طاقة واقتصاد

الموجات المتعاقبة
أثر التكنولوجيا الاجتماعية على عالم الأعمال

«الموجات المتعاقبة» مصطلح يطلق على الحركة الاجتماعية الهائلة القائمة بفعل بعض المواقع الإلكترونية. ولأن هذه الحركة هي ذات تأثير كبير على أعمال الشركات، كان لا بد من دراستها. ليلى أمل تعرض واحدة من طليعة هذه الدراسات التي صدرت مؤخراً بعنوان «الموجات المتعاقبة، النجاح في عالم غيرته التكنولوجيا الاجتماعية».
عندما نشرت شركة « فورستر» المرموقة للأبحاث تقريرها عن الحوسبة الاجتماعية عام 2006م، تنفس الآلاف من قادة الشركات الكبرى الصعداء. وكأنما كان التقرير جواز المرور الذي سمح لكثير من الهواجس الخجولة حول النشاطات التي تجري على صفحات الإنترنت بالظهور. وبدلاً من أن يُكتم الجهل ظهرت الأسئلة، وتوافد عملاء الشركة على محلليها طلباً للنصح والمساعدة. من بين هؤلاء كان ريك كلانسي، المدير التنفيذي لقسم العلاقات العامة في شركة «سوني» العملاقة للإلكترونيات.

اعتاد كلانسي على التعامل بسهولة مع شكاوى العملاء، والتقارير المالية المعقدة, وتحديات المنافسين. ما لم يتعود عليه، هو تلك القوى التي لا يعرف لها كنهاً: مدونات، منتديات، يوتيوب، فيس بوك وماي سبيس.. أسماء كلما ظن أنه قد فك شيفرة إحداها، ظهرت ساحة أخرى جديدة. وكلها تتيح لمن يود الحديث عن أي من منتجات الشركة وكفاءتها وخبرته كمستهلك معها أن يفعل ذلك دون أن يكون لكلانسي، أو حتى لرؤسائه، أدنى سلطة لتغيير أو تعديل ما قد قيل.

قرر كلانسي أنه لا يفل الحديد إلا الحديد، ولذلك لجأ إلى شركة «فورستر» طالباً المساعدة في التخطيط لإنشاء مدونة إلكترونية يواجه فيها الموجات الجارفة لما يُعرف بالتكنولوجيا الاجتماعية.

كلانسي هو المثال الذي اختاره الباحثان في «فورستر»، شارلين لي وجوش بيرنوف، ليبدءا به كتابهما المعنون «الموجات المتعاقبة: النجاح في عالم غيرته التكنولوجيا الاجتماعية»، حيث يستكملان ويفصِّلان فيه الحديث الذي بدأه تقريرهما حول الحوسبة الاجتماعية.

أولاً: المد
ظاهرة الموجات المتعاقبة كما سماها الكتاب، هي تلك الحركة التلقائية المندفعة لجماهير غفيرة دونما اتفاق أو تنظيم، ويستخدم فيها العامة الإنترنت للتواصل والحصول على ما يريدون من بعضهم البعض سواءً أكانت فكرة، معلومة، دعم، أو حتى منتج، دون انتظار الإذن من الشركات. هذه الظاهرة هي عالمٌ متكاملٌ نما على حين غفلة من الشركات الكبرى وقياداتها، لتفاجئهم بسطوتها وتحكمها بمقادير الأمور، فتسهم في نجاح شركة، وفي فشل أخرى.

لقد شكَّلت الإنترنت بتطبيقاتها الاجتماعية جماهير ووحدتها وأعطتها الصوت والحرية. والآن تشكِّل هذه الجماهير فيضاً لا يمكن مقاومته، يهدد بأن يأتي على الأخضر واليابس! فهذه الساحات الخالية تمتلئ اليوم بأناس يجدون القوة في حضور بعضهم البعض. والأمر، كما يثبت الكتاب مثالاً بعد مثال، أصبح واقعاً امتد ليؤثر على استقرار الشركات وسمعتها في السوق، بل وأرباحها.

عبر فصوله الإثني عشر، يقدِّم الكتاب شرحاً لهذه الظاهرة وبيان مدى تأثيرها أولاً، ثم يوضح كيف يمكن للشركات أن تجد لنفسها موطئ قدم في زحامها. وأخيراً كيف يمكن توظيف الموجات المتعاقبة لتحسين أداء موظفي الشركة داخلياً.

في مراجعتهما لما كُتب عن هذه الظاهرة، وجد الباحثان أن أغلب ما كتب كان يتناول جزءاً منها: مقالة عن المدونات الإلكترونية وأخرى عن «الفيس بوك»، كتاب عن «اليوتيوب» وآخر عن المنتديات الإلكترونية، وكلما صدر كتاب من هذا القبيل، تزايد ذعر القارئ من التفاصيل التي عليه أن يلم بها إن أراد أن يفهم كل واحدة منها على حدة. وليزيد الطين بلة، لا تتوقف التكنولوجيا عن الإتيان بشيء جديد بين فترة وأخرى، والمهلة بين هذا وذاك لا تسمح باستيعاب أيٍ منهما.

تأتي مساهمة الكتاب من إقراره لقاعدة جوهرية، هي التعامل مع مختلف أنواع هذه التكنولوجيا الاجتماعية، قديمها وجديدها وما لم يزل منها في عالم الغيب، على أساس أنها جسد واحد. أدوات مختلفة تؤدي أغراضاً مختلفة لكنها في النهاية تصب في مجرىً واحد. هذا الكتاب هو «دليل التشغيل» لهذه الأشكال المختلفة من التطبيقات. يشرح بكثير من الصبر ما هي هذه التطبيقات، كيف تعمل، ومن يشارك فيها، وكيف تنشأ عبرها العلاقات الإنسانية، وكيف تهدد القوى المؤسساتية، وكيف يمكن للقارئ أن يطوعها لصالحه. الشرح يفترض فعلاً أن بعض قرَّائه لم يرَ شيئاً من هذه الوسائل، والتفصيل في شرحها، مفيد ويحترم ذكاء هؤلاء القراء.

ويقدِّم الكتاب أداةً محورية للتعامل مع هذه الظاهرة ببصيرة قد تغيب ضمن حماسة الشركات لاعتناقها، وهي الوصف الاجتماعي التكنوجرافي (Social Technographics Profile). تتعامل هذه الأداة مع شرائح المجتمع الواسعة (الأطفال، المراهقين، الشباب، الراشدين…) وغيرها من الشرائح الفرعية (الفتيات المراهقات، الصبية، الأمهات في منتصف العمر…) وتربطها بنوعية تعاملها مع الإنترنت بوسائلها المختلفة. على سبيل المثال، يذكر الكتاب أن غالبية نشاط الأمهات على الإنترنت يتركز على كرسي المتفرج، قراءةً ومشاهدة واستماعاً إلى المواد المنشورة، من دون المساهمة في صناعتها إلا بنسبة بسيطة، بينما الآباء من متسوقي الألعاب على الإنترنت هم على العكس من ذلك، ويسهمون بشكل كبير في الكتابة عن الألعاب التي يبتاعونها لأطفالهم.

ثانياً: الجزر
صمم الباحثان في كتابهما خطة عمل منظمة تسمح للشركات وقياداتها بتولي زمام الأمور، رغم أنها لا تعد مطلقاً بترويض الوحش. هي فقط تقدِّم طريقة لقيادة انطلاقته لما فيه صالح الشركة. وتعتمد هذه الخطة على أربعة محاور: الجمهور، والأهداف، والاستراتيجيات، والتكنولوجيا.

فبعد أن تحدِّد الشركة طبيعة جمهورها، تستطيع باستخدام الأداة التي قدَّمها الكتاب (الوصف الاجتماعي التكنوجرافي)، أن تحدِّد النشاطات التي تروق لهذه الشريحة من الجمهور. فإن كانوا ممن يقرأون فقط، فالمدونة الإلكترونية ملائمة لتتوجه بها إليهم. أما إن كانوا ممن يناقشون وينتقدون، فالمنتديات الإلكترونية أولى. ثم، ينتقل الكتاب إلى الحديث عن الأهداف.. ما هي أهداف الشركة من انخراطها في حراك الإنترنت إن جاز لنا وصفه بذلك؟ بعد ذلك يأتي دور الاستراتيجيات، وهي الخطط التفصيلية طويلة الأمد التي ترسمها الشركة كي تحقق أهدافها. أما المرحلة الأخيرة فهي تحديد نوع التطبيقات الإلكترونية التي تتماشى مع الاستراتيجيات والأهداف، والجهة المسؤولة عن تنفيذها.

ولأهمية المحور الثاني المتضمن للأهداف، يفرد له الكتاب خمسة فصول متتالية، يتناول كل منها كل هدف على حدة، فيشرح بالتفصيل المراحل التي تمر بها الشركة لتحقيقه، مع إيراد أمثلة تطبيقية لشركات أدرجت، أو اضطرت إلى إدراج، ظاهرة الموجات المتعاقبة ضمن خططها الاستراتيجية. الأمثلة تناولت شركات عالمية كبرى مثل «بروكتر آند جامبل» و«دِلّ» و«يونيليفر»، وصغرى مثل «إي لجج» لبيع حقائب السفر و«كونستانت إيميل» للتسويق الإلكتروني.

ثالثاً: وما بينهما
في النهاية، يتناول الكتاب كيف يمكن استخدام ظاهرة «الموجات المتعاقبة» لتعزيز أواصر التعاون والعمل المشترك بين موظفي الشركة الواحدة، مع تفاصيل أكثر حول الفروق بين استراتيجيات توظيف الظاهرة لخدمة عملاء الشركة وبين تطويعها لخدمة موظفيها.

يحمل الكتاب نبرة صوت متحدثٍ مسترخ، من دون أن تشك للحظة في يقظته الحادة. هو أيضاً يفاجئك بتوقعه لسؤالك قبل أن تطرحه، فبالرغم من أن ترتيب الكتاب متوازن وواضح، إلا أن المؤلفين لا يجدا حرجاً في مقاطعة الأفكار المنسقة بعناية، كي يجيبا عن تساؤلٍ يطرحه سياق الحديث. وبعد أن يزيحا عقبة الحيرة من طريق القارئ، يعودان إلى طرحهما السابق بيسر وثقة. الكتاب في مجمله موجَّه إلى الشركات القائمة أصلاً، إلا أنه أيضاً موردٌ غني لكل من بدأ للتو في إدارة عمله الخاص، أو حتى لا يزال في مرحلة التخطيط لذلك.

أعظم ما يمكن أن يقدِّمه الكتاب، ليس الاستراتيجيات التي تضمن النجاح والوقوف في وجه الطوفان أو حتى الطفو على أمواجه لتصل الشركة إلى الوجهة التي تريد، بل وضع الأمور في نصابها، فلا تعود هذه الظاهرة بأجزائها المختلفة مجهولاً لا تملك إلا أن تتوجس منه. أنت الآن في النور.

أضف تعليق

التعليقات