قبلاً، كان الناس ينظرون إلى الطبيعة على أنها غير محدودة، غير أن ضعف القدرة الشرائية، وبدائية مفهوم الصناعة، كبحا الآثار المدمِّرة لهذا الاعتقاد. اليوم، ومع زيادة التصنيع والقدرة الشرائية، بدأت الأمور تفلت من عقالها، وعلت الأصوات المطالبة بالاستهلاك الرشيد. ويحفظ التاريخ لرسول الله (صلى الله عليه وسلم)، أنه مرَّ على أعرابي يسرف في وضوئه، فقال له، «ما هذا السَّرف؟» فسأله الأعرابي، «أفي الوضوء إسراف؟» فأجابه، «نعم، وإن كنتَ على نهرٍ جارٍ».
هذا الموقف الجاد كان سابقاً لعصره؛ ذلك أنه عكس وعياً حقيقياً لمحدودية الموارد الطبيعية، ولقدرة الإسراف في الاستهلاك، أو البذخ، على استنفادها. كميل حوّا يدرس ظاهرة الإسراف، وإلى أين نتجه بها حالياً.
قصاصات ورق صغيرة، شبه منتظمة المقاس مجموعة في لاقط معدني تستخدم لكتابة ملاحظات أو رسائل صغيرة. هذه واحدة من أدوات عديدة كنت تراها في مكاتب شركات أواسط القرن الماضي، حتى أكبرها حجماً وأغزرها ربحاً.
القصاصات هي في الأصل أوراق مكتبية عادية كاملة المقاس من تقارير أو نسخ من مستندات مكررة على آلة النسخ (الفوتوكوبي) أو غيرها. وبدلاً من أن تُجعَّد وترمى في سلال المهملات كانت تقص ويستفاد من الجهة الأخرى منها لتسجيل ملاحظات سريعة أو رقم هاتف أو لائحة للتسوق أو غيرها. الهدف من هذا كان بالدرجة الأولى التوفير والحد من مصاريف استهلاك الورق في المكاتب. ولكن من حيث كانت تدري هذه الشركات أو لا تدري، فهي في تصرفها هذا كانت تقوم بما هو متناغم مع البيئة وذلك بالحد، أولاً وقبل كل شيء، من الحاجة لقطع المزيد من الأشجار من أجل استخدامها في صناعة الورق.
هذا الميل إلى التوفير حتى في أصغر الأشياء وأبسطها، كان في صلب تفكير الشركات المعاصرة في الغرب منذ نشأتها. وربما عززه في بعض المنعطفات دخول الدول الأوروبية الحروب الكبرى حيث كان الاقتصاد في استهلاك بعض أشياء مثل الورق والوقود من ضروريات المواجهة والبقاء.
وعلى عكس الانطباع عند البعض منا اليوم، فإن الاقتصاد في الاستهلاك وعدم التبذير كان في أساس النهضة الصناعية المعاصرة. ويتمثل في نواحٍ عديدة مثل بساطة المظهر، وإضافة إلى البساطة تبتكر وسائل لعدم تلف أطراف السترات والمعاطف عبر تغطية أكمامها وياقاتها بالجلد أو القماش السميك، حتى لو كان ذلك يحمل بعض النقص في الأناقة أو اللياقة. وكان هناك حرص يبدأ في المصنع والمكتب وينتهي في البيت، على عدم التخلص من أي شيء بطلت الحاجة إليه والسعي إلى إصلاحه أو استخدامه في أمور أخرى. وكأنها «إعادة تدوير» الأشياء التي نسمع بها كثيراً اليوم. فأنصاف العلب المعدنية يتم تجميعها لتشكل مصرفاً للمياه. والملابس القطنية إذا تلفت تُغسل وتستخدم كقماش لتنظيف المعدات ذات الشحوم الصناعية.
ومما لا شك فيه أن هذا النزوع العملي والاقتصادي في استخدام الأشياء لأطول فترة ممكنة، يقف وراء اكتشاف «الجينز»، هذا الملبس الذي لا يفنى والذي صنع للعمال من قماش الأكياس. كذلك كان خلف ذاك الحرص الكبير على متانة المنتج أن يبقى صالحاً لعشرات السنين. وبالفعل، كم من المعدات كانت تعيش أكثر مما كان متوقعاً لها؟ وأحياناً يتم التخلص منها وهي ما زالت قوية البنيان صالحة لتأدية وظيفتها الأصلية. ولم يكن هذا الحرص إلا اهتداءً بالضمير المهني والقيم التي كانت تلك النهضة تسير على هديها. ومن عايش تلك الفترة كان يرى انتشاراً واسعاً للرغبة في الاستفادة من الأشياء بما في ذلك الأشياء التي سبق واستخدمت قليلاً أو كثيراً. كنت ترى الكثيرين يقاومون التخلص من أي شيء يمكن الاستفادة منه أو من جزء منه في أي وقت في المستقبل. فيحتفظون مثلاً بآلة معطلة لا يمكن إصلاحها وهم يحاولون بشتى الوسائل إنقاذ جزء سليم أو جميل منها واستخدامه لمنفعة أخرى.
وفي المنازل كان الأهل يجمعون حاجيات لا تحصى، ولا وجود حتى لاحتمال استخدامها في المستقبل، في صناديق تتراكم عبر السنين في «السمندر» أو غرفة المؤونة المنزلية. وبقي هذا الميل الدفين إلى الاحتفاظ بأي شيء مصنوع مهما كان ناقصاً أو تالفاً إلى يومنا هذا وتجده خاصة لدى الناس البسطاء. ويكاد يتحول عند إنسان اليوم إلى نوع من الغريزة، تجدها أحياناً عند الأطفال حيث يخبئون في صناديق سرية تحت أسرتهم أشياء مصنعة مما هبَّ ودبَّ.
«لا تهدر»!
في خضم الحديث عن فكرة الاستفادة من الأشياء وعدم التخلص منها بسهولة، تشاء الصدف أن يعرض متحف الفن الحديث المعروف في نيويورك (MOMA) مؤخراً عملاً فنياً ضخماً يملأ بمفرده إحدى قاعات المتحف الكبيرة، تحت عنوان «لا تهدر» (Waste Not). وهو عبارة عن تكوين جمع فيه الفنان الصيني صونج دونج آلاف الأدوات والحاجيات المنزلية التي كانت والدة الفنان تحتفظ بها طوال حوالي نصف قرن من الزمن. فلم تكن هذه السيدة لترضى بأن تتخلى عن أي شيء مما يتم استهلاكه في البيت من عبوات معاجين الأسنان أو زجاجات المرطبات أو الأحذية القديمة أو أدوات الحلاقة، وغيرها من مستلزمات. وحين وافقت الوالدة بعد سنين على طلب ابنها الفنان بأن تتخلى عن «تاريخها» من الحاجيات المستهلكة التي جمعتها في بيتها ليكوِّن منها هذا العمل الفني، أخلت البيت وانتقلت إلى شقة في العاصمة.
الاتجاه المعاكس
بالمقابل ومع بواكير الخمسينيات من القرن الماضي كانت قد ظهرت ملامح مجتمع الإسراف خاصة في الملبس والمأكل ونمط الحياة. ومعه، بدأت تظهر السيارات الأمريكية الفارهة تعكس هذا الميل الاستعراضي الذي انتشر سريعاً ونما معه وحوله مجتمع الاستهلاك، الذي أحدث انقلاباً كبيراً في سلوك المجتمعات وشكَّل ضغطاً شديداً على البيئة في جميع مواطنها.
وكان قد تنبأ بالآثار السلبية للاستهلاك غير المدروس على البيئة، أحد كبار مفكري علم الاجتماع في الولايات المتحدة هو ثورستاين فبلن (Thorstein Veblen) الذي يمكن اعتباره بحق رائد الفكر البيئي في العصر الحديث. فمنذ بدايات القرن، تحدث فبلن عن الآثار السلبية للنظام الرأسمالي على البيئة لجهة استهلاكه السريع وغير الحريص للموارد الطبيعية.
لاحظ فبلن في ذاك الوقت المبكر محدودية هذه الموارد والهدر الذي أخذت تتعرَّض له مع تقدم الصناعة ونموها وتشعبها حتى قبل انقضاء القرن التاسع عشر، ورأى فيه خطراً محدقاً على البيئة. ومما يعزز قيمة طرح فبلن، أنه ربطه بنظريته الأشهر وهي «الاستهلاك الاستعراضي» (conspicuous consumption) إذا جاز التعبير. وهي نظرية يعزو فيها نسبة عالية من الاستهلاك لحب الظهور والتشبه بالأكثر ثراءً. ومنذ ذلك الوقت المبكر، سلط الضوء على هذا الميل في المجتمع الغربي لنوع من الاستهلاك لا يقوم على الحاجة الحقيقية وإنما على حب الظهور. استهلاك يتسِّم بنزوع إلى الإسراف والهدر، ويتطلب إنتاجاً لتلبية مستلزماته بسبل لا تأبه بأن تفتك بالبيئة بلا هوادة.
من هنا يُعد فبلن ليس فقط رائد الفكر البيئي، بل رائد الفكر البيئي الاجتماعي، وهو قد عاب على الفكر الاجتماعي إهماله للعلاقة بالبيئة ضمن دراسته للمجتمع الإنساني.
بين احتفاظية وتخلصية
وعلى طرف نقيض من تلك النزعة «الاحتفاظية» المبكرة، بدأت في هذه الفترة أيضاً -أي في الخمسينيات- تظهر أولى نماذج الأدوات «ديسبوزابل» (diposable) التي تستخدم لمرة واحدة ثم يتم التخلص منها، وكانت المناديل الورقية في طليعتها. وبسبب ما تمثله هذه المناديل من سهولة في الاستخدام فقد استمرت في الانتشار على أوسع نطاق. فهل يستطيع أحدنا أن يتخيل كم من الشجر سينقذ من القطع لو توقف استخدام المناديل الورقية اليوم؟
اشتد الحماس لهذه النزعة «التخلصية» لدرجة أنه جاء وقت طُرحت فيه ملابس تُلبس لمرة واحدة ثم تلقى في سلة المهملات. وفي الفترة نفسها بدأت مرحلة الابتكارات البلاستيكية تغزو كل المنتجات، أولها الأكياس ثم انتقلت إلى القوارير ومن ثم عشرات الاستخدامات الأخرى. وحين ظُنَّ في البداية أن الابتكار البلاستيكي، لكونه صناعي المنشأ، أقل ضرراً على البيئة من الورق مثلاً. ولكن مع الوقت، وحين ملأت الملايين من هذه القوارير الحاويات وغطت أماكن النزهات، انتبه المجتمع الإنساني إلى أن هذه المادة هي استنزاف للبيئة باتجاه واحد، إذ إنها عصيَّة على التدوير. فقامت تلك الحملة الواسعة ضد البلاستيك بكافة أشكاله، واستمرت في تصاعد إلى أن استطاعت بحوث علمية أن تجد سبلاً للتخفيف من آثار هذه المنتجات وتسمح باستعادة الطبيعة لبعض مكوناتها إما بشكل كلي أو جزئي. لكن رغم ذلك، فقد استمر الاستهلاك المتزايد كماً ونوعاً في تهديد موارد البيئة الطبيعية بأشكال لا حصر لها حتى يومنا هذا.
بيئة البذخ
وما أن حلت السبعينيات، حتى ظهرت ملامح الآثار المدمرة لمجتمع الاستهلاك هذا على البيئة في نواحٍ عديدة. وقامت حملات ضد التزيُّن بأشياء مصدرها الحيوان، لأن المتاجرة بها يهدد أصناف من الحيوان بالانقراض، منها الفرو على أشكاله والعاج وغيره. وكثيراً ما كانت هذه الحملات تستقطب تأييداً شعبياً خارج المؤسسات الرسمية أو الجمعيات البيئية. لدرجة وصل الحال في عواصم كثيرة أن توقفت النساء من التجرؤ على ارتداء الفرو والعاج خوفاً من اعتداء يتعرضن له من قبل أناس عاديين مستنكرين لهذا التصرف اللامبالي.
وقد حوربت تجارة العاج محاربة فعَّالة، لدرجة أدت إجراءات وقف صيد الفيلة في بعض الدول الإفريقية إلى زيادة أعدادها من جديد بشكل أصبح يهدد البيئة من ناحية أخرى. وذلك بسبب استهلاك الفيل كمية كبيرة من الزرع وأوراق الشجر!.
وفي منتصف السبعينيات، حين ارتفع سعر النفط بشكل كبير لأول مرة في التاريخ المعاصر، بدأ الضغط يشتد على شركات السيارات لإنتاج سيارة أقل استهلاكاً للوقود بسبب ارتفاع تكلفته. لكن مع الوقت، تبين أن هذا الاتجاه له آثار إيجابية على البيئة كذلك حيث يخفف من الانبعاثات المؤذية من جهته، والأهم من ذلك أنه يجاري توجهاً عاماً بخفض استهلاك مصادر الطاقة، التي مهما بلغ توافرها اليوم تظل محدودة على المدى البعيد. وأصبح امتلاك سيارة فارهة معروفة بشراهتها لاستهلاك الوقود من دلالات قلة حرص صاحبها على البيئة واستهتاره بالصحة العامة والمشاعر العامة كذلك.
البذخ، الرفاهية، السهولة، أو المنفعة
إذا كان البذخ هو شكل صارخ من أشكال الاستهلاك المُغالية في إحداث أذى للبيئة، فإن المجتمع الإنساني يمارس ما يؤذي البيئة بغير نية البذخ، وربما يكون أذاه أبعد أثراً من البذخ المترف، بأشكال قد لا تستحق الإدانة الأخلاقية نفسها التي تكال لتلك.
ومن هذا ما له علاقة بالرفاهية وبأشكالها البريئة والمشروعة. وكذلك أحياناً سهولة الاستخدام التي توفرها بعض المنتجات الاستهلاكية. ومن هذه المنتجات ما هو غير ضار بذاته إلا لجهة إهدار الموارد البيئية، مثل المناديل الورقية أو بعض المنتجات التي لا تخلو من الضرر إلا أنها تسهِّل على الناس قضاء حاجاتهم وبأسعار متدنية، مثل مساحيق الغسيل. وتنسحب السهولة على ما لا حصر له من المنتجات الحديثة وفي طليعتها المنتجات البلاستيكية التي تجد العشرات منها في كل بيت ومقهى ومطعم وفندق. وكلما كانت شعبية أكثر، كلما كانت بلاستيكية أكثر. وطبعاً، فإن السهولة والعملية من الصفات التي تجعل مكافحة المنتجات التي تمثل أذى للبيئة أكثر صعوبة. إذ كيف تحرم فقيراً من استخدام وعاء أو كرسي بلاستيكي وهو عملي زهيد الثمن ويدوم إلى فترة طويلة جداً.
إن أشكال الاستعمال لا تُعد ولا تُحصى وتصل إلى نفس أساليب الإنتاج الصناعي أو الزراعي بدءاً بالمستوى القروي البسيط وانتهاءً بالمصانع الكبيرة.. بدءاً بالمُزارع الذي يستخدم أساليب تُنهك التربة بهدف تسريع الموسم المربح، إلى المصانع التي تلقي النفايات السامة في مجاري الأنهار توفيراً للجهد والمال.
ويصل الحال إلى المنفعة المباشرة البسيطة، التي منها ما لم يكن ليخطر ببال. ففي الآونة الأخيرة قامت حكومات أوروبية عديدة بحملة لتحديد صيد السمك للأفراد الذي يتم كهواية بريئة تمارس على شاطئ البحر في أغلب الأحيان، وذلك بحجة أن هذا الصيد يستنفد أنواعاً معينة من الأسماك.
وهل للبحر آخر؟
والحقيقة أن الكثير مما نحن فيه اليوم لم يكن تخيله ممكناً منذ فترة لا تزيد على قرن ونيف وذلك من نواحٍ عديدة. وربما أهم أسباب ذلك أن معرفة الإنسان اليقينية والملموسة بالبيئة الطبيعية في جوانب كثيرة لم تنضج إلا في الأمس القريب.
فمنذ قرنين مثلاً، لم يكن يخطر ببال الإنسان أن صيد الحيتان سوف يؤدي إلى انقراضها لأنه أصلاً لم يكن قد تمكَّن بما يكفي من معرفة البحار والمحيطات، بل لم يكن يظن أن للمحيطات والبحار أعماقاً أو نهايات تحددها بالضبط وتجعل ما بها فعلاً معروفاً ومحدوداً مثل كمية خضار في وعاء. ولا أظن أنه حين كُتبت رواية «موبي ديك» قصة الحوت المشهور، كان يخطر ببال المؤلف شيء من نسخة اليوم مما يهدِّد هذا الحيوان بالانقراض. كان إلمام الإنسان بالبيئة لا يزال على درجة من الغموض والضبابية. والشيء نفسه يصح بالنسبة لصيد الطيور أو الصيد البري. وكأن الطبيعة كيان لا متناهي.
وغالباً، يمكننا تصور علاقة الإنسان بالتربة والزرع على المنوال نفسه. فحتى لو أدرك الأقدمون بعض خصائص الزراعة، إلا أن الإنسان حتى سنين قريبة لم يكن ليتخيل أن بمقدوره إفساد تراب لأن التراب كأي عنصر من عناصر الطبيعة كان يتمتع في نظره بديمومة ما. أما اليوم، فقد أحاط الإنسان بالطبيعة وعرف ما هيتها وحدودها وتكوينها وشروط التعامل معها، ليكتشف فجأة أنه قد بالغ في هدر مواردها وإحداث الأذى بكيانها، فأصبحت قدرتها على توفير حاجاته في تناقص، بل وكأنها بين ليلة وضحاها تضيع من بين يديه!
هل تطبع الورقة؟
الحقيقة أنه مع نهاية القرن الماضي ودخول الإنسانية الألفية الثالثة، كان قد حصل تحوُّل في سلوك الناس في المجتمعات المعاصرة عموماً وبنسب مختلفة. وأهم معالم هذا التحول أفول أسلوب الاستهتار في التعامل مع الاستهلاك والبيئة. فراج الحرص على البيئة والاستعداد للتحمل والتضحية ببعض أوجه الراحة من أجل ذلك. وأصبح الناس يراعون الشأن البيئي في حياتهم اليومية حتى ولو كانوا يدركون أن ما يقومون به من تصرف يلتزم حسن التعامل مع البيئة، لن يكون له تأثير إيجابي يذكر أحياناً. فقد أصبح هذا نوعاً من الالتزام الأخلاقي.
لم يعد الناس يضجرون من تكرار تذكيرهم بإمكان تفادي الاستهلاك غير المفيد أو الضروري حتى في أبسط تفاصيل الحياة اليومية. وقد أصبحت الأجهزة الإلكترونية واسعة الاستعمال، والتي تمثل «طفرة» في نشر وسائل الراحة والاقتصاد في الجهد، هي نفسها أداة حاضرة في نشر الوعي البيئي، رغب أصحابها في ذلك أم لا. فأمام شاشة الكمبيوتر إذا أصدرت أمراً بطبع وثيقة، يطالبك الجهاز بالتأكد من حاجتك لها لأن في استهلاك ورقة تأثيراً سلبياً على البيئة. وحين ينتهي شحن جوالك وتقوم بفصله عن الشاحن تظهر عليه رسالة تطالبك بسحب الشاحن من التوصيلة الكهربائية توفيراً للطاقة وبالتالي حماية للبيئة.
ألوان البيئة
المشهد مؤثر: صفٌ من الصناديق الملونة يفوق عددها الآن عدد أصابع اليد، وقد خُصِّص كل واحد منها ليعبأ فيه صنف من المواد المستهلكة ثم فرزه عن سواه بهدف إعادة تدويره. هذا المشهد بدأنا نراه، وهو في ازدياد، ويستحق أن يهنئ المجتمع المعاصر نفسه على التوصل إليه بلا شك. وعلينا ألاَّ ننسى أنه حين وُضع أول صندوقين، واحد للزجاج وآخر للبلاستيك، منذ عقدين أو أكثر بقليل، استُقبل هذا الحدث بشيء من الاستخفاف.
والحقيقة أن مرد هذا الاستخفاف هو «حس بذخي» واسع النطاق كان قد انتشر قبل ذلك في المجتمع الإنساني. نستطيع أن نفترض أن بوادره بدأت مع بداية القرن العشرين ولو أنها تعرضت لانتكاستين أثناء الحربين العالميتين. نشأ هذا الاستخفاف مع التطور السريع في القدرة الإنتاجية للصناعة المعاصرة من جهة، وتراكم الثروات والبحبوحة في المجتمعات الغربية بشكل خاص من جهة أخرى، وينظر أفراده إلى الحرص على البيئة وكأنه يحمل شكاً بقدرات المجتمع الصناعي المعاصر غير المحدودة.
كان يمكن اعتبار هذا الميل طارئاً على المجتمع الإنساني. فهذه الصناديق المرصوفة ليست في الحقيقة ذروة لتطور جوهري في الحياة الإنسانية، بقدر ما هي بادرة طوارئ تقوم بها الإنسانية تجاه تطورات مفاجئة نتجت عن الاستهلاكية الحديثة وكان لها آثار مدمرة وسريعة على البيئة. أما تاريخ المجتمع الإنساني فيما سبق هذه العقود الأخيرة فيختلف عما توحي به هذه الصناديق «الحليفة» للبيئة.
مأثرة البخلاء
إن من يتأمل هذه الصناديق كثيراً، ويفكِّر فيما تعنيه من «وضع الأمور في مواضعها»، قد تستيقظ فجأة في ذاكرته بعض روايات الجاحظ عن البخلاء، مثل قصة معاذة العنبرية التي فصَّلت كيف يستفاد من كل جزء من أجزاء الأضحية فلا يضيع منها شيء. وكان شعارها بالفعل وضع الأمور في مواضعها. فقرن الخروف خطَّاف تعلَّق عليه الأشياء لحفظها، والمصران لأوتار مندفة الصوف ودسم العظام للمصباح وأخيراً وجدت في الدم الحار فائدة أن تُطلى به القدور الجديدة. واليوم، يبدو المجتمع المعاصر وكأنه يسجِّل عبر هذه الصناديق -والتي واحد منها للزجاج والثاني للبلاستيك والثالث للورق والرابع للمعادن والخامس للمهملات العضوية- وسواها مأثرة للبخلاء لم تسجل لهم في أي وقت مضى.
فلا شك في أن محاولة الاستفادة من بقايا الأشياء المستخدمة أو إعادة استخدامها بأشكال أخرى يصبو إلى الظفر التام التي كانت تصبو إليه معاذة العنبرية في سعيها لإيجاد فائدة من كل مكونات الأضحية!
وخلال المرحلة التي سبقت صناديق «غربلة» المهملات هذه، يمكن تسجيل عدة تطورات في نفس الاتجاه كان أولها هو ظهور شعار «قابل لإعادة التدوير» (Recyclable) في الثمانينيات والذي بدأ يصبح شرطاً للمادة الصناعية بعد اليقظة «الأنتي – بلاستيكية». والحقيقة أن المجتمع الإنساني حقق نجاحاً ما حين جعل الشركات تفرض على نفسها استخدام مواد قابلة للتدوير، وتعتز بوضع الشعار الدولي المعروف عليها.
والتطور الثاني هو انتشار «تجارة» النفايات، حيث ظهرت شركات تحقق أرباحاً كبيرة من خلال جمع النفايات وإعادة تدويرها، وقد مثل ذلك منعطفاً مهماً في بداية تخفيف الوطأة على البيئة واستعادتها ولو لجزء بسيط مما كانت توفره.
وإذا كان الفنان الصيني قد كوَّن عملاً فنياً ممَّا حفظته والدته عبر السنين، إلا أن استخدام النفايات والمهملات لتكوين عمل فني معروف منذ عدة عقود، ومستمر إلى اليوم، ويُعد من إبداعات الفن الحديث وأحد التمارين التي يستمتع طلاب الفن بمزاولتها في كل معاهد العالم.
الربع يكفي الثلاث أرباع
في الأشهر التي سبقت صدور تقرير منظمة الغذاء العالمي الأخير شديد التشاؤم (2009)، ظهر في أوروبا والولايات المتحدة عدد كبير من المقالات والكتب تكاد تكرر نفس المقولة، وهي أن الطعام المهدر في الدول الغربية كل يوم يكفي لإطعام ما يزيد على بليون نسمة من الجياع في العالم! وهذا هو رقم الجياع الذي ورد في تقرير الصحة العالمية والذي يواكب ازدياد أعدادهم مع تفاقم أزمة الاقتصاد العالمي.
المواد الغذائية من حيث المبدأ زهيدة الثمن بمقاييس الدخل في الدول الصناعية الغربية. وهذا من العوامل التي تشجِّع على الهدر والتصرف بلا مبالاة تجاه هذه الكميات الكبيرة من الطعام التي تُلقى في سلال المهملات. إلا أن هذه الظاهرة ذاتها بما تتضمنه من استهلاك فائض للمواد الغذائية الأساسية مثل القمح والذرة وغيرها، ترفع قيمة هذه المواد في الدول الفقيرة النامية وتجعلها بعيدة عن متناول الطبقات المعدومة. فهي من ناحية تزيد من نسبة المجاعة، وتزيد من استهلاك الموارد البيئية من ناحية أخرى، بما في ذلك استنفاد التربة الزراعية وقطع الأشجار لتوفير مساحات أكبر للزراعة المطلوبة في المجتمعات المرفهة.
ويسلَّط كتاب «الهدر» (Waste)، الذي صدر مؤخراً، الضوء على ما يعتبره فضيحة عادات هدر الطعام في المجتمع الغربي المعاصر. وذلك من المزرعة وحتى السندويتشات الملفوفة في نايلون السوبرماركت. ويحصي الكتاب أن محلات السندوتشات، بما فيها محال السوبرماركت، تتلف يومياً ربع مقدار ما تبيعه من هذه الوجبات السريعة. وكل ما يتم هدره تقريباً يكون صالحاً للأكل، لكنه لا يُعطى للفقراء أو الجياع لأسباب مختلفة منها المحافظة على سمعة المنتج.
الاستدامة فن للبقاء
كان الحرص على عدم الهدر نتيجةً لغياب الوفرة في المواد الغذائية أولاً وقبل كل شيء، لا سيما أن المجتمعات البشرية عبر التاريخ كانت عرضة لضروب مختلفة من العوز والمجاعة. وخلال معظم الحقب الزمنية لم تكن الأسر تعرف نوع الوفرة التي تشهدها اليوم، رغم وجود هذه النسبة المرتفعة والمخجلة من الجياع التي ترافق هذه الظاهرة. أما تاريخياً، فلم يعرف الناس سابقاً هذا التنوع في المأكل والمشرب إلا في روايات السلاطين والأثرياء.
وبسبب ارتباط وفرة الطعام بمواسم معيَّنة فقد ابتكرت المجتمعات أساليب مختلفة كي تحافظ على عناصر الغذاء الأساسية لفصول السنة الأخرى، سواء أكانت العائلة فقيرة أم ميسورة فلا شك أن المؤونة المنزلية وما قد تشمله من مختلف أنواع مواد الأكل أو الطبخ المحفوظة كانت سمة معروفة في كل بيت من البيوت. وكان حرص أهل البيت على «ترشيد استهلاك» هذه المؤونة عبر أشهر القحط أمراً مهماً تحمي من خلاله العائلة نفسها من العوز والاضطرار إلى اقتراض الحاجيات.
ويُسوَّق لفكرة الاستدامة -بما هي حرص على حُسن الاستفادة من الموارد وعدم المغالاة في استهلاكها حفاظاً عليها- وكأنها طرحٌ جديد، إلا أن من يتعمق في تاريخ المجتمعات البشرية في مجال الغذاء يكتشف أن فكرة «الاستدامة» لم تكن غريبة عن المجتمعات القديمة وحتى عصرنا الحاضر. والحق يُقال، إن جوانب الاستهلاك غابت عن بعضها بسبب قلة درايتها وعدم توافر معطيات علمية كافية لديها، كالتي توفرها علوم اليوم. إلا أن ذلك لا ينفي أن أرباب المنازل والزوجات وكذلك المجتمعات الصغيرة، كانوا يمارسون هذه النزعة «الاستدامية»، إذا جاز التعبير، في جوانب مختلفة من ممارساتهم في الزرع أو الحصاد والتعامل مع الأشجار المثمرة أو الماشية والدواجن وغيرها، كمصادر للأكل، ثم علاقة كل هذا بالطعام المجفف والمحفوظات المختلفة.
أكمل صحنك!
لا شك أن تفادي الهدر، خاصة بما يضمن توفر الحد الأدنى من الغذاء على مدار العام، كان من أولويات البيوت في كل مكان ومن دون استثناء تقريباً. إنه هاجس يومي لدى الأب والأم اللذين يتصرفان بشكل عام على أساس مبدأ توفير أكثر وأفضل ما يمكن للأولاد، ولكن مع التأكد من خفض الهدر إلى مستواه الأدنى. ولا شك في أن كل أطفال الأرض سمعوا عشرات المرات على سفرة الطعام أمر «أكمل صحنك» والذي وإن كان في شكله يعبِّر عن حرص على أن يتناول الابن المزيد، إلا أنه في أساسه يمثل تدريباً يومياً على ألا يضع في صحنه ما يزيد على حاجته الفعلية، وبالتالي يصبح أكلاً يُلقى في سلة المهملات. وكم من الأهل في العقود الأخيرة وبَّخوا أولادهم على ما تركوه في صحنهم من أكل بتذكيرهم بمشاهد المجاعات التي يتعرض لها أقرانهم من الأطفال في مختلف أنحاء الأرض. وهناك مثل إيرلندي معروف يُقال للولد الجشع الذي يملأ صحنه أكثر مما يستطيع أن يأكله: «إن عينيك أكبر من معدتك!».
والعلاقة بين المستهلك والمنتج عموماً لا تختلف عن تلك بين الولد وصحنه. ذلك أن المنفعة مزدوجة في كل الأحوال. فكما أن الولد ينتفع على المدى القصير من إكمال صحنه، وعلى المدى الطويل من تعلُّمه حساب المقدار الذي يحتاج إليه، كذلك يستفيد المستهلك من ترشيد نفسه بطريقتين؛ فهو يوفِّر على نفسه أولاً تكاليف ليس بحاجتها، وسيستفيد منها إما في شكل مدَّخرات أو عبر صرفها على مقتنيات أخرى، وهو يضمن لذريته ثانياً بيئةً سليمة. من هنا، يبدو أن بخلاء الجاحظ كانوا أيضاً حكماءه.
يتناول مقال «سؤال السيّد مالتوس» المنشور في مجلة The Economist البريطانية موضوع شح الموارد الطبيعية نتيجة الوتيرة التصاعدية للاستهلاك وللنمو السكاني، تبدأ بتحذير مصدره دجون بدنجتون، وهو المستشار الرئيس للحكومة البريطانية، من «عاصفة مثالية»، قوامها شح الغذاء والمياه والطاقة، تضرب العالم بحلول عام 2030م.
وهذه ليست المرة الأولى في التاريخ التي يدق فيها أحدهم ناقوس الخطر؛ ففي القرن التاسع عشر قام العالم توماس مالتوس بدراسة أفضت إلى أن النمو السكاني سوف يتفوق على الإنتاج الغذائي، وعندها سيقع العالم فريسة مجاعة شاملة. لم تتحقق مقولة مالتوس، ليس لأن النمو السكاني انخفض، بل لأن الإنتاج الغذائي لحق بالوتيرة العالية ذاتها. هذا، وقد بقي سؤال مالتوس في أذهان العلماء، حيث كتب ليستر سي ثورو عام 1986م «لو كان لسكان العالم إنتاجية السويسريين، وإستهلاكية الصينيين، وحس السويديين بالعدالة الإجتماعية، وانضباط اليابانيين الاجتماعي، لكانت الأرض قادرة على أن تستوعب أكثر بكثير ممن تستوعبهم حاليًا، دون حرمان أي من سكانها».
على كل حال، سكان العالم لا يزالون في ازدياد حثيث، يتجاوز الـ 9 آلاف نسمة بالساعة، و80 مليونًا بالسنة. وبالعودة إلى مالتوس، فإن الدراسة التي قام بها انطلقت من ملاحظة بسيطة، هي أن الفصائل الحيوانية في مناطق السهوب تزداد وتقل حسب الفصول ووفرة الموارد الطبيعية معها، فهل يكون الهومو سايبيين، أو البشر، قادرين على تخطي هذا النمط؟ الإجابة عن هذا السؤال حساسة، وهي منوطة أوّلًا وآخرًا بقدرتهم على التعاون والانضباط.