي الصفحة الأخيرة من هذه الرواية، نستعيد ذلك الكم من التفاصيل الاجتماعية الدقيقة التي شهدتها أحداثها المتشعبة بما يتركه المكان وطبيعة الحياة فيه من انطباعات مؤلمة أحياناً، ومتناقضة أحياناً أخرى. سيخطر في بالنا أكثر من سبب لاختيار أعمال المزيني للدراسة في جامعة فرنسية، كي تكون شاهداً مثالياً على واقع الحياة في بيئة الكاتب، وهو ما يدل على نجاحه في إتقان وصفها ونقلها ضمن بيئة كتابية محايدة ومقبولة أدبياً وفنياً. لا سيما وأنه يتميز عن كثير من الروائيين بامتلاكه ناصيتي البناء السردي واللغة الراقية في الوقت نفسه.
وإذا كنا سنأخذ بمقولة الناقدة كلاديس مطر بأن المزيني «يقتحم بكل ما يملك من وعي وحب لوسط ينتمي إليه ويغار عليه»، فمن الأجدى أن نختتم برأي الكاتب المؤمن تماماً بقيمه الأدبية في كتابة الرواية، والتي نجح فعلاً في النهوض بها بعكس كتابات أخرى انحدرت في مجرد البحث عن عيوب الواقع وتوظيفها لتعزيز الإثارة المبتذلة في أعمال مهلهلة فنياً وسردياً.. الكاتب الذي يقول: «أنا لم أتعمد الفضح، بقدر ما كنت أبحث عن المناطق المعتمة للكشف عنها، لجعلها في متناول حواسنا. ولنقدر بعد ذلك على تلمس المناطق المظلمة من حياتنا، وهذا ما يخشاه البعض بلا مبرر. أرجوكم ألا تحسبوها شهادة محضة، خذوها كما أرويها لكم، وإن لم تبصروا فيها شيئاً من ذواتكم، فاسحقوها بعد حرقها وانثروها في وجه الشمس»!
محمد المزيني
ولد محمد المزيني في الرياض ونشأ فيها.
درس في الجامعة الصحافة والعلاقات العامة، وقد وصف دراسته هذه في أحد أحاديثه الصحافية بـ «المملة جداً».
عمل سكرتير تحرير في مجلة متخصصة، إلا أن ميوله الأدبية دفعته إلى كتابة النصوص القصصية منذ العام 1990م.
وفي العام 2000م كتب أولى رواياته «مفارق العتمة» التي لم ينشرها إلا في العام 2004م عند المؤسسة العربية للدراسات والنشر. وكتب بعدها «عرق بلدي» التي تبنت نشرها مؤسسة الانتشار العربي.
إكليل الخلاص..
مقتطفات من الرواية
1
انتفض خالد في مكانه وكأنه قد تذكَّر شيئاً لا يؤجَّل، وسريعاً طأطأ رأسه نحوها وقد باغتها باهتمام بالغ وهو يسألها: لحظة.. سلمان بن سعود العابري.. كنت تعرفت على شاب اسمه عبدالرحمن سعود العابري.
– ربما تشابه أسماء
–
ربما، هذا الشاب الأعزل تعرفت عليه من خلال تعاملات تجارية جمعتني به ليال طويلة، يكاد يكون الصديق الوحيد لي هناك وأظنني صديقه الأوحد.
– ضايع يعني ليس له أهل؟
–
لا، هو تركهم صغيراً، هرب منهم لأنه أصبح بعد وفاة أبيه وأمه مقطوعاً من شجرة، وهذا أيضاً من أسباب تواصلي معه لأني مثله. في الرياض كنت مقطوعاً من شجرة ذلك بحد ذاته كان مريحاً لي جداً.
–
سمعت من زوجي عن أخ له ترك المنزل قبل زمن ليس بالقصير ولم يسأل عنه أحد.
–
بالله عليك، هل تتأكدين، لأنه سيترتب على ذلك أمور كثيرة، هل تعدينني؟
–
ولايهمك، سأقوم باللازم مع أني لا أحب التدخل في أمور عائلة زوجي، ولا أعرفهم حتى، وتقريباً هو مثلي لا يتصل إلا بإخوته الأشقاء فقط، لأنهم كثر ومن نساء متعددات.
– أكاد أجزم الآن أنه أخوه.
قرروا نثر خطواتهم على قارعة الطريق منقادين لا شعورياً لهيمنة المدينة الساحرة. كانت تستبد بخالد رغبة مؤججة لكل المشاعر المتناقضة للدخول بعفوية في طرقاتها الصاخبة تجذبه إليها كأحد أبنائها الصغار فيسقط الطفل الراقد منذ إعلان عيد ميلاده عن عمر الرجل الافتراضي.. علمته المدينة أنها اختبار حقيقي للغرباء فعندما يحل العربي مثلاً لأول مرة تبهره… في النهاية تنتصر المدينة.
كانت تلك الساعة حاسمة، تتوغل بدقائقها إلى آخر بعد روحاني دلقوا فيه أنفاسهم. فانكمش مشهد الليل ليسقط في جوف النهار، والنهار يخاتل سطوة الليل، ليمتد الظل إلى أبعاد بلا حدود.يجتر الليل أولى ساعاته كإعلان مبكر عن إسدال الستار عن نهار متقد بأبخرة الأنفاس، تتدفق الأجساد المنهكة فتتمدد الأرصفة تحت وقع الأقدام الزاحفة كأمواج متلاطمة، تتشابك الأنفاس المعتقة بساعات عمل يومي طويل وشاق وتتعانق النظرات السارحة بلا معنى، وعند بوابات القطارات الأرضية تشكل عقداً بشرية تتحرك باتجاه واحد متدافعة صوب بوابات القطارات المحمومة الشبقة لالتهام مسارات غارقة في الظلمة، ترتطم الأكتاف بالأكتاف فتتشظى ألوان طيف داخل مكعبات صغيرة.
2
استبدت بعبدالرحمن تباشير الوحشة الأولى، ونخرت الغربة قلبه وعقله تلك المرة التي لم تسرح ذئابها العاوية بعد. ساعات هذا النهار البارد عصرت آخر قطرة عرق من جسده، صيرته نهشاً للأرق والسهاد وبقايا روح تتلظى بنار المرض والوحدة والتطلع. لمَّا نظر إلى وجهه في مرآة التسريحة المقابلة لفراشه انكشف له منها آخر تميمة تحترق أمام عينيه. الوحدة هنا ضاربة، والضجر في ليل المدينة الزاحف بأقدام ثلجية جرداء، مُشَوِّك. وهو القادم من فوهة شمس تغلي، لعله يبصر الآن بين عينيه ضجيج الرياض وسكونها المفتعل. مثل سفن تلاعب أشرعتها رياح عاتية.
استعرت حمى المرض المغلف بالوحدة مثل كبسولات المضاد الذي يبتلعه كرهاً، أضحت الغربة طازجة تذكي شجونه الأولى في قلبه خصوصاً حينما قرأ رسالة خالد. طفقت أقدام التيه والشكوك تجرّ الخطى إليه، سلكت إليه طرقاً خفية، تتجشأ برائحة اشتمها للمرة الأولى، مغموسة بالملل.
اليوم فقط شرعت الغربة بقسوتها تلقنه درسها الأول. تفوح من حنجرة السأم، لا ضير إذن من حركات متوترة أو عابثة تثخن عروقه المنقبضة من التعب، تمطَّى في غرفته متمنياً قدوم فاطمة. هذه الغرفة الضنكة تنوء بحمله، يا لها من عبثيات يكابدها وتكابده لا يريم منها سوى تقطيع أوصال الزمن المتمدد داخله مثل خيوط متشابكة ورفيعة كحد موس صقيل، نكص على عقبيه مهزوماً يتضور في فراشه من البرد، ولا يمكنه حتى الوقوف على قدميه، هذه من أهم الدروس التي يلقنها غريب هذه الديار، فهي أولى مراحل الاستكشاف، حتماً ستمزقه هذه الساعات. شرع بخيالاته، هذياً بعبارات دنفه من أثر الإرهاق وتعاسة الليلة الماضية المتكئ على خناجر البرد. قواه المنهوكة لا تقوى على إخراس رنين المحمول المزعج كما لم تكن حباله الصوتية مشدودة بما يكفي للرد على اتصالات خالد وفاطمة المتواصلة ابتغاء الاطمئنان على صحته. دثر رأسه بلحافه القطني الثقيل مع قصاصة عزاء هربها مطوية بصحيفة من أحلامه وأمانيه الراقدة في جوف ظلمة روحه.
لم يكن اتصال خالد مقلقاً لعبد الرحمن وهو يعتذر له عن عدم المجيء لأمر أثقله بهموم وكدر. ما دام يتفيأ ظل فاطمة الوارف فقد اتصل بها يطلب عيادته وتمريضه. لم تقاوم فاطمة رغبتها بالاطمئنان عليه، فعندما ملت انتظار ردّه سارعت إليه مستعينة بسيارتها الصغيرة، طارقة أقرب المسافات المزروعة بالمستنقعات الصغيرة سريعة التبخر (….) تزفها قدماها الخائرتان وقلبها الراعف بالخوف والاشتياق. فتح لها الباب يحمل أنفاسه اللاهثة، كاد أن يهوي تائهاً وسط عبارات متكسرة لم يستطع تحريك لسانه الناشف بقدر رهبته من المدينة، وبقدر جوعه إليها وبقدر المرض وإحساسه بالضياع.
من حنجرة متفحمة؛ كاشفها طفل تائه أن الليلة السرمدية الثالثة محبطة. زحفت إلى رأسه أفكار متناقضة ومشاعر خانقة. قال لها بنبرة كلمات مرتجفة:
– لم أنم. أقصد نمت مستيقظاً!
هذا الهدوء والصمت والتعب والإرهاق والمرض فاجعة. بات يتقلب على أشواك حارقة! مخنوق الصوت ومنطفئ العينين. بات ليله عارماً! محتدماً بالصمت القاتل والبرد الذي يشل الحركة. ليس أمامه إلا ما يمكن أن تتصيده يده على المنضدة المجاورة، وأبعاد التخت الذي يقله كجنازة، لا لذة للنوم، حتى الكوابيس هنا مثلجة. كان يرتشف في هذه اللحظات بالذات نكهة الهزيمة وكأنها انتقام من لحظات الفرح التي قطف عناقيدها من سعاد في أواخر أيامه. أما فاطمة فقد أثبتت أنها بموقع المسؤولية، حيث أضرمت له من روحها لهباً يدفئ به عظامه المتجمدة من أثر الوعكة الصحية. استلهمته أمومتها أثناء اقتناص المرض له، حيث ظلت إلى جانبه تطببه وتشافي سعاله المبحوح. تنفض كيانها نظراته المفعمة بالألفة والفقد والاحتياج. تمنى لو تسلم له ذراعها فيتوسده كطفل. لا يزال ينام على رائحة أمه …
–
ما أتعس ليل هذه المدينة الواجمة، كيف تطيقين العيش هنا؟
يزفر كمن يستحث همة نار راقدة تحت هالة من أخشاب رطبة للاشتعال، فكرت كلياً كيف توري نار جسده المنطفئ. كانت تأتي إليه صباحاً فلا تتركه حتى ينام بعد تناول قرص مسكن، وشراب للسعال، حتى ينهض يقشر عن جسده أدران المرض الذي علق به أكثر من ثلاثة أيام أريقت من روزنامته. صباح اليوم الثالث كانت تهمس عبر الهاتف طويلاً، كان معبأ بالإحراج.
(….)
فكر ملياً بأن يطلب من فاطمة تحت ضغط هذه الذاكرة المسنونة كسكاكين حادة بالتوقف عن إشغال نفسها به. كان لا يتمزق بمشاعر الذنب، فما زال رأسه يحمل الرياض، متشرذم بين منعطفاته الحادة. كطير يحوم في سماء ملفحة بالظلمة مكتنزة بأفكار متناقضة وقبيل أن تصطفق داخله، أيقظه صوتها الرخيم وهي تقول:
–
ابني طارق في باريس يودعني للسفر في مهمة رسمية.
بذلك نفست عنه شيئاً من أحاسيس رهيبة بالذنب. قام من فراشه حائراً في سر هذه التي باتت إلى جانبه تحنو عليه بأمومة كاملة. يا لهذه الفاطمة، لم تقصر لحظة في توفير ما يحتاج، حتى الصحف السعودية التي جلبتها معها. لقد سحنت بذور اليأس في قلبه وحركت ذرات روحه الهائمة في الهباء، مبددة وحشته مثلما وهبته مقاومة عنيدة. كان يوضب نفقاً يهرِّب منه إليها شيئاً من أحلامه، عاونته على نفض أجندته العتيقة.. في هذا الوقت كان عبدالرحمن يطفئ لهيب صدره بأنواع من الأدوية المسكنة، ممرناً جسده على مقاومته. بينما لا يحرِّك ساكناً ولا يسكِّن متحركاً من حوله. المرض أدخله صهريج اختبار، حيث طرقت حياته لغة مختلفة للمعاناة. أن تذوب في فراغ ممتد بلا نهايات، تسأل نفسك كيف جئت ومن أي الأبواب ولجت وكيف وإلى متى. هذا هو حال عبدالرحمن اليوم بات مجرداً من كل شيء، حتى روحه وقواه التي ينهشها المرض بزفير أنفاسه المشتعلة موقداً لها صدره العاوي بكحة حرشاء. صار يزاول هواية التحديق في الفراغ من خلال نافذة الغرفة إلى أشجار الزيزفون واللبلاب والصندل والبلوط منذ مئات السنين.
هذا الصباح اشرأبت أنفاسه، فامتطى صهوة التحدي لمقارعة لغة البرد وغوايته الغازية لجسده. هذا الصباح كأن طاقة المارد شرعت تحرك ذرات روحه من جديد. تعيد تشكيل الكائن الملبد بالضياع بفرادة وتميز، وأشياء. لعل هذا المرض المفاجئ هو محض رحمة من الله كي يشيد له روحاً جديدة وينبذ تعاليم المدينة التي يحمل نطفتها بين شرايينه. سألته بعدما ألقمته الدواء:
– كيف تشعر الآن؟
– أحسن.
– إذاً ما رأيك بالخروج؟ هل تقدر؟
– نعم أقدر… الآن شفيت.
مد يده؛ يلتقط واحدة من الصحف التي طوتها فاطمة ووضعتها على الكومودينو القريب منه بينما هي تحضر له كأس ليمون ساخناً. الصفحة الأولى كالعادة صور كبيرة وأسماء أكبر.. الثانية صور موت ودمار.. الثالثة مقالات طويلة تشبه الخطابات.. الرابعة ويا ليته لم يقرأ الخبر الرئيس في الصفحة الرابعة بالمانشيت العريض: «أربع رصاصات قاتلة أسكنتها صدره وجلست إلى جانبه تحتسي فنجان قهوتها»….
كان يقرأ الخبر بينما عيناه تغوران تحت وابل من الدموع تنهمر وصوته يتحشرج في صدره الكظيم، وأنفاسه تهدر كحجارة تنقض من رأس جبل، حتى فار كمرجل يغلي. انتفش كالمارد يمزق الصحيفة ويصيح بهياج صار يضرب بجسده ورأسه الحيطان. وكأنه يبحث فيها عن نافذة يخرج منها، سريعاً أسقطت فاطمة ما بيدها مرعوبة من هذا الذي انفجر فجأة دون سابق إنذار. فكرت أن تستدعي رجال الأمن أو تهرب وتتركه لمصيره، فكرت سريعاً في اللحظة التي التقط فيها الصحيفة، خمنت أن ثمة خبراً أصابه بالجنون وطير عقله، تركته حتى ينثر كل حنقه ومصيبته، حتى التصق بالجدار يبكي كطفل صغير وفي وجهه نهر جارف يحمل كل معادنه، قال:
–
أنا السبب والله أنا السبب، فاطمة أرجوك أريد أن أعود، سأعترف لهم أني أعطيتها المسدس، وأوحيت لها بفكرة الانتقام، يجب أن تخرج، ما ذنب الأطفال، هناك ليس لديهم أحد إلا هي. أرجوك يا فاطمة هيا.
قالت مذعورة، وقلبها يتفطر عليه:
–
اهدأ يا عبدالرحمن كل شيء له حل، بس المهم أن تهدأ. أعدك أن أرتب لك العودة سريعاً.
جلس ينشج متمدداً على الأرض ببكاء حار، وفاطمة تمسح وجهه بفوطة مبللة بالماء. لم تبرح عيناه شاخصتين في الفراغ، عمّ الصمت ….