حتى الأمس القريب، كان المحتوى الثقافي العربي على شبكة الإنترنت يواجه بالنقد والتقييم انطلاقاً من انطباعات عامة يخرج بها المستخدمون، وبشكل خاص، الذين تضطرهم أبحاثهم في مجال الثقافة الاعتماد جزئياً أو كلياً على الشبكة. ولكن باكتمال الدراسة العلمية للمحتوى الرقمي العربي، وصدور نتائجها في كتاب «مطبوع»، بات بين أيدينا ما يتجاوز الانطباعات بكثير في دقته، وإن كانت قراءة هذا البحر من الأرقام والنسب المئوية صعبة بعض الشيء، فمما لا شك فيه أن قراءتها بشيء من التمعن، يتكشف عن كثير من الحقائق المتعلقة بأحوالنا ثقافياً في الوقت الحاضر، ويؤكد بالأرقام بعض الانطباعات التي كانت مثيرة للجدل، أما اليوم فبات من الصعب دحضها.
الدراسة التي أنجزتها «مؤسسة الفكر العربي» برعاية من «مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي»هي الأولى من نوعها في تناولها للمحتوى الرقمي العربي. وإن كان يستحيل في هذا المجال تناول المنهجية العلمية والتقنية التي اتبعها المشرفان عليها، وهما خبير المعلوماتية جمال محمد غيطاس، وأستاذ اللغويات الحاسوبية الدكتور خالد الغمري، فإن الاطلاع على هذه المنهجية بكل تعقيداتها كما وردت في بداية الكتاب، تمنح نتائجها حداً عالياً من الصدقية فيما يتعلق بما تعبِّر عنه الأرقام والنسب المئوية الكثيرة جداً التي تشمل مختلف أنواع المعارف العربية التي تم تحميلها على شبكة الإنترنت حتى نهاية العام 2011م، التي كتبت سواء داخل البلاد العربية أم خارجها. وحسبما جاء في المقدمة: «فقد تم تنفيذ المشروع في جناحيه الوصفي الإلكتروني من خلال مرصد «مأرب»، والتحليلي النقدي انطلاقاً من عيِّنة غير مسبوقة في المشروعات الأخرى المشابهة، وتبلغ هذه العينة 20 مليوناً و451 ألفاً و84 وحدة. وتغطي هذه العينة الضخمة الفترة الزمنية الواقعة بين العامين 1995 و2011م.
صورته البانورامية
«الصورة البانورامية الكبرى» للمحتوى الرقمي العربي كما يستعرضها التقرير في الفصل العاشر والأخير من القسم الثاني، لا تبعث كثيراً على الزهو بهذا المحتوى، رغم احتوائه على جزئيات إيجابية عديدة ومتناثرة هنا وهناك. فقد وصف التقرير المحتوى الرقمي العربي على أنه:
– كياناً قزمياً في عالم الإنترنت.
– حركته الإجمالية بين البطيئة والمعقولة ونموّه لا يكفي للانتقال به من عالم الأقزام إلى عالم العمالقة.
– له قلب ينبض بمعدل قابل للملاحظة وأطراف ضامرة شبه ميتة.
– فيه عديد من الأجزاء الخاوية المنتفخة كبالونات الهواء، وعديد من المناطق الحاملة للقيمة.
– بعض أجزائه نما مبكراً وشاخ مبكراً، وبعضها الآخر يبدو متعثر الخطوات، وبعضها الثالث حديث العهد، ظهر فتياً عفياً مبشِّراً بنمو لا يعرف الهدوء.
ولكن هذه الصورة البانورامية العامة تنطوي على موزاييك هائل ومتلوّن من التفاصيل التي تكشف بوضوح وبشكل مباشر عن مسائل محددة. ومن الممكن أيضاً الانطلاق منها لقراءة قضايا على مسافة أبعد لم يتناولها التقرير مباشرة.
حصة الثقافة من المخزون
في تصنيف مجمل المحتوى الرقمي العربي بحسب الموضوع، تصدَّرت القضايا الثقافية، وبفارق ساحق كل القضايا الأخرى. إذ استحوذت على %44.5 من المحتوى ككل. والباقي توزَّع على القضايا الإنسانية والسياسية والقانونية والعلوم والتعليم والاقتصاد والقضايا العسكرية والأمنية والإعلام ووسائل الاتصال..
هذه النسبة تبدو مدهشة. إذ إن 8 ملايين و333 ألفاً و305 وحدات خضعت للتحليل اتضح أنها تتمحور حول «الواصفات الموضوعية» المندرجة تحت قضايا الثقافة. ويتم بث هذه الوحدات الرقمية ومتابعتها من خلال 1266226 قناة على الإنترنت تضم مدونات، ومواقع، وحسابات مؤسساتية وبخاصة على فيسبوك وتويتر، وقوائم بريدية ومنتديات وقنوات فديو على يوتيوب ومستودعات صور. وتمثل هذه القنوات ما يعادل %45 من إجمالي قنوات النشر المستخدمة في بث ومتابعة ونشر المحتوى العربي. ولكن..
تكمن الصدمة الأولى التي «تنفِّس» انتفاخ هذه النسبة في مطالعتنا للمواصفات الموضوعية لما يُعد «ثقافة»، وقد بلغ عددها 45 واصفة تشمل، إضافة إلى الأدب والتأليف والنشر والفنون والفكر والتراث، وكل أشكال القضايا الدينية والنشاطات الرياضية وصولاً إلى الموضوعات الترفيهية.
وإن كانت هذه المواصفات تختلف بشكل واضح عن مفهومنا التقليدي والشائع للثقافة (الذي لا يرحِّب كثيراً بضم الرياضة إليها)، فمن حسن الحظ أن الدراسة فصّلت لاحقاً حجم المكونات الثقافية الكبرى تحت هذا العنوان العريض، لنكتشف ما يشكِّله كل مكوَّن على حدة من القضايا الثقافية التي يبلغ حجمها %44.5 من إجمالي المحتوى الرقمي العربي. وجاءت النتيجة على الشكل الآتي:
– %34.9 للدين (قضايا حركات، مبانٍ.. الخ).
–
%32.5 لقضايا الترفيه كالموسيقى والسينما والفن والأغاني والأفلام والفنانين والفنون الاستعراضية والفنون المرئية وغيرها.
– %10.8 للرياضة وقضاياها.
وتضيف الدراسة: «ثم تأتي بعد ذلك حزمة من الموضوعات ذات العلاقة بالفكر والإبداع تضم 14 موضوعاً هي بالترتيب التنازلي بحسب نصيبها من المحتوى: المؤلفون والقيم الأخلاقية والشعر والموارد الثقافية والأوضاع الثقافية، والتراث الثقافي والإبداع الثقافي والأشكال والأنواع الأدبية واللغات والبرامج الثقافية والفلسفة والنثر والرواية والترجمة، ويتراوح نصيب (كلٍ من) هذه القضايا بين 1.3 و%0.25، وتستحوذ مجتمعة على %18.3 من إجمالي القضايا الثقافية، ويتبقَّى بعد ذلك 22 قضية ثقافية، وهذه يقل نصيب كل منها عن نصف في المائة وتحصل مجتمعة على %3.3 من المحتوى الثقافي.
في نوعية هذا المحتوى
يقول المشرفان على هذه الدراسة إن هذا التوزيع «هو في حقيقته نوع من السباق أو التنافس بين أمرين رئيسين «الدنيا والدين» وبينهما «البدن والعقل»، أو بين المحتوى الخاص بأمور السعادة والمتعة الدنيوية ممثلاً في الترفيه، والمحتوى الخاص بأمور السعادة الروحية والأخروية ممثلاً في الدين والتدين. لكن مضمار السباق ليس خالياً لهما وحدهما، إذ يزاحمهما المحتوي الذي يهتم بـ«البدن» أو بالصحة الجسدية والنشاطات الرياضية، خصوصاً المنافسات الكروية، (وأخيراً) المحتوى الذي يهتم بالعقل والإبداع عبر قضايا الفكر والتأليف، رواية وشعراً ونثراً وترجمة وغيرها.
إن هذا التوزيع يعكس ما هو قائم في عالم ثقافتنا المطبوعة، وعلى أرض الواقع بشكل عام. والمشكلة التي يتكشف عنها تكمن في أن المكونات المتعارف عليها تقليدياً على أنها مكونات الثقافة الحية مثل الآداب والفنون الراقية والفكر لا تزال عاجزة عن اللحاق كماً بالرياضة مثلاً. وقد يكمن بعض أسباب هذه المشكلة في عدم تحميل ما يكفي من تراثنا الثقافي القديم على الشبكة، ولكن المؤكد هو أن إنتاجنا الأدبي والفكري المعاصر يحظى بنصيب وافر من التحميل، ومع ذلك يبقى خلف الرياضة!
خُمسٌ أصيل وأربعة أخماس مكرر
غير أن أكثر ما يطيح بالنسبة الكبيرة (%44.5) التي تشغلها القضايا الثقافية من إجمال المحتوى العربي، ويقزِّمها هو ما نجده في هذه الدراسة ضمن فصل بعنوان «صراع الثرثرة والقيمة، الغث والسمين في المحتوى الرقمي العربي».
فاستناداً إلى معيار الأصالة الذي يقيس مدى التفرد وعدم التكرار والنقل بالنسخ واللصق بأي طريقة أخرى في المحتوى، وجد الباحثان أن متوسط عام نسبة المحتوى الأصيل المتفرد، أي غير المتكرر الذي لا يتم تناقله ونسخه وإعادة نشره بين قنوات النشر المختلفة في المحتوى الرقمي العربي يصل إلى %20.5 فقط. أي أن أربعة أخماس هذا المحتوى يعاني بدرجات مختلفة من التكرار والنسخ والنقل، أي يدخل في باب الثرثرة.
صحيح أن الدراسة لم تتناول هنا حال القضايا الثقافية بحد ذاتها، بل تناولت كل المحتوى العربي بشكل عام. ولكن من المرجح جداً أن هذه النتائج حول الأصالة والتكرار تنطبق أيضاً على القضايا الثقافية بالنسبة نفسها، إن لم يكن أكثر.
وفي توزع نسب المحتوى الأصيل نجد وفق الدراسة أن أعلاها ويصل إلى %23.2 في المحتوى الخاص بالمقيمين خارج الوطن العربي، وفي المركز الثاني يأتي المحتوى الموريتاني كثاني أكبر محتوى عربي يتصف بالأصالة وقلة الثرثرة، حيث تصل فيه نسبة الأصالة إلى %22.6،يليه المحتوى العُماني في المركز الثالث بنسبة %21.2، وفي منطقة وسطى جاء المحتوى السعودي والكويتي والمغربي والسوري والليبي والسوداني بنسب تراوحت بين 15.7 و%17.6.
أما أقل الدول العربية التزاماً بقيمة الأصالة في المحتوى الرقمي فكانت: لبنان والبحرين وتونس والمغرب وقطر. وفي هذه الدول يبدو الأمر غير منطقي وغير متوقع. فهذه الدول تصنَّف ضمن الدول الأقل إنتاجاً، وكان من المنطقي أن تحقق مراكز متقدمة في مستوى الأصالة. الأمر الذي يعكس ميلاً لدى مواطني هذه الدول إلى اجترار وتكرار ما يجدونه من مشاركات وأفكار ونصوص على المنتديات أكثر من حرصهم على إنتاج إضافات متفردة خاصة بهم.
ألا يكفي هذا للإطاحة بنظرتنا التقليدية إلى مواطن الإبداع في البلاد العربية، والربط التقليدي من دون سبب واضح بين مناخات الحرية هنا أو هناك وفعل الإبداع والإنتاج المتفرد؟؟ السؤال يبقى مطروحاً.
الإنترنت..
للمشاهدة.. وليس للقراءة؟
كان موضوع الندوة التي نظمها مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي وتم خلالها توزيع كتاب «المحتوى الرقمي العربي» على الحاضرين، هو حول ما إذا كان الكتاب الرقمي سيحل محل الكتاب الورقي. فما الذي يقوله مسح المحتوى الرقمي العربي؟ الجواب يأتي من خلال معرفتنا بما يتجه إليه الجمهور العربي عندما يتصل بالشبكة.
تشكل قنوات الفديو والحسابات على يوتيوب نحو %11.5 من إجمالي قنوات النشر الفرعية الإجمالية للمحتوى العربي ككل. أما العناصر المنشورة على يوتيوب من أفلام وتعليقات فتمثل %6.8 من إجمالي عناصر ومواد المحتوى العربي. وهذه الأرقام قد تبدو معقولة إلى حدٍّ ما، ونقدها يحتاج إلى دراسة أخرى. ولكن ما هو مدهش إلى حد يكاد لا يصدَّق، هو أن نصيب الفديو العربي من العلاقات الجماهيرية يرتفع إلى %74.4 من الرقم الإجمالي لجماهيرية المحتوى العربي ككل. وهو رقم ساحق ومرتفع للغاية حسبما جاء في التقرير. إذ إنه يعني أن نحو ثلاثة أرباع إقبالنا على استخدام الإنترنت هو لمشاهدة أفلام الفديو!؟
الرقم مخيف بحد ذاته. والمؤكد أن الأهمية التي يعلِّقها الجمهور على الفديو هي أكبر من ذلك، لأننا نعلم أن الحصول على مشاهدة للفديو مرتبط بتوافر السرعة الكافية لذلك على الشبكة، وكثير من المشاهدات المرغوبة لا تتحقق في أوقات معيَّنة وتخرج بالتالي من النسبة المشار إليها.
وفي طليعة العرب الأكثر إقبالاً على مشاهدة الفديو، يأتي السعوديون الذين سجَّلوا 5 مليارات و336 مليوناً و801 ألف و361 مرة مشاهدة منذ عام 2005م وحتى نهاية 2011م. ويليهم في ذلك المصريون الذي سجَّلوا أقل بقليل من 5 مليارات، وفي المرتبة الثالثة الذين يشاهدون الفديو العربي من خارج البلدان العربية..
أما على صعيد النسب المئوية فيتفاوت الإقبال على الفديو تفاوتاً كبيراً ما بين بلد وآخر. ففي موريتانيا يذهب %99.8 من الجمهور إلى شبكات الفديو، وفي الصومال تصل النسبة إلى %98.4وإن كان هنا من يفكر بربط الأمر بواقع الحال الاقتصادي كما يبدو للوهلة الأولى، فإنه سرعان ما يجد نفسه أمام ما يفنِّد احتمال هذا الربط. إذ إن الجمهور في قطر يذهب في %92.1 منه إلى شبكات الفيديو و5% إلى تويتر و1.2% إلى شبكات الصور والنسبة الضئيلة الباقية على قنوات النشر الأخرى. الأمر نفسه ينطبق تقريباً على العراق حيث %91.9 من إجمالي جمهور الإنترنت العراقي يذهب إلى الفديو. وفي المقابل، تهبط جماهيرية الفديو في بلدان عربية أخرى هبوطاً ملحوظاً، لتصل في تونس إلى 50.4 من الجمهور، يقابلها %37.9 لفيس بوك و7% فقط لتويتر. وينفرد الجمهور المغربي عن كثير من جماهير الدول العربية بكونه لا ينجذب بشدة إلى الفديو الذي لا يجتذب منه أكثر من %17، مقابل فيس بوك %46.7، والمنتديات %22.7، وتويتر %9.2، والباقي لقنوات النشر الأخرى.
وفي تعليق الباحثين على هذا الإقبال يقولان: «إن الفديو هو إمبراطور الجماهيرية بلا منازع، ويتضاءل أمامه كل ما يقال عن قوة النص والكلمة. لأن كلمة الإنترنت باتت هي الصورة والصوت الملحق بهما نص».
إذن، فإن ما يطرح كقضية عنوانها صراع الورقي والرقمي عندما يتعلق الأمر بالكتاب أو المجلة أو حتى الصحيفة اليومية، ليس في حقيقته قضية. إذ إن ما يواجهه الكتاب الإلكتروني والصحافة الإلكترونية من حيث ضعف الإقبال الجماهيري عليه هو نفسه ما يواجهه الكتاب الورقي والصحافة الورقية. بعبارة أخرى، إن «القضية» هي في مكان آخر غير وعاء النشر والتقديم..
ومع العلم أن الفديو كوعاء غير معني (وليس قادراً) على أن يحمل مكونات ثقافية أساسية مثل الآداب والأبحاث والدراسات، فيجب الإقرار على أنه لا يخلو من مكونات أخرى مثل الأفلام السينمائية والأعمال المسرحية، وبعض التسجيلات لمحاضرات أو ندوات شعرية إضافة إلى الموسيقى والأغاني (الراقية منها بموازاة الهابطة). ولكن ما الذي يحظى بمرَّات مشاهدة أكثر من غيره؟
إن الدراسة هنا ليست بالتفصيل الكافي لإطلاق الأحكام المثبتة بالأرقام. ولكن استحواذ الفيديوهات «الثقافية» التي تضم من جملة ما تضم الأغاني والأفلام والموسيقى وأخبار الفنانين وفضائحهم على %69 من إجمالي مرَّات المشاهدة للفديو العربي، لا يؤكد شيئاً واضحاً على صعيد القيمة الثقافية لهذه المشاهدات. ولكننا من تجاربنا نلاحظ أن الفديو الأكثر استقطاباً هو الأكثر إثارة صحفياً، وفي الطليعة تأتي أخبار المثقفين وتصريحاتهم المثيرة للجدل أو أخبار فضائح الفنانين وغير ذلك من المحتويات الأقل قيمة. وإن كان هذا انطباعاً عاماً، ليس في الدراسة من الأرقام ما يؤكده مباشرة، فإن بعض الأرقام الأخرى تعزِّز احتمال صحته. إذ يبدو أنه كلما ارتفع مستوى جدية المحتوى كلما هبط عدد المشاهدات.
فبعد نسبة %69 التي تحظى بها القضايا الثقافية من إجمالي مشاهدات الفديو العربي، تأتي الأفلام الإنسانية والاجتماعية والمناسبات وغيرها بنسبة .%11وفي مراكز تالية ومتدنية جاءت باقي النوعيات الأخرى من الأفلام. فالإقبال على الأفلام السياسية والقانونية احتل المرتبة الثالثة بنصيب ،%6.7وبعدها جاءت الأفلام العلمية بنسبة ،%4.4ثم الأفلام المتعلقة بوسائل الاتصال والإعلام، والاقتصاد، وكلها سجلت مستويات مشاهدة أقل وكانت نسبتها أقل من ،%5وفي المركز قبل الأخير جاءت الأفلام التعليمية التي سجلت مستويات مشاهدة متدنية بصورة لافتة للنظر، نحو %1.6 فقط من إجمالي المشاهدات، وفي ذيل القائمة جاءت الأفلام العسكرية والأمنية بفارق ضئيل عن التعليم وحصلت على .%1.5
وتخلص الدراسة استناداً إلى ما تقدم، إلى «أن الذائقة الموجودة لدى مشاهدي الفديو العربي على الإنترنت تفضل الثقافة والترفيه، ومعها بعض الجوانب الإنسانية والاجتماعية وقليل من السياسة، والنادر من العلوم والاقتصاد والتعليم والأمن..». فانحدار عدد المشاهدات بارتفاع أهمية الموضوع يشير بشكل غير مباشر، ولكنه واضح، إلى أن ما يأتي على رأس القائمة هو الأخف والأكثر سطحية.. ونرجح من دون أن نقطع أنه يتمثل في التسلية والترفيه شبه المجرَّد من أية قيمة ثقافية أو فكرية.
المتاح وغير المتاح
وما يتكشَّفان عنه
وفي الفصل الخاص بـ«الوصول إلى المحتوى الرقمي العربي واستخدامه، بين الانفتاح والتقييد»، تورد الدراسة ما يستحق التوقف أمامه فيما يتعلَّق بالمحتوى الرقمي الثقافي.
ففي دراسة نسب المحتويات التي تتيح الوصول إليها من دون عوائق وفق المواضيع والاهتمامات المختلفة، تبيَّن أن محتوى القضايا الاقتصادية هو الأكثر انفتاحاً، ثم محتوى القضايا السياسية والقانونية، يليه المحتوى التعليمي ثم العلمي، فالمحتوى الخاص بقضايا الإعلام والاتصال.. أما المحتوى الثقافي فهو يحقق مفاجأة معاكسة للتوقعات.
فقد كان «من المتوقع أن يأتي المحتوى الثقافي على رأس القائمة، كأكبر موضوع مفتوح من المحتوى الرقمي العربي على الإنترنت. وذلك لأن منتجيه وموفريه هم في الوقت نفسه من ذوي الثقافة والفكر الذين يقدِّرون ويدعون لقيم الحرية والانفتاح والمشاركة. لكن الأرقام أشارت إلى أنه يحتل المركز السابع، لأن حالة الانفتاح العام تطبق على %73.6 من المواد وقنوات النشر الثقافية»، وفي المقابل تصل نسبة المواد التي تحقق المستوى الثالث من حرية الوصول إليها (كثرة العوائق) إلى .%26.4
وتفسر الدراسة هذه النتيجة المفاجئة بالقول «إن الاتجاه العام على الإنترنت هو أن من ينتجون هذا المحتوى يضعون قيوداً على استخدامه للحد من عمليات القرصنة والنسخ غير القانوني، وما إلى ذلك من قضايا مرتبطة بالملكية الفكرية وحقوق التأليف والنشر وهذا الاتجاه هو الذي يرفع مستوى القيود المفروضة على الانفتاح العام مقارنة بقضايا المحتوى الأخرى في كثير من المواقع الثقافية». ولأنه في المقابل يوجد «كثير من قنوات النشر التي تقدِّم محتوى ثقافياً -ترفيهياً بالأساس- ليس من إنتاجها، ولكن منسوخاً أو مستولى عليه من آخرين، وتعرضه بصورة لا قيود عليها على الإطلاق» يتحسَّن نسبياً موقع المحتوى الثقافي على سلم الانفتاح. بعبارة أخرى، لولا القرصنة، لكان معدَّل الانفتاح وإمكانية الوصول إلى المحتوى الثقافي أسوأ مما هو قائم حالياً بكثير.
وأكثر من ذلك، فإن ما يتكشَّف عنه مستوى الانفتاح يتجاوز ما أشرنا إليه سابقاً. إذ إن تفسير الأمر بحماية الحقوق والملكيات الفكرية يكشف بشكل غير مباشر، غلبة الإنتاج الثقافي المعاصر على التراث (الذي لم يعد محمياً بقوانين الملكية الفكرية) ضمن المحتوى الثقافي العربي. كما يكشف ضعف الرعاية الحكومية لنشر المعارف الثقافية مجاناً، بخلاف ما هو عليه الحال في أوروبا مثلاً، حيث تولت جهات حكومية رسمية أعباء تحميل تراثها الثقافي والحضاري على الإنترنت وأتاحت الوصول إليه أمام شعوب الأرض قاطبة.
ظاهرة فجة ومقلقة
تذكر الدراسة أن المحتوى المكتوب باللغة العربية خارج الوطن العربي يشكِّل %7 من إجمالي المحتوى العربي الذي تناولته، وينشر من خلال %2.8 من إجمالي قنوات نشر المحتوى العربي، ويتركَّز %68 من هذا المحتوى في المواقع والباقي موزَّع على قنوات النشر الأخرى.
تبدو هذه الأرقام عادية أو حتى متواضعة على مستوى العناصر وملفات الحجم وغيرها. لكنها تتحول إلى مصدر حيرة وقلق عندما نعرف مدى جماهيريتها، إذ إنها تستحوذ على %18.5 من جمهور المحتوى العربي، أي نحو خُمسه. وهذا يعني أنه محتوى يتمتع بجاذبية جماهيرية واضحة في مقابل المحتوى المنتج داخل البلدان العربية، أو حتى المحتوى غير معروف الجنسية.
يجذب هذا المحتوى المنتج بالعربية خارج البلاد العربية %11.5 من جماهير الفديو العرب، و%10 من جمهور الصور، و%1 من زوار المدوَّنات و%3.12 من مستخدمي تويتر و2.5% من مستخدمي فيس بوك العرب و4.09% من زوَّار المنتديات. وإن بدت هذه الأرقام معقولة إلى حدٍّ ما، «فإن التوزيع الداخلي لجمهور هذا المحتوى على قنوات النشر ينطوي على أمر مقلق للغاية، يتمثَّل في أنه يستحوذ على %91.49 من إجمالي جماهير المواقع التي تقدِّم المحتوى العربي. وهذا معناه مزيد من الإحكام الشديد في حلقات تقديم هذا المحتوى من قبل منتجيه وناشريه»، وهذا ما مكَّنهم «من تقديم محتوى شديد الجاذبية مقارنة بما يقدَّم عبر المواقع العربية العاملة في الداخل، بل يمكن القول إنه محتوى يحيل عشرات الآلاف من المواقع العربية إلى الهامش ويجعلها بلا قيمة». وعندما نحاول إسقاط هذه الحقيقة على القضايا الثقافية، نشير إلى أن المواقع تشكل القنوات الرئيسة الحاملة لنشاطات المؤسسات الثقافية كالأندية والوزارات ودور النشر ووسائل الإعلام والجامعات، وهي تقع كلها في البلاد العربية، أي أن مواقعها تدخل في الفئة «المظلومة» جماهيرياً.
ويتناول التقرير أسباب تفوق المحتوى العربي المكتوب في الخارج بتميزه بعناصر عديدة، جمعها تحت عنوان «الجودة سر السطوة»، وعدَّد منها: التكاملية، والأصالة، والإنفتاح، إضافة إلى جودة العناصر التقنية.
الاستفادة لا تزال ممكنة.. حالة فيس بوك وتويتر والمواقع مثلاً
إن واحدة من أهم الغايات التي يسعى هذا التقرير إلى تحقيقها هي التوصل إلى تعامل أفضل مع المحتوى الرقمي العربي، بحيث يصبح أكثر فاعلية مما هو عليه الآن، وذلك من خلال تلافي الاصطدام بالمعوقات أو السقوط في الثغرات الكثيرة، وما اختيار قناة معينة ملائمة أكثر من غيرها من قنوات الإيصال، إلا واحداً من جملة ما يجب أخذه في الحسبان.
ولو أخذنا وسيلتي الاتصال الاجتماعيتين الأكثر شيوعاً ونمواً في وقتنا الحاضر وهما فيس بوك وتويتر، وحاولنا استطلاع مكانتهما فيما يتعلق بقضايا الثقافة، لوجدنا التقرير يتضمَّن من المعطيات ما يستوجب منَّا مراجعة الصورة النمطية التي رسمناها لكلٍ من وسيلتي الاتصال هاتين.
لقد تلقى فيس بوك دفعاً أدى إلى تزايد سرعة نموه في العام 2011م، بسبب إطلاع العالم بأسره على الدور الذي لعبه في الأحداث السياسية وخاصة في مصر. «فراحت بعض وسائل الإعلام العربية تروِّج لفكرة أن الفيس بوك في بلاد العرب يعجّ بالحديث عن السياسة والثورات. وأن فعالية الأحداث السياسية هي الشغل الشاغل الأول لما يجري على الفيس بوك. وحقيقة الأمر أن بصمة 2011م صحيحة إجمالاً. كما أن السياسة تطغى على ما عداها في أماكن معينة وفي أوقات معينة كما هو الحال في لبنان الذي يشهد فترات متقطعة من الاضطرابات. ولكن تحليل إجمالي المحتوى الرقمي العربي على فيس بوك يؤكد أن القضايا الثقافية تستحوذ على %44 منه، (تتضمن %21 من المواد المتعلقة بالأنشطة الدينية، و9% لنشاطات الفن والترفيه والغناء والموسيقى والفنانين)، يلي ذلك القضايا الاجتماعية والإنسانية التي تستحوذ على ،%18وبعدها بفارق طفيف القضايا السياسية والقانونية، ثم القضايا العلمية ،%6والاقتصادية ،%5والأمنية والعسكرية ،%4والإعلام والاتصال ،%2.8وأخيراً التعليم 2%».
أما تويتر فيحتضن محتوى عربياً حديث النشأة، يتسم بالفتوة والنمو السريع. وعلى مستوى التصنيف الموضوعي فإن محتواه هو ترفيهي، ديني، سياسي في المقام الأول. ويقول التقرير الذي لا يشير إلى أي شيء يتعلَّق بالقضايا الثقافية على تويتر (إذا استثنينا الدين)، إنه داخل هذا الخليط الثلاثي تسيطر النزعة الاستهلاكية، وتزاحمها الثرثرة.
وجاء في التقرير أن محتوى تويتر العربي يحقق درجة أصالة قدرها %16.2 فقط كمتوسط عام، وهي نسبة ضئيلة جداً مقارنة بالأصالة في قنوات أخرى وأقل من المتوسط العام بـ %4. الأمر الذي يجعل من تويتر ساحة ضخمة للتكرار والثرثرة.
وفي المقابل، فإن نسبة المحتوى الأصيل على فيس بوك يصل إلى ،%66.4ما يعني أن نسبة %33.6 فقط هي مواد مكررة.
وبغض النظر عن المواصفات الفنية المختلفة ما بين وسيلتي الاتصال هاتين (140 حرفاً فقط على تويتر، ولا محدودة تقريباً على فيس بوك)، فإن التكرار بحد ذاته هو صفة سلبية تؤثر على فاعلية القناة ككل من خلال مكانتها. أي أن فيس بوك مرشَّح أفضل لحمل القضايا الثقافية، ليس فقط بسبب إمكانية التوسع في النشر، بل أيضاً لقلة التكرار فيه مقارنة بتويتر.
ولكن الأفضل من هذا وذاك، هو في المواقع، «حيث يوجد المحتوى الأقدم والأكثر عراقة بين قنوات النشر الأخرى.. إنها فئة عريقة وراسخة، لم تفقد فتوَّتها وقدرتها على النمو. إذ تعود نشأة المواقع إلى ما قبل العام 1995م، ولا تزال هي «الجسم الصلب» للإنترنت، الذي يمثل مخزن القيمة وملعب المحترفين ومصدر التغذية في المحتوى، الذي يقدِّم القول الفصل فيما يجري على الشبكة مقابل الثرثرة الفارغة والركام الهائل من الأشياء المكررة والمتشابهة والمنقولة من هنا وهناك في بعض قنوات النشر الأخرى مثل وسائل الاتصال الاجتماعي. وبصفة عامة، تتجمَّع %5 من قنوات النشر الفرعية الخاصة بالمحتوى العربي في المواقع، وتنتج هذه القنوات الفرعية %30 من إجمالي مواد المحتوى العربي المنشورة على الإنترنت. ولكن ما حصة القضايا الثقافية من هذه النسبة؟ إنها تصغر أكثر وأكثر من النسبة التي أشرنا إليها في البداية وهي %45 من إجمالي المحتوى.
هذا هو حال الثقافة العربية في حالتها الرقمية.
وإن كان فيها ما يشير إلى أن المطبوع ما زال أفضل حالاً على الأرجح، فإن الرقمي والمطبوع من هذه الثقافة يشتركان في معاناتهما من مواطن ضعف بالغة الحدة حتى الخطورة، وتكمن في مكان أو أماكن خارج قنوات النشر وأوعيته.