حينما يتسنى لنا تأمل المشهد الإبداعي، لا بد لنا أن نستدعي التاريخ، لنستحضر في الغالب الأعم صور «كان» في الذاكرة والوجدان، فلنا في الماضي ثمة ما يضيء دهشة اللقاء الأول، حينما نرسم خطاً واضحاً بين تراسلات الفنون منذ فجر التاريخ، مروراً بحقب التحجير والجير، إلى العصر الحاضر.
فالمناخ الإبداعي لا بد له أن يستدعي التاريخ، أو أنه يُصار إليه في اقتفاء حساسية الخطاب الإبداعي للإنسان أياً كان، وأينما وجد، فلا يمكن لنا أن نُقَسِّمه، أو نُفيّئه، أو نجعله حقباً على ظاهر أهوائنا، أو تصوراتنا الآنية للأشياء.
وهذا ما تسعى إليه الكثير من التجارب الجمالية التي يتعاطاها الإنسان في أي مكان أو زمان، فلا يخرج أي عصر من العصور إلينا من بوابة التاريخ إلا ليذكرنا بأنه قدَّم للفنون والإبداع أعز ما يملك، فدرجت هذه المفاهيم على التواتر والتراسل حتى بتنا في تمرحل لا ينقطع من هذا التفكير الدائم، والجهد الدائب في تقبل حقيقة الجمال.
فهذه التجارب والمحاولات تعكس حقيقة أهمية تطورها، وحضورها بغية تأدية دورها الإنساني في شأن الفن الجمالي من أجل صياغة دور التذوق وملامسة البهاء ليتم تسجيل الحضور، بل والسعي إلى هدف أسمى يتمثل في تدارك تبعات هواجس الذكرى التي تشعرنا بأن الفناء أليم.
فلا بُدَّ لنا إزاء أمر كهذا أن نوجد أي معادل جمالي لنقول للأجيال من بعدنا إننا بالفعل قبل القول نحب الحياة، وها نحن نُخلِّد بعض معادلات وجودنا المتظاهر أحياناً أمام التاريخ بالجمال والمتعة والفائدة، لأن دهشة اللقاء بكل ما هو ماضوي تنطلق من عنصر إنساني معبر يتمثل في صياغة الأمم لمفاهيمها وفق الضرورات، وأنماط العيش، وتعابير السعادة والشقاء، والبحث عن اللقمة والدفء في عراء الحقب المتعاقبة.
فحينما نستعرض فصول التاريخ الفني والجمالي ندرك أن النقوش على جدران المغاور والكهوف هي التي كانت ترمز لوجود هذه الظاهرة الفنية التذوقية الجمالية، فعلى جنباتها نلحظ دون عناء أن هناك إنساناً -فنَّاناً- ما عبر التاريخ إلينا من خلال هذا البعد الفني المعبّر.
لم يشأ أن ينقطع هذا التوهج المعرفي، وهذا التراسل الضمني لحقيقة مسيرة الفن لتأتي الصورة بمنطلقها الجديد.. تلك التي اكتشفها الفنان الفرنسي «جوزيف نيبس» حوالي عام 1826م حينما اخترع ما يعرف بالغرفة المظلمة. فحاول أن يجسد من خلال مفارقة العتمة والضوء باستخدام الصفائح المعدنية التي تعكس الأجسام أن يجسد رغبة البقاء في نسيج التاريخ، ليتم التقاط صورة تكرس ملامح الإنسان حتى تطورت تلك الفكرة إلى ما نشهده اليوم.
وفي الطرف الآخر من المعادلة، فإن ما نراه من بقايا الأمس، ورموز الماضي يأتي في الغالب أكثر إدهاشاً، وأقوى حضوراً في ذائقة المتلقي، فالذي يتأمل ما خلدته المنقوشات في عصور الفراعنة على سبيل المثال يدرك أن الرسالة أقوى بكثير من كونها مجرد إشارة إلى أن هناك من عبر في ذلك الزمن نحو التاريخ، بل تجاوزته تلك الأعمال إلى فعلٍ ومنتج حضاري جعله من عجائب الدنيا السبع أو العشر.
فالفاصل الزمني بين (النقوش)، و(الصورة الفوتوغرافية) يمثل حقيقة التطور للعقل البشري الذي
لا يزال يقبل على الفنون بوصفها حالة جمالية. إلا أن هذا العقل يحتاج إلى مجاراة في توفير وسائل التقنية كما أسلفنا، من أجل مد جسور التواصل مع أي جهد إبداعي جمالي يحقق المتعة والفائدة، ويوسع مدارك الأجيال لتقبل حقيقة التاريخ وحقبه المتواترة.