كأنه وُجد في حياتنا منذ أمس فقط، عاش وعاش وكم عاش، ثم غاب؛ فكأنه غاب منذ مليون أمس، كأنه تداعى من وجوده العالي: مُعلَّقاً في الهواء، رانياً إلى السماء، متشوِّفاً موجات الفضاء، ثم انهال وتهشَّم مرة واحدة، لتظل أصواتٌ وصورٌ بعيدةٌ، مرتبكةٌ، مهتزّةٌ، واهنةٌ لوقائعه وحكاياته مرتاحةً في الذاكرة، هانئةً في بال العمر الفائت، ساندةً «لا يقين» العمر المتبقّي.
إنه هوائي التلفزيون، الذي رافقنا فصولاً يانعةً وشغوفةً من حياتنا، يوم كانت الحياةُ حياةً، بتفاصيل أقل اكتظاظاً، أكثر استرخاءً، أوسع مدى، أرحب أملاً، زاخرة باحتمالات أوفر للاكتشاف. في زمن الهوائي السحيق، صنع الهوائي -ذاك الهيكل المعدني الهزيل المنصوب على الأسطح كفزاعات في حقول برية- فُرجتنا. كانت الفرجة الغابرة محصورة بقناتين تلفزيونيتين، وربما استلفنا شيئاً من صور مشوّشة من محطات الدول التي تحتكّ حدودها بحدودنا، المجاورة لفرجتنا، وذلك حسب قدرة الهوائي -هذا الاختراع السحري وفق تصنيف أزمنة طفولة المعرفة- على التقاط حياة تحاذي حيواتنا دون أن تشبهها بالضرورة؛ كذلك حسب مزاج الطقس النّزق، فإذا ما شحبت الفُرجة، فتشتّت الصورة وشتّ الصوت وضاعت الحكاية وسط سحابة من الغبش، عهدنا بأحد كائنات البيت، مشهودٌ له بالرشاقة والخفّة والبداهة، كي يصعد إلى السطح ليحرّك الهوائي المتمنّع ويضبط مزاجه المتقلقل.
ثم يبدأ ذاك المشهد الحياتي المتواتر. يتدلّى أحدنا من نافذة غرفة المعيشة، بالجسم معلَّق نصفه -على الأقل- في الهواء، يمط رأسه إلى أقصى ما يتيحه العنق المشرئب نحو الأعلى، مُعطياً تعليماته لكائن الهوائي على سطح المبنى محدود الطوابق، صائحاً: «حرِّكه في الاتجاه الآخر!» ثم يهبط صوت كائن الهوائي من فوق متسائلاً: «هل جاءت الصورة؟»، فيرد نصف الجسم المعلَّق: «ليس بعد. حرِّكه إلى اليمين»، فيحركه كائن الهوائي إلى اليمين. «والآن؟!» يستفسر. فيأتيه الجواب: «هكذا أفضل، حرِّكه أكثر.. توقفْ. لقد جاءت الصورة!» ولا يبدو أننا نشعر بالحرج أو نظن للحظة أننا نسبب الإزعاج لغيرنا، ذلك أن كائناً هوائياً آخر قد يتقاسم وكائننا السطح والصياح، متبادلاً التعليمات مع جسم معلَّق آخر. ففي كل البيوت ثمَّة فرجة عالقة في الجو لم تصل لسبب أو لآخر على شاشة التلفزيون، وكائنات هوائية تضبط الهوائيات الشبيهة بفزاعات حائرة، ونوافذ مفتوحة على أنصاف أجسام مشرئبة، مستسلمة لقدر البحث عن صورة مراوغة.
رحل الهوائي. لم نعد نذكر هذا الذي كنا نسميه «الأنتين» أو «الإيريال»، ملحّنين تسميته الإنجليزية. برحيله كأن خيالنا الشخصي تقلّص، مكتفين بخيال جماعي شبه مكتمل. برحيله كأن حياتنا انكمشت هناءتها. ففي زمن الصورة المحدودة أو المهدّدة بالغبش الفجائي وربما الزوال، كنا نعانق الشاشة بعيون عطشى، وآذان لا تحيد عن الإصغاء، ومن ثم نصوغ مخيالنا بالحد المتاح من صور وأصوات نقبض عليها بجمر التوق. علَّمتنا تلفزيونات الهوائي طقس الفرجة الأصيلة، الفرجة التي تبدأ بوقت محدد في اليوم وتنتهي في ساعة تتخطى انتصاف الليل بقليل، تعقبها موسيقى الوداع، والـ «الششششش» المميزة لانقطاع البثّ المقنَّن، وبالتالي كان علينا إذن أن نَعُبَّ منها قدر ما تستطيع، بقدر ما تقدِّمه لنا.
في زمن الهوائي، كان الخيال الآتي من الشاشة محدوداً، يسيراً، لكنه كان معقولاً لتحفيز خيالاتنا الفردية التي تجتهد كي تكون وتتكوّن بطريقتها. لم يكن الخيال الذي يطالعنا من الشاشة فذاً وخارقاً، وفي أحيان كثيرة لم يكن مدهشاً وفاتناً وآسراً، لكنه كان ينخز خاصرة الشعور علّنا نلتجئ إلى تخيّل ما قد يكونه خيال آخر غير مُتاح.
اندثر الهوائي وتناءى زمانه النائي، والصورة التلفزيونية أضحت اليوم نقية في زمن الفضاء المعبّأ بقنوات محسّنة، متدفقة، لا يعترض موجاتها مزاج الطبيعة المتقلِّب. ومن قناتين يتيمتيْن في ماضينا، إلى جانب قناة أو قناتين مستلَفتيْن بصعوبة من جغرافيا مجاورة، نفتح التلفزيون في زماننا الراهن بقدر قليل من التماس -وبقدر أقل من التوق- على مئات القنوات، التي لا تنام، وملايين الصور السريعة والأصوات الهادرة التي نبترها إذ ننتقل بقلة صبر وكثير ضجر من قناة لأخرى، في فرجة متلعثمة، متعثِّرة، تُسفح فيها خيالات كثيرة متشظّية، لا مجال لجمعها، كما لا تترك وراءها رغبة في استكمالها، لا تثير تحدياً، لا تخلف تساؤلاً من نوع ماذا لو، ولا تترك حنيناً من نوع يا ليت.
كائنات الهوائي الرشيقة استقرت على الكنبات بثقل. وزمن الهوائي حزم الصور القديمة وغادر، والمخيال الذي كنا نفصِّله ونحيكه من فرجتنا الضئيلة بات جاهزاً، مقاسه يناسب الجميع.
مضى الهوائي. استرخت كائنات الهوائي. والحياة لم تعد هانئة.