حتى عشية فوزها بجائزة نوبل للآداب العام الماضي، كانت الأديبة الألمانية، الرومانية الأصل، هيرتا مولر شبه مجهولة من قِبَل جمهور القرَّاء في العالم، غير أن الجائزة سلطت الضوء على أعمالها، ووضعتها، عن جدارة، في مصاف أعمال كبار الأدباء الألمان الذين نالوا نصيباً كبيراً من الشهرة خلال القرنين الماضيين على مستوى العالم بأسره.
صالح القاسم يسلِّط الضوء على ما صاغ الشخصية الأدبية للروائية مولر بدءاً من طفولتها في رومانيا وصولاً إلى استقرارها في موطنها الجديد ألمانيا. حيث لم يفارقها الشعور بالغربة، فبقيت حساسة بشكل خاص تجاه آلام القمع والقهر الذي تذوقته شخصياً في صباها، أو كانت شاهدة عليه في وطنها الأم، كما يتجلى ذلك في مقتطفات من روايتها الشهيرة «كل ما أملكه أحمله معي.
لا غرابة إذا وجدنا الكثير من الكتابات تصف ألمانيا بأنها أرض الشعراء والمفكرين، وذلك لكثرة الأدباء والمفكرين الناطقين باللغة الألمانية المشهورين عالمياً.
والمتصفح لتاريخ ألمانيا الفكري يتلمَّس مبررات هذا الوصف بسهولة. كما أن القارئ العربي يعرف الكثير من روائع الأدب الألماني بفضل الترجمات والدراسات والمقالات المنشورة، إذ اطلع على عدد كبير من روائع الأدب الألماني وأعلامه البارزين في الشعر والمسرح والرواية إلى غير ذلك من الفنون.
ولماذا ألمانيا «بلد المفكرين والأدباء»؟. هناك عوامل كثيرة ساعدت على ذلك: بعضها يتعلق بالتطور التاريخي الطبيعي للشعب الألماني، وبالأزمات والحروب التي مرت بها؛ وبعضها يتعلق باللغة الألمانية نفسها؛ فالمؤرخون يؤكدون على أن الأدب الألماني ظهر قبل ولادة ألمانيا الدولة التي نعرفها اليوم بفضل تنوع الخلفيات الثقافية للناطقين بالألمانية. والأزمات والحروب التي مرت بها كانت هي الأخرى ذات تأثير بالغ في سير الحياة الفكرية.
ففي القرن الثامن عشر تعرضت ألمانيا لعدد من موجات الإصلاح والتحرر، وظهر عدد من التيارات الثقافية التي أثرت في الحياة الأدبية، ولا يزال تأثيرها حتى يومنا هذا، مثل مدرسة إخوان شلجل الفلسفية، ومدرسة الفلسفة المثالية الذاتية عند فيخته، والمدرسة الشعرية التي انبثقت عنها موجة برلين الأدبية ومن أبرز رموزها هينريش كلايست، وأرنست هوفمان، وتطورت أيضاً الكثير من الفنون الجميلة والتشكيلية بصورة لم تكن معروفة من قبل. حتى عُد القرن الثامن عشر بالنسبة لألمانيا من أعظم العصور الأدبية وأزهاها.
ومع مستهل القرن العشرين ظهرت مدارس أخرى أبرزها المدرسة الواقعية التي هدفت إلى توطيد الأواصر بين البشر، وعبرت من خلالها عن خيبة أمل من الهتلرية مما زاد من انتشارها عالمياً بحكم الصدق والمعاناة، كما يمكننا أن نلاحظ في أعمال كافكا مثلاً.
ولا ننسى الحروب الطاحنة التي خاضتها ألمانيا والتي كانت ذات تأثير كبير على آدابها. فحرب الثلاثين عاماً بين الكاثوليك والبروتستانت ألقت ظلالها بوضوح على العديد من الأعمال الروائية والشعرية والمسرحية التي راحت تصف أحوال الجنود العائدين من هذه الحرب. والحرب العالمية الثانية عام 1945م كان من نتيجتها تقسيم ألمانيا إلى دولتين، أفرزت كتاباً شيوعيين في ألمانيا الشرقية، وكتاباً رأسماليين في ألمانيا الغربية. وعند إعادة توحيد البلاد عام 1990م، أصبح كل هؤلاء الأدباء يكتبون ضمن الإطار الجغرافي الجديد فظهرت أعمال أدبية تحاسب الذات عما جرى.
أما اللغة الألمانية فلا يقتصر وجودها على الألمان القاطنين في ألمانيا، ولكنها تمتد إلى المجموعات الإثنية التي تنحدر من أصول ألمانية وتعيش في بلدان مثل النمسا وسويسرا ورومانيا ومناطق أخرى مثل بوهيميا وسليزيا والالزاس، حيث تُعد الألمانية اللغة الأم، كما هو حال أديبتنا هيرتا مولر: «الألمانية هي لغتي الأم».
هيرتا مولر
صنيعة الاضطهاد والألم
هي صوت الأقلية الألمانية في رومانيا نظراً للقمع والاضهاد الذي تعرضت له هذه الأقلية في عهد رئيس رومانيا السابق نيقولاي شاوشيسكو، وهي صوت المرأة التي عانت كثيراً في تلك الفترة، وهي بشكل عام صوت المحرومين، صورت بدقة تفاصيل حياتهم اليومية بلغة أدبية ساحرة ومؤثرة.
تنتمي الكاتبة الألمانية هيرتا مولر والمولودة عام 1953م إلى أقلية ناطقة باللغة الألمانية كانت تقطن في محافظة تدعى «بنات» في جنوب غرب رومانيا. وتروي الكاتبة أنه لم يكن يتحدث الرومانية في قريتها سوى بعض موظفي الدولة، فلذلك تعلمتها متأخرة في الخامسة عشرة. ثم درست الأدب الألماني والروماني في جامعة «تيميشوارا» عام 1973م.
مرت بظروف صعبة أثناء حياتها في رومانيا. فالثورة الشيوعية صادرت ممتلكات عائلتها عام 1945م، ومن ثم قامت بإبعاد والدتها -ضمن 100,000 آخرين من الأقلية الألمانية- إلى معسكرات العمل القسري في الاتحاد السوفييتي. ولم تكد تستلم أول وظيفة لها كمترجمة في أحد المصانع حتى طردت منه بسبب رفضها التعاون مع الشرطة السرية الرومانية، فاضطرت إلى العمل مدرسة للغة الألمانية للأطفال، وظلت الاستخبارات تضيق الخناق عليها وتطاردها وتستجوبها من حين لآخر.
إن الظروف الاجتماعية والسياسية التي مرت بها هيرتا مولر، وكذلك ظروف الأقلية التي تنتمي إليها كانت قاسية وصعبة، وحفرت في ذاكرتها أخاديد عميقة من الألم والمعاناة لم تستطع الأيام أن تزيل آثارها رغم هجرتها إلى ألمانيا لاحقاً عام 1987م، وعيشها لأكثر من عشرين سنة حياة غريبة بالكامل. فبقيت أسيرة ماضٍ مرير ومؤلم، ويظهر ذلك بوضوح في كتاباتها.
الغريبة أينما كانت
رسمت هيرتا مولر عن طريق التكثيف الأدبي لوحات معبِّرة عن التغرب؛ فداخل موطنها الأصلي رومانيا اكتشفت أنها لا تتحدث بلغة رومانية، وإنما بلغة أقلية.
وظلت تشعر باستمرار أنها ذلك الشخص الآخر، وهي تقول في إحدى مقابلاتها: «بطريقة أو بأخرى تشعر دائماً أنك شخص آخر.. لا يستطيع الإنسان تجاوز الماضي، أو الاستمرار في التظاهر بأنه شخص منتمٍ». وتعبِّر هذه الإجابة عن أقصى درجات الشعور بالغربة. فهي لم تستطع أن تكون مواطنة رومانية مائة بالمائة بسبب عدم تحدثها اللغة الرومانية، ولم تستطع أن تكون مواطنة ألمانية مائة بالمائة لعدم وجود ماض لها في ألمانيا. فكانت رومانية في ألمانيا، وألمانية في رومانيا.
ولعل أول غربة شعرت بها عندما ذهبت لتعلم الرومانية في المدينة حيث عاشت غربة القروية في المدينة، ثم عندما نبذها مجتمعها إثر محاولتها نشر أول أعمالها «ناديرس» لأنها تناولت صراحة أوضاع القرويين في رومانيا إبان النظام الشيوعي، فلم تتمكن من نشر هذا العمل إلا بعد عام 1982م، بعد أن حذفت منه الرقابة الرومانية الكثير من العبارات.
وفي عام 1987م هاجرت إلى ألمانيا لتلتحق بزوجها الروائي ريتشارد فاغنر الذي كان قد هاجر قبلها، ليقيما معاً في مدينة برلين، وذلك ضمن صفقة إنقاذ الأقليات الناطقة بالألمانية.
إن المتتبع لمسيرة الروائية مولر يلحظ أنها لم تكن أسيرة ماضٍ مرير وحسب، بل أيضاً غريبة عن العالم المحيط بها، ومنسلخة تماماً عن المكان. فأشعرها ذلك أن اللغة الألمانية هي الإطار الذي تعيش داخله، وهي الموطن الحقيقي الذي تلجأ إليه عبر قصصها ورواياتها.
وتعلل سبب تمحور موضوعات رواياتها حول الماضي الذي كانت شاهدة عليه، فتقول: «أنا لم أختر هذه الموضوعات بل هي التي تبحث عني لتخرجني من عالمي، و«أنا أكتب لنفسي لتنقية الأشياء مع نفسي، ولأفهم حقيقة ما حدث، وماذا أصبحت أنا». وكأنها تحاول بذلك ترميم ماضيها المتصدع.
حصلت مولر على أكثر من عشرين جائزة محلية وعاليمة مرموقة آخرها جائزة نوبل للأدب عام 2009م. ومن الجوائز الأخرى نذكر جائزة الأدب الألماني للأعوام 1981 و1984 و1985 و1991م، وجائزة اللغة الألمانية عام 1989م وجائزة إمباك دبلن الأدبية الدولية عام 1998م، وجائزة الأديب كلايست عام 1994م وجائزة الأدب الأوروبي عام 2006م وجائزة حقوق الإنسان عام 2009م، وغير ذلك من الجوائز التي لا يتسع المجال لذكرها. ورغم هذه الجوائز والمكانة المرموقة التي كانت تحتلها على ساحة الأدب الألماني لكن شهرتها العالمية كانت محدودة.
وبحصولها على جائزة نوبل تكون هي المرأة الثانية عشرة على مستوى العالم التي تحظى بمثل هذه الجائزة منذ إطلاقها عام 1901م، وصاحبة المرة الثالثة عشرة التي يكرم فيها شخص يمثل الأدب في الدول الناطقة بالألمانية.
من أعمالها: مجموعة قصصية بعنوان حضيض أو «ناديرس»، ومجموعة قصصية بعنوان «تانغو الظلاميين» عام 1984م، و«دير عين» عام 1986م، ورواية «جواز سفر» الشهيرة و«ذيل الثعبان» عام 1989م، ورواية «فبراير بيرفوت» عام 1987م، و«المطلق» 1987م، و«السفر على قدم واحدة» 1990م، و«الشيطان يجلس في المرآة»، و«البطاطا الدافئة فراش دافئ» 1992م، و«الثعلب عندما أصبح صياداً» عام 1992م، ورواية «الحرس تحيط صاحب مشط» 1993م و«بلاد البرقوق الأخضر» 1994م و«الجوع والحرير» وغير ذلك من الأعمال الإبداعية.
وفي كل هذه الأعمال، برعت مولر في تصوير مشاهد الهجرات والاقتلاع والتخلي، فروايتها «الإنسان طائر تدرج كبير على الأرض» و«فبراير الماضي» عملان يستوحيان الأحداث مباشرة من بيئة ريفية مسكونة بهاجس الفقر والخوف من المجهول. وروايتها «السفر برجل واحدة» تحكي عن صعوبة التكيف مع عالم جديد، ورواية «الاستدعاء» تصور تداعيات امرأة لم تعد تفعل شيئاً سوى تلبية استدعاءات ضابط الاستخبارات الدنيئة.
أما في رواية «بلاد البرقوق الأخضر» فتقدم مولر صورة محزنة للتعقيدات التاريخية للهجرة ووصفاً منفراً للعالم الذي تركته في رومانيا. وتصف ببراعة أيضاً القبح المادي والروحي للحياة في ظل الدكتاتورية، وتتحدث عن الاشتراك في الشعائر الدموية للنظام القمعي الذي لا تسلم منه حتى سرقة فضلات الذبائح والبرقوق الأخضر: «لقد أكل الجنود البرقوق الأخضر بأنفسهم بعيداً عن واجبهم. عادوا إلى الطفولة يسرقون البرقوق من أشجار القرية». وعن سرقة فضلات الذبائح كتبت تقول: «كان كيرت يخبرني كل أسبوع عن المسلخ. شرب العمال دماً دافئاً حين ذبحوا الحيوانات. سرقوا لحم الأعضاء والمخ.. قال كيرت إن أزواجهم وأطفالهم شركاء. استعملت الزوجات ذيل البقرة الصلب كفرشاة للقناني بينما استعمل الأطفال الذيل اللين في ألعابهم».
كل ما أملكه أحمله معي
في هذه الرواية، تصور مولر حالة الرعب التي تعيشها الأقلية الألمانية في ترانسلفانيا من خلال وصف حياة شاب في نهاية الحرب العالمية الثانية: كيف اعتقلته الدورية الروسية، وكيف كانت حياته في معسكر تجميع المعتقلين في رومانيا. تصف رحلة اعتقاله الطويلة، وحياته في معسكرات الاعتقال الروسية.
«عندما تقدَّمت دورية عسكرية ناحيتي، كانت درجة الحرارة 15 درجة تحت الصفر، وكانت في انخفاض مستمر. كان ذلك يوم 15 من شهر يناير عام 1945م، عند الساعة الثالثة».
بهذه العبارات تبدأ مولر روايتها الرائعة، ناقلة لنا صوراً من المعاناة المروعة التي مر بها المعتقلون في معسكرات العمل القسرية الروسية في نهاية الحرب العالمية الثانية، التي تركت «بصمات دائمة من الألم لا يمكن محوها»، على حد تعبير مولر. والرواية مستمدة من وقائع حقيقية تعرض لها الشاعر أوسكار أثناء سجنه من العام 1945 وحتى 1949م.
وجدير بالذكر أنه كان من المتوقع أن تفوز بجائزة الكتاب الألماني لعام 2009م، قبل أن يعلن عن فوز الكاتبة نفسها بجائزة نوبل في شهر أكتوبر من العام نفسه.
«كل ما أملكه أحمله معي»..
مقتطفات من الرواية
حملت كل شيء معي. في الحقيقة لم يكن لي، وبدا غير ضروريّ كأنه لشخص آخر. فالحقيبة المصنوعة من جلد الخنزير كانت تستخدم صندوقاً للجراموفون، والمعطف الواقي من الغبار كان لوالدي، والمعطف المدنيّ بشرائطه الكثيرة على العنق من جدّي، والسروال من عمي إدوين، ومشدّات السّاق الجلدية من جارنا السيد كارب، والقفازات الخضراء من عمتي فيني. ما كنت أملكه هو فقط الشال ذو اللون الخمري وصندوق الأغراض الضرورية. وحتى هذه، فقد كانت هدايا من عيد الميلاد الأخير.
كانت الحرب لا تزال دائرة في يناير من عام 1945م، وتوقع الهلع في منتصف الشتاء. كنت ضمن المطلوبين للاعتقال من الجيش الروسي، لا أحد يعرف إلى أين سيؤول مصيري. كل واحد من معارفي أراد أن يعطيني شيئاً حتى ولو لم يكن له فائدة، ولم يكن من شيء ليساعدني.
في سن السابعة عشرة كنت أريد السفر بعيداً، لكني لم أتوقع أن تتحقق هذه الأمنية ضمن قائمة المطلوبين. كنت أريد الخروج بأية طريقة من بلدتي الصغيرة. فالحجارة هناك كان لها عيون. لم أكن خائفاً، ولكن قلقاً خفياً شعرت به. وبدلاً من الخوف، انتابني تأنيبُ ضمير لأنني كنت راضياً عن وجود اسمي ضمن قائمة المطلوبين، في حين كان أقاربي منزعجين من ذلك تماماً؛ وخائفين من حدوث مكروه لي في الغربة.
سابقاً؛ أي قبل ذهابي إلى المعسكر بقليل، وبعد عودتي منه عام 1968م، حيث غادرت بلادي بشكلٍ نهائي، كانت مواعيد الغرام تؤدي إلى سجن لا تقل مدته عن سنوات خمس، هذا لو أمسكوا بي متلبساً.
أتدرب على أفضل الجمل التي يمكن أن أقولها في حال اعتقالي، فعلى تهمة مثل: ضُبطتَ متلبساً بالجرم المشهود، حضّرت ألف إجابة وادّعاء بغيابي عن المكان. وبخاصة أنني من الذين لا يستطيعون التعبير عن أنفسهم بالكلمات، وحين أحاول ذلك أعبّر بطريقة مختلفة.
عشت الخوف قبل المعسكر وأثناءه، وبعده لمدة خمسة وعشرين عاماً متواصلة، الخوف من الدولة والخوف من العائلة. الخوف من السقوط المضاعف. أن تعتقلني الدولة بوصفي مجرماً وأن تطردني العائلة بوصفي عاراً، وفي ضجة الشوارع أنظر في مرايا واجهات العرض، في نوافذ البيوت والقطارات، وفي مياه الينابيع وبرك الماء الصغيرة، أنظر ولا أصدّق.
كان أبي معلم رسم، وحين كنت أسمعه يلفظ كلمة «أكواريل» كنت أرتجف كأن أحداً رفسني بقدمه. وقتذاك كنت أعرف الحد الذي كنت قد تجاوزته. قالت أمي ونحن على طاولة الطعام: لا تطعن حبة البطاطا بالشوكة فتفتّتها، خذ الملعقة، الشوكة تستعمل لتقطيع اللحم. ما علاقة اللحم بالبطاطا والشوكة؟ عن أي لحمٍ تتكلم أمّي؟.
كنت أريد الرحيل حتى ولو إلى معسكر العمل القسري. ما كان يؤلمني هو هجر أمي، لم تكن تعرف ما يدور بعقلي، سوف تفكر بي كثيراً، أكثر مما أنا أفكر بها أثناء غيابي.
فرحت لأنهم لن يأخذوني إلى الحرب، ولن يأخذوني إلى الجبهة في مثل هذا الثلج. رحت أحزم حقائبي بشجاعة الغبي. مشدات جلدية برباطات، سراويل فضفاضة، معطف بنطاقٍ حريري. لا شيء يناسبني منها. قلتُ في نفسي، على أية حال العالم ليس حفلة تنكُّرية، والأمر ليس مضحكاً لمن يتوجب عليه السفر إلى روسيا في قلب هذا الشتاء.
كانت الدورية المؤلفة من شرطيين، أحدهما روماني والآخر روسي ومعهما القائمة، تدور على المطلوبين من بيت إلى بيت. لا أدري إذا كانت تلك الدورية قد نطقت كلمة معسكر عندنا في البيت. أو إذا كانت هي اللفظة التي قيلت. وإذا قالوا كلمة أخرى، فلن تكون سوى روسيا. أما إذا كانت كلمة معسكر فعلاً، فإنها لم ترعبني. فقد كنت ما أزال أخبئ في أعوامي السبعة عشر طفولة ساخطة حمقاء.
أكواريل ولحم.. من الكلمات التي تركت أثراً في نفسي. أما كلمة معسكر فلم أكن ألقي لها بالاً. أتذكر قصة الطعام والبطاطا والشوكة، صرخت أمي من نافذة الشرفة: إذا لم تأتِ فوراً للأكل واضطررت لمناداتك مرة أخرى فابق حيث أنت. ولأنني لم أكن أصعد إليها في الحال وأبقى برهة أطول في الدار، كانت تقول لي حين أصل إليها: تستطيع الآن أن تجهز حقيبتك المدرسية وترحل أنَّى شئت وتفعل ما شئت في هذا الكون. ثم تجرني إلى الغرفة آخذةً حقيبة الظهر الصغيرة حاشرةً فيها قلنسوتي الصوفيّة والجاكيت. فأسألها: ولكن إلى أين أذهب؟ ألست ابنك؟
لم يكن في عائلتنا حقائب. وعندما ذهب أبي إلى الجبهة لأداء الخدمه الإلزامية في الجيش، لم يكن هناك ما يتوجب تجهيزه، كان العسكري يحصل على كل شيء مع البدلة العسكرية، ما عدا بعض الحاجات الخاصة بالسّفر وحاجات أخرى ضدّ البرد. لم نكن نعرف لماذا يتوجب علينا التجهيز، ولم يكن المرء لحظتها يملك ما يمكن أن يقول.
بعد أن جلبت أمي الغرامافون من حجرة الجلوس ووضعته على طاولة المطبخ، قمت بتحويل صندوقه إلى حقيبة بواسطة مفكّ البراغي. وأبقيت البطانة الداخلية ذات اللون المخملي الأحمر مثل لون الثّعلب في مكانها.
وضعت على أرضية الحقيبة أربعة كتب: فاوست بجلده الكتّاني، زرادشت، فاين هيبِر ذي القطع الصغير ومجموعة مختارات شعرية من القرون الثمانية الأخيرة. لم آخذ معي أية رواية، فالرواية يقرأها المرء مرة واحدة. وضعت فوق الكتب علبة الاستحمام: زجاجة ماء كولونيا ومعجون حلاقة وماكينة حلاقة يدوية وفرشاة حلاقة وصابون غسيل لليدين ومقص أظافر. وإلى جانب العلبة، وضعت زوج جوارب صوفية طويلة حتى الركبة بني اللون ومرقّع، وقميص فانيلا أبيض وأحمر وسروالين داخليين قصيرين من قماش مضلّع. ثم وضعت فوق كل ذلك من الأعلى الشال الحريري الجديد كي لا يتجعّد من شدّة الضّغط، ذلك الشال الأحمر النبيذيّ المخطّط من ذاته وبذاته، والذي تراه مرّة لماعاً ومرة معتماً. هكذا امتلأت الحقيبة. أما الصرّة: فقد كانت عبارة عن بطانية أخذتها من البيت من الصوف المخطّط بالبيج والأزرق الفاتح، ورغم كبرها لم تكن تدفئ. لففت داخل البطانية معطفاً أغبر اللون لونه من لون خلطة الفلفل والملح، مهتريء من كثرة الاستخدام، وزوج مشدّات جلدية صفراء قديمة جداً، من أيام الحرب العالمية الأولى.
كيس الخبز كان عبارة عن علبة لحم مملّح من ماركة «سكانديا» وأربعة سندويتشات وبضع قطعٍ بقايا كعك من عيد الميلاد ومطرة ماء عسكريّة مع كوب للشرب.
وضعت جدتي حقيبة الغرامافون والصرّة وكيس الخبز قرب الباب، وهكذا أصبح متاعي جاهزاً وينتظر قرب الباب. فالشرطيان أعطياني منتصف الليل موعداً لاعتقالي.
لبست ثيابي: سروالاً داخليّاً طويلاً وقميصاً من الفانيلا ذا لون طحيني مخضر ومخطط، وسروالاً فضفاضاً رماديّاً كنت قد حصلت عليه من عمّي إدوين كما سبق وذكرت، وسترة قماشيّة بأكمام محاكة على التريكو وزوج جوارب صوفيّة وزوج أَحذية خاصّة بالجبال…
ربطت حذائي الجبليّ وجلست على الطاولة أنتظر منتصف الليل. جاء منتصف الليل، لكنّ الدورية تأخرت. كان يجب أن تمضي ثلاث ساعات قبل أن تأتي تلك الدوريّة. وقت طويل يصعب على المرء تحمّله. وقفت أمّي تحمل بيديها معطفي ذا الرباط المخمليّ الأسود. دلفتُ فيه بمساعدتها. بكت أمي، وحين لبست قفازاتي الخضر. وعند المدخل الخشبي تماماً حيث لصق عدّاد الغاز، قالت جدتي: «أعرف أنك ستعود».
استقرت هذه الجملة في قلبي من دون قصد مني. وأخذتها معي من دون تخطيط إلى المعسكر. لم أعرف يومها أن هذه الجملة سترافقني. كان لها وقع كبير في نفسي؛ عملت وعلَّمت فيَّ ما لم تستطعه كل الكتب التي حملتها. «أنا أعرف أنك ستعود» عبارة أصبحت تلامس شغاف القلب وتحارب ملك الجوع. ولأنني عدت فعلاً، فإنه يحق لي أن أقول: مثل هذه الجمل تساعدك في المقاومة للبقاء على قيد الحياة.
كانت الساعة الثالثة من ليل الخامس عشر من كانون الثاني، يناير عام 1945م، عندما حملتني الدورية معها، وكان البرد هو السيد يومها، ودرجة الحرارة لا تتجاوز الخمس عشرة تحت الصفر وكانت في انخفاض مستمر.
حملتنا شاحنة ذات مقطورة مغطاة عبر المدينة الخالية، وأنزلتنا في صالة المعارض، وهي صالة خاصة باحتفالات الساكسونيين (الأقلية الألمانية التي تعيش في رومانيا)، حوّلوها إلى نقطة تجمّع الموقوفين. وفي تلك اللحظة، كانت تزدحم بنحو ثلاثمائة إنسان تكوّموا الأرض فوق حصائر وأكياس القش. واستمرت الشاحنات بالوصول من القرى المجاورة لتفرغ حمولاتها من البشر حتى الصباح حيث بلغ عدد المعتقلين نحو الخمسمائة. كان من الصعب إحصاء الناس كلّهم رغم وجود الضوء المشتعل طوال الليل، لأن الجميع في حركة مستمرة يبحثون في المكان عن معارفهم، ويالتالي لا يمكن رؤية الجميع.
سمعنا عن تجنيد نجارين لتفصيل عرباتٍ خشبية جديدة مثل تلك التي تنقل فيها الحيوانات. وعن تجنيد عمال آخرين لبناء مدافئ أسطوانية في العربات، وآخرين لفتح ثقوب المراحيض في أرضياتها. الأحاديث تدور بلا توقف بأعين نصف مفتوحة. وأعين حزينة دامعة بهدوء. كانت رائحة الهواء تذكرك برائحة الصوف العتيق، واللحم المشويّ ذي الدّهن الكثير، ورائحة كعك الفانيلا. خلعت إحدى النساء منديلها، كانت امرأة قروية ، ضفرت شعرها في جديلة على خلفية رأسها ثم طوتها مرتين وثبتتها في المنتصف مرفوعة بمشط عاجيّ نصف مقوَّس. أسنان المشط العاجيّ تختفي في شعر الجديلة ومن طرفه المنحني تبرز زاويتان كأذنين صغيرتين محدبتين. وهكذا بدت خلفية رأس المرأة بجديلتها السميكة وأذني المشط مثل قطّة جالسة. أمّا أنا فجلست أتفرّج بين الأرجل الواقفة وأكوام الأمتعة المكدّسة. واستولى النعاس علي بضع دقائق ورحت أحلم:
رأيت أمي معي في المقبرة، كنّا واقفين أمام قبر جديد، وسط القبر تماماً تنمو نبتة متوسطة الطول مثلي ولها أوراق كالفرو. توجد على ساقها ثمرة على شكل كبسولة ذات مقبض جلديّ مثل حقيبة صغيرة.
الكبسولة مفتوحة بعرض إصبع ومحشوة بمخمل أحمر كجلد الثعلب يشبه بطانة صندوق الغرامافون. لا نعرف من مات. تقول أمي: خذ الطبشورة من جيب المعطف. ليس لدي طبشورة، أرد. وعندما أدسّ يدي في جيبي أجد فيها فعلاً قطعة طبشور من النوع الذي يستعمله الخيّاطون. فتقول أمي: يجب علينا كتابة اسم قصير على الحقيبة، ليكن روت. لم نكن نعرف أي أحد بهذا الاسم. أكتب: روت. كان واضحاً في الحلم أنني متّ، لكنني لم أكن أريد قول ذلك لأمي. انتفضت واقفاً لأن رجلاً مسنّاً في يده مظلّة مطريّة جلس فجأةً إلى جانبي على كيس القشّ وهمس في أذني: سوف يأتي صهري أيضاً. كانت الصالة محاطةٌ بالحرّاس من كل جانب. لن يسمحوا له بالدخول. ما زلنا في المدينة وهو لا يستطيع المجيء لا إلى هنا ولا إلى البيت. على كل زر فضي من أزرار سترته كانت هناك صورة طائر يطير، وكان الطير إما بطةً أو قطرساً، وقفت المظلة كعصا بيني وبينه. سألته: «هل ستأخذها معك؟»، ردّ عليّ: «هناك يسقط ثلجٌ كثير، أكثر حتى من هنا».
أخبرونا متى وكيف علينا الخروج من صالة التجمّع إلى محطة القطار، ومتى يسمح لنا بالخروج من الصالة. بالنسبة لي، كنت أريد أن تبدأ الرحلة إلى الروس حتى ولو كانت بعربات نقل الحيوانات، حتى ولو كانت مصحوبةً بصندوق الغرامافون وكل هذه الصرر. لم أعد أعرف كيف وصلنا إلى المحطة. كانت عربات نقل الحيوانات عالية، ونسيت الطريقة التي صعدنا بها إلى تلك العربات. استغرق سفرنا أياماً وليالي طويلة، وبدا السفر وكأننا أمضينا فيه كل حياتنا، حقيقة لم أعد أتذكّر المدّة التي استغرقتها رحلتنا.
على الطرف الأمامي للمقطورة، ثمة رجال ونساء، شباب وكهول بأمتعتهم. وثمة دردشة وصمت، أكل ونوم، وبدأت هنا وهناك محاولات فرفشة، لقد أصبح الجميع يرى واقعه بعين ويهرب منه بالأخرى.