يستضيف «ديوان الأمس.. ديوان اليوم» في هذا العدد الشاعر السعودي جاسم الصحيح، الذي يقرأ لنا ملذّات الشعراء، لا باعتبارها مجرد تعبيرٍ عن نزعات ذاتية، بل باعتبارها فلسفة احتجاج وصرخةً بوجه استلابِ حريّةِ الذات أمام تسلّط مجتمعٍ أو قبيلة.
وفي ديوان اليوم يقدم الشاعر قصيدة له بعنوان «عاشقٌ أَعْشَبَتْ بهِ العَـتَبَاتُ».
عندما يقال بأنَّ الشعر هو جوهرُ حياةٍ بالنسبة للشاعر فذلك لأنه يمثِّل حرِّيَّة هذا الشاعر أمام العالم كلِّه، والحرِّيَّة هي جوهر الإنسان حيث يصعب عليه أن يشعر بوجوده دون أن يشعر بالحرِّيَّة. وليس هناك تعريف لمعنى هذه الحرِّيَّة المنشودة أفضل من أن تكون ذاتك في علاقتك بالوجود من حولك فلا ترضى لنفسك الجمع ولا ترضى لنفسك الطرح على حدٍّ سواء.
في تاريخنا الشعري العربي.. هناك شعراء كثيرون.. قدماء ومعاصرون.. حاولوا جاهدين أن يكونوا ذواتهم في علاقتهم بالحياة، وأن يهربوا من براثن القدرية الاجتماعية أو القدرية القبليَّة التي تحاصرهم، ولكنَّ المجتمعات عادة ما تكون سلطويَّة في تقاليدها وأعرافها مما حدا ببعض هؤلاء الشعراء للانهماك في حالات وجوديَّة بوهيميَّة طافحة بالملذَّات، وحدا ببعضهم الآخر إلى ممارساتٍ من نوعٍ آخر تحمل في طيَّاتها لذَّة التَّحَدِّي للقيم السائدة والرأي العامّ وكأنهم يطلقون صرخات احتجاج ضدَّ هذه المجتمعات التي تعتقل الحرِّيَّة. ولست هنا بصدد إطلاق أحكام أخلاقية أوقيميَّة على هؤلاء الشعراء، ولكنَّني فقط أستعرض بعض تجاربهم في هذا الجانب وأحلِّل فلسفتهم للَّذَّة التي وجدوها في شرب الخمرة، والتشهير بالنساء والبوح غير المباح، والغزل الفاحش والضحك على الأطلال، والتهكُّم على التقاليد، وغير ذلك من ممارسات تدلُّ على أنَّها تتجاوز في أهدافها حدودها الذاتيَّة.. أيْ تتجاوز أن تكون غزلاً من أجل الغزل أو بوحاً لمجرَّد البوح، وإنما ثمَّة فلسفة وراء لذائذ هذه الممارسات قد تكون مختبئة في ركنٍ قصيٍّ من نيات الشاعر لدرجة أنَّ الشاعر ذاته لم يكتشفها، وربما أكون أنا قد شطحت في تأويل رؤياي تجاه هؤلاء الشعراء.
إذا عدنا إلى العصر الجاهلي فلن نحتاج للتفتيش طويلاً عن نماذج من هؤلاء الشعراء، لأنَّ الشاعر اليافع «طرفة بن العبد».. صاحب معلقة «لخولةَ أطلالٌ…» سوف يحتلُّ المشهد مباشرة ويملأ الشاشة القديمة بإطلالته عبر نوافذ تلك المعلَّقة الشهيرة حيث اللذائذ تتنفَّس بكامل أهوائها:
وما زال تشرابي الخمورَ ولذَّتي
وبيعي وإنفاقي طريفي ومُتْلَدِي
إلى أنْ تحامتني القبيلةُ كلُّها
وأُفْرِدْتُ إفرادَ البعيرِ المُعَبَّدِ
ألا أيُّهذا الزاجري أحضر الوَغَى
وأنْ أشهدَ اللذّاتِ: هل أنت مُخْلِدِي؟!
إذا أنتَ لا تسطيع دفعَ منيَّتي
فدَعْنِي أبادرْها بما مَلَكَتْ يدي
صرخة الاحتجاج هنا تخرج من أعماق الشاعر «طرفة بن العبد» وتطفو على سطح الكلمات في سؤال يحتدم مثل سيفٍ جارحٍ وينغرس في قلب زاجره: «هل أنت مخلدي»؟ ثمَّ يعود ويؤكِّد أنَّ الخلود مستحيل، لأنَّ الموت لا مهرب منه، لذلك لا بدَّ من الاحتفال بهذه الحياة/الهديَّة الجميلة التي جاءت إليه من المجهول وسوف تذهب إلى المجهول، ويواصل صرخته الهادرة:
ولولا ثلاثٌ هنَّ من عيشةِ الفتى
وجَدِّكَ لم أحفلْ متى قامَ عُوَّدي
فمنهنَّ سبقي العاذلاتِ بشربةٍ
كميتٍ متى ما تُعلَ بالماءِ تُزبِدِ
وكَرِّي إذا نادى المضافُ مَحَنَّباً
كسيدِ الغضا نَبَّهْتَهُ، المُتَوَرِّدِ
وتقصيرِ يوم الدجنِ والدجنُ مُعْجِبٌ
ببهكنةٍ تحت الخباءِ المُعَمَّدِ
أما الشاعر الجاهلي «امرؤ القيس».. صاحب المعلقة الأشهر على الإطلاق «قفا نبكِ».. فقد كان ملكاً ابن ملك، ولكنَّه في الوقت ذاته وجد لذَّته في الخمرة والبوح الفاحش والتشهير بالغواني بعدما استدرجته اللَّذَّة إلى حبائلها، فعبَّر عن مغامراته مع النساء في قصائد تشبه فضائح خضراء حتَّى عندما اقتحم على المخدَّرات خدورهنَّ:
ويومَ دخلتُ الخدرَ خدرَ «عُنَيْزَةٍ»
فقالَتْ: لك الوَيْلاَتُ إنَّكَ مُرْجِلي
تقول وقد مال الغبيطُ بنا معاً:
عقرتَ بعيري يا امرأ القيسِ فانزلِ
فقلتُ لها: سيري وأرخي زمامَهُ
ولا تُبعديني من جناكِ المُعَلَّلِ
أمَّا في زمن الخلافة الراشدة فليس أوضح في هذا المجال من الشاعر الجميل «عمر بن أبي ربيعة»، وربما يكون هو النموذج الأقرب للشاعر الجاهلي «امرئ القيس» في ابتداع النسيب الحسِّي، والتشبيب الفاضح مع فارق ٍكبيرٍ وهو ما يتحلَّى به عمر بن أبي ربيعة من عفاف النفس، إلا أنَّهُ من الشعراء الذين وجدوا لذَّتهم في التشهير بأسماء النساء كشكلٍ من أشكال تمرُّدهم على المجتمع وسلطته لدرجة أنَّ بعض نساء عصره توسَّلنَ إليه أن يشبِّب بهنَّ طمعاً في الشهرة، وبعضهن الآخر كنَّ يأنسنَ إلى مجالسته. يقول المؤرِّخون عن عمر بن أبي ربيعة إنَّه كان أوصف شعراء عصره لربَّات الحجال، ويروون بأنَّ سليمان بن عبد الملك سأله يوماً ما: ما يمنعك من مدحنا؟ فقال عمر: إنِّي لا أمدح الرجال، ولكن أمدح النساء. ومن أروع ما قاله هو تشبيبه بهند بنت الحارث المُرِّيَّة:
ليت «هنداً» أنجزتنا ما تَعِدْ
وشَفَتْ أنفسَنا مما تَجِدْ
واستبدَّتْ مرَّةً واحدةً
إنَّما العاجز من لا يستبدّْ
زعموها سَأَلَـتْ جاراتِها
وتَعَرَّتْ ذاتَ يومٍ تبتردْ
أكما ينعتُني تُبْصِرْنَنِي
عَمْرَكُنَّ الله أمْ لا يقتصدْ
فتضاحكنَ وقد قلنَ لها:
حَسَنٌ في كلِّ عينٍ مَنْ تَوَدّْ
حَسَداً حُمِّلْنَهُ من شأنِها
وقديماً كان في الناسِ الحَسَدْ
كلَّما قلتُ: متى ميعادُنا ؟
ضَحِكْتْ هندٌ.. وقالتْ: بعد غَدْ
لم يكن الغزل بالنسبة لهذا الشاعر مجرَّدَ تهوية للروح بنسائم الكلمات، إنَّما كان فلسفةً تتغلغل في مسامات همومه الحياتيَّة على عمومها، كما أنَّ الغزل كان الأداة التعبيرية الأقرب إلى نفسه عندما يتعلّق الأمر بالشعر. وكان لديه إيمانٌ قويٌّ بأنّ الغزل يستطيع أن يعالج جميع أمور الحياة شعرياً، وذلك لأنّه قائم على تلك العلاقة الحميمة بين الشاعر وبين من يتغزَّل بها، الأمر الذي يجعل الغزل حالة شعرية بطبعه، حيث إنَّ الشاعر لا يكتب عن شيء، أو عن حدثٍ ما حتى تكون علاقته مع هذا الشيء أو ذلك الحدث علاقةً حميمةً تملك من الشجَى والشجن ما يستطيع بهما أن يفجِّر قصيدة. ولعلَّ القصيدة الأشهر لعمر بن أبي ربيعة هي تلك التي حفظها الصحابي الجليل عبد الله بن عبَّاس عن ظهر قلبٍ وحُبٍّ، والتي يقول في مطلعها:
أَمِنْ آلِ «نُعْمٍ» أنتَ غادٍ فمُبْكِرُ
غداةً غَدٍ أم رائحٌ فمُهَجِّرُ
وأجمل ما فيها من أبيات هي كلُّ أبياتها دون استثناء، ولكنَّني أقدِّم هذا المقطع الخلاَّب فقط:
فقالت لأختيها: أَعِينا على فتًى
أتى زائراً والأمرُ للأمر يُقْدَرُ
فقالت لها الصغرى: سأعطيهِ مُطرفي
ودرعي وهذا البُردُ إنْ كان يحذرُ
يقومُ فيمشي بيننا متنكِّراً
فلا سِرُّهُ يفشو ولا هو يظهرُ
فكان مِجَنِّي دون مَنْ كنتُ أتَّقي
ثلاثُ شخوصٍ كاعبانِ ومُعْصِرُ
فلمَّا أجزنا ساحةَ الحيِّ قلنَ لي:
ألم تَتَّقِ الأعداءَ والليلُ مقمرُ
وقلنَ: أهذا دأبُكَ الدهرَ سادراً
أما تستحي أو ترعوي أو تُفَكِّرُ
إذا جئتَ فامنحْ طَرْفَ عينِكَ غيرَنا
لكي يحسبوا أنَّ الهوى حيث تنظرُ
صرخات الاحتجاج تلك بقيت عابرةً للأجيال تنتقل على موجة الشعر من جيل إلى جيل، ويُعاد بَثُّها في إذاعات العصور المتعاقبة حتَّى وصلت إلى العصر العباسي، حيث أطلق الشاعر الرائع «الحسن بن هانئ» المشهور بكنيته «أبو نواس».. أطلق صرخته على أشكال عدَّة لم تبدأ بسخريته من الوقوف على الأطلال ولم تنتهِ بانهماكه في خمريَّاته، وإنَّما خرج على كلِّ شعائر الناس وشرائع ملوكها حتَّى بلغت به لَذَّةُ التَّحَدِّي منتهاها. «أبو نواس» كان أميناً جداً على الشعر بوصفه شعراً، لكنَّه بالتأكيد لم يكن أميناً على النَّسَقِ العربي للقِيَمِ الشعريَّة القديمة أو حتَّى القِيَمِ الأخلاقيَّة، وإنَّما قام بخلخلةِ هذه الأنساق وأعلن احتجاجه على كلِّ شيء بلا استثناء.
وها هو يسخر من الشعريَّة العربيَّة القديمة عبر سخريته من أحد أهمِّ شعرائها وهو «النابغة الذبياني» صاحب القصيدة الشهيرة:
يا دارَ مَيَّةَ بالعلياءِ فالسَّنَدِ
أَقْوَتْ وطالَ عليها سالفُ الأَمَدِ
يقول «أبو نواس» سخريةً بهذه القصيدة التي تمثِّل عصر الشعريَّة الأولى وكأنَّهُ يفتتحُ عصراً جديداً من الشعريَّة:
عاج الشقيُّ على رَسْمٍ يسائلُهُ
وعجتُ أسألُ عن خمَّارةِ البلدِ
يبكي على طللِ الماضين من أسدٍ
لا دَرَّ دَرُّكَ! قلْ لي مَنْ بنو أسدِ!
ومَنْ تميمٌ، ومَنْ قيسٌ ولَفُّهُما
ليس الأعاريبُ عند الله من أحدِ
لا جفَّ دمعُ الذي يبكي على حجرٍ
ولا اشتفَى قلبُ من يصبو إلى وتدِ
ولعلَّ الضربة الاحتجاجيَّة الكبرى التي الْتَمَعَتْ مثل نصلٍ حادٍّ ووَقَعَتْ في خاصرة الشعريَّة القديمة هي تلك الصورة الكاريكاتوريَّة التي رسمها «أبو نواس» هزءاً بالوعي الشعري القديم حيث قال:
قُلْ لـمَنْ يبكي على رَسْمٍ دَرَسْ
واقفاً، ما ضَرَّ لو كان جَلَسْ!
لا أريد أن أتعرَّض إلى «أبي نواس» في جميع اجتراحاته وما أحدثه في التاريخ العربي من تمرُّد، ولكنَّني أريد أن أختم المقالة بالانتقال إلى عصرنا الحديث وأختار أهمَّ الشعراء العرب المحتجِّين على الإطلاق وهو الشاعر الكبير «نزار قبَّاني» الذي بحث طويلاً عن الحرِّيَّة الروحيَّة فحَرَّضَ الغرائز على الثورة، وتحدَّى التاريخَ الذي أقفل هذه الغرف بمفاتيحه الصدئة. الشاعر الكبير «نزار قبَّاني» ركَّز احتجاجه على ظلامة المرأة في المجتمع العربي حتَّى اتَّهَمَهُ هذا المجتمع بالدونجوانيَّة والشهوانيَّة والنرجسيَّة وغير ذلك من صفاتٍ لا تسمح له بالخروج من مخادع النساء. في معظم دواوين الحبِّ التي كتبها «نزار قبَّاني» مثل «الرسم بالكلمات» و«قصائد متوحِّشة» و«أنا رجلٌ واحدٌ وأنتِ قبيلةٌ من النساء».. وغيرها من دواوين شعريَّة.. في معظمها يتجلَّى الخطاب الأنثوي في الظاهر وكأنَّهُ مشروع لذائذ خالصة ينحاز إلى المرأة بوصفها جسداً يصنع هذه اللذائد في قوالبه، ولكن في باطن الخطاب يتجلَّى لنا مشروعٌ آخرُ قائمٌ بذاته لتأسيس حياةٍ عادلةٍ للمرأة وسط هذه البرِّيَّةِ الذكوريَّة التي تحاصرها. لن أستدلَّ بمقاطع طويلة من قصائد هذا الشاعر الكبير، لأنَّ جميع القُرَّاء مترعون بأشعاره، ولكنَّني أودُّ أن أختمَ بهذا المقطع القصير الذي يُوَحِّد بين «نزار قبَّاني» و«عمر بن أبي ربيعة» وذلك في قول نزار:
أنا ما تورَّطتُ يوماً بمدحِ ذكورِ القبيلهْ
ولستُ أدينُ لهم بالولاءْ
ولكنَّني شاعرٌ
قد تَفَرَّغَ خمسينَ عاماً لمدحِ النساءْ