محاولة تعريف “الوعي” هي أحد أقدم المسارات العلمية والفلسفية. ولأنَّ مفهوم الوعي يقع في منطقة بين المادي والمتخيّل، فإنَّ محاولة تعريفه تبدو عصيَّة على المنهج العلمي. لكن مع تطوّر فهمنا لآلية عمل الدماغ البشري، ومحاولة استنساخ وظائف هذا الدماغ عبر تطبيقات الذكاء الاصطناعي المختلفة، بات الوعي متطلباً تقنياً يتجاوز الكينونة البشرية والتفسير البشري للموجــودات، بل ويتجــاوز التفسير المـادي للكون المحسوس.
تبدأ صعوبة تناول مسألة الوعي من اختلاط التفسيرات الشخصية بالأطر العلمية. فمن جهة، لكل شخص خبرة ذاتية خاصة مع الوعي لا سبيل إلى التأكد من كنهها يقيناً من خارج منظور الشخص نفسه. فتجربتك مع منظر غروب الشمس مثلاً، قد تختلف أو تتطابق مع تجربة صديقك الذي يتأمَّل المنظر بجانبك. قد تتفقان على جمــال المنظـر، لكن ما من سبيل لمعرفة إن كان ما تصفـه أنت باللون الأحمر هو نفسه ما يصفه هو بالأحمر.
يطلق الفلاسفة على هذه التجارب اسم “الوعي الذاتي” التي لا يمكن وصفها بشكل موضوعي. لكن من ناحية أخرى، فكلنا موقنون بوجود عالم مادي خارجي تنتج عنه تلك التجارب والخبرات الشخصية. عالم خارجي مملوء بالأشياء المادية التي تحتل حيزاً في الفراغ ولها صفات فيزيائية مميّزة لها كالشكل والوزن والطول الموجي. وهنا يبقى السؤال مفتوحاً عن علاقة العالمين، المادي والعقلي، ببعضهما بعضاً.
الوعي وفق مذهبين
تحظى المذاهب الثنائية التي تقرُّ بوجود عالمين مستقلين؛ عالم مادي وآخر عقلي، بتاريخ طويل جداً يمتد إلى آلاف السنين. حيث تُجمع هذه التوجهات على أن مفهوم العقل ووظيفته -كالتفكير والإدراك والحس والوعي وغيرها- لا يمكن ردّها إلى الدماغ وحده. ويُعد الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت أحد أشهر من قدَّم مذهب الثنائية. حيث إنَّ أحد أهم أركان الفلسفة الديكارتية هي التفرقة بين الدماغ والعقل. يعتقد ديكارت أن كل ما نشترك فيه مع الحيوانات الأخرى يمكن رده إلى أعضاء الجسد الحسية التي يمكن أن نراها ونقيسها، فقدرتنا على الحركة والرؤية والنوم والسماع والحس كلها قدرات “حيوانية” مشتركة. لكننا نتميز عن كل الحيوانات الأخرى بالعقل، حيث يحدث “التفكير”، وهو الذي اعتقد ديكارت أنه لا يمكن أن يوجد في المادة ولا في الزمن بل يتواصل مع أجسادنا عبر الغدة الصنوبرية وسط الدماغ كسمة بشرية صرفة، عبّر عنها بمقولته الشهيرة: “أنا أفكر إذاً أنا موجود”. ظل العقل بعيداً عن حقول العلم الطبيعي بعد ذلك لفترة طويلة تحت تأثير الفلسفة الديكارتية. بل إن بعضاً -مثل الألماني كانط- ادَّعى بأن العلوم القائمة على دراسة العقل يستحيل أن توجد، لأنه ليس للعقل طبيعة حسية مثل المعادن والمواد، وليس له وزن ولا مكان، فلا يخضع بالتالي للتجارب العلمية.
في المقابل، تصر المذاهب المادية الحديثة على أن العقل في نهاية الأمر ليس سوى تفاعلات مختلفة تحصل داخل الدماغ الذي لا تتدخل في عمله إلّا المكوّنات المادية. ولكن السؤال العسير، الذي يسميه الفيلسوف ديفيد تشالمرز “بمشكلة الوعي الصعبة”، هو: كيف يمكن لبُنية الدماغ التشريحية والوظيفية أن تنتج لنا الوعي؟ بعبارة أخرى، كيف يمكن لسلسلة من النبضات الكهروكيميائية التي تتناقلها الخلايا العصبية أن تؤدي إلى شعورنا بالألم الشديد أو بالسعادة الغامرة؟
ماذا نعني بالوعي؟
للإجابة عن مثل هذا السؤال، نحتاج لأن نفهم أولاً ماذا نعني بالوعي؟ من دون أن نتورط في معمعة اللغة.
هل يمكننا تصنيف الموجودات والكائنات الواعية من غير الواعية؟ إننا قد لا نختلف على أن باقي الناس هم واعون مثلي ومثلك. صحيح أننا لا نملك وسيلة لإثبات ذلك بشكل قاطع لكن لنتجاوز هذه المسألة الآن. وبالمقابل، فلن نختلف حول كون هاتفك الذكي أو علبة المناديل أمامك غير واعية تماماً. إنها ليست بشرية فهي بالتالي محرومة من نعمة الوعي. ولتقريب المسألة فليتخيل أحدنا حاله لو كان قطّاً أو قطرة ماء أو شجرة.
“كيف يكون الحال لو كنت وطواطاً؟” هو عنوان بحث ذائع الصيت للفيلسوف توماس نيجل نُشر عام 1974م الذي استخدم هذا السؤال لشرح صعوبة تفسير الوعي مادياً. المعنى المُراد من هذا السؤال هو أن وجود حال معينة للكائن، يشعر بها دون غيره، ستدعم الاعتقاد بأنَّ هذا الكائن واعٍ، أما انتفاء وجود تلك الحال فستجعلك تعتقد، بالتبعية، أن هذا الكائن من دون وعي. ولكن لنحاول الإجابة عن السؤال: كيف يكون الحال لو كُنت وطواطاً؟ إننا عاجزون عن الإجابـة عن هذا السؤال، لأننا لو أصبحنـا وطاويط بالفعل فلن يكون بمقدورنا الكلام أو التفكير أو التعبير عن منظورنا للعالم بلغة فصيحـة بما يضعنا في دائرة مفرغة. وهذا ما يجعل السؤال مستحيل الإجابة. مَنْ نحن لنتكلم بالنيابة عن الوطاويط؟
على الرغم من أن كثيراً من العلماء اليوم لا يشارك نيجل التحفظ نفسه حول مفهوم الوعي، إلا أنَّ هذه الأطروحة تمثل نقطة مهمة في مقاربة الوعي علمياً في مختبرات علماء الأعصاب. فكل محاولات دراسة الوعي وفهمه -سواء كانت ثنائية أو ماديّة- ستظل قاصرة ما لم تتعامل مع مشكلة كيفية تحول النشاط العصبي في الدمـاغ إلى هذا الإحســاس الفريد بذواتنـا الذي يلازمنـا كل لحظات اليقظة.
أين يحدث الوعي؟
باتت لدينا اليوم أدلة علمية وسريرية لا حصر لها عن علاقة الدماغ بحالات الوعي المختلفة. فعلى سبيل المثال لا الحصر: نجد من خلال عديد من الدراسات أن النشاط العصبي مرتبط بمحتوى التفكير. ففي كل مرَّة، حين ترى أو تفكِّر في وجه بشري يزيد النشاط العصبي في منطقة الوجه التلفيفيّة (Fusiform Face Area) في أسفل الفص الصدغي. بل إنّ تلف هذه المنطقة يؤدي إلى تطور مرض عصبي نادر يسمى بعمى الوجوه (Prosopagnosia) حيث يعاني المصابون بهذا المرض صعوبة في التعرف على الأشخاص عن طريق الوجوه رغم أن نظرهم سليم تماماً. والأمر نفسه ينطبق على اللوزة الدماغية (Amygdala) حيث يزيد النشاط العصبي فيها في حالات الخوف والخطر. وتضرر هذه المنطقة في وسط الدماغ يؤدي بشكل كبير إلى فقدان الإحساس بالخوف تحديداً (دون تأثير يذكر على مشاعر الفرحة والدهشة وغيرها) وإلى زيادة مستوى المخاطرة نظراً لانعدام الإحساس بالخوف.
وهناك مجموعة أخرى من الأدلة تأتي من الأبحاث المتعلِّقة بالعقاقير والمخدرات التي تؤثر بشكل واضح على تفكير الشخص ومشاعره ومزاجه. ومجموعة ثالثة تأتي من دراسات التحفيز العصبية، حيث إنّ تحفيز مناطق عديدة في الدماغ يؤدي إلى خوض تجارب متعلّقة بالوعي، مثل رؤية الأشكال أو الإحساس بحركات لا إرادية أو حتى الاستجابات الانفعالية، بحسب موضع الاستثارة. فالأدلة على ارتباط الدماغ بحالات التفكير والمشاعر على هذا النحو تكفي لملء مجلدات بل وكانت عاملاً أساسياً في تقوية موقف المذاهب المادية التي لا تؤمن بالثنائية. لكن السؤال الذي لم يقدِّم له أنصار المذهب المادي جواباً شافياً -بعد- هو: أين هو مركز الوعي في الدماغ؟ أو كيف تترجم هذه التفاعلات العصبية -التي تبدو متطابقة في تركيبها وطريقة عملها- إلى خبرات شعورية مختلفة كالتعرف على الوجوه أو الإحساس بالخوف؟
كيف يكون الحال لو كُنت وطواطاً؟ إننا عاجزون عن الإجابة عن هذا السؤال، لأننا لو أصبحنا وطاويط بالفعل فلن يكون بمقدورنا الكلام أو التفكير أو التعبير عن منظورنا للعالم بلغة فصيحة بما يضعنا في دائرة مفرغة. وهذا مايجعل السؤال مستحيل الإجابة. مَنْ نحن لنتكلم بالنيابة عن الوطاويط؟
توماس نيجل
ربما ينشأ الوعي من “منطقة مركزية” ما في الدماغ، حيث تتمتع هذه المناطق بدور أساسي في إدارة المدخلات والمعالجة والمخرجات. لكن، وعلى خلاف وحدة المعالجة المركزية في الحاسبات الآلية، لا توجد في الدماغ منطقة مركزية محدَّدة. فالدماغ نظام شبكي موزع دون مركز حقيقي يدير النشاط العصبي في سائر الدماغ. فالمُدخلات الحسية تصل إلى مناطق مختلفة في الدماغ، حيث تؤدي وظائف إدراكية مختلفة، وهذه تؤدِّي بمجملها إلى مخرجات حسية أو سلوكية. كل هذا يتم بشكل موزع ومتوازٍ عبر مليارات الوصلات المتشابكة بين المناطق المختلفة دون الحاجة إلى أي نظام شامل ينظِّم العلاقات بينها. وهنا تبرز المعضلة الكبرى للمذاهب المادية: لماذا يبدو الوعي البشري موحداً ومستمراً وحاضراً بوجود هذا التوزيع اللامركزي والموزع للنشاط العصبي؟
في محاولة شهيرة وجريئة للإجابة عن هذا السؤال، أجرى عالم الأعصاب نيكوس لوكوثيتس مجموعة من الأبحاث على القردة من خلال عزل المناطق المسؤولة عن المعالجة البصرية المباشرة عن تلك المسؤولة عن الإدراك البصري. واستخدم لوكوثيتس في تجربته ما يسمى بالتنافس البصري (Visual Competition) وهي مجموعة من الصور التي يمكن رؤيتها بطريقتين مختلفتين بالتناوب، وكأنها تتنافس على استحواذ الوعي البصري. وبعد أن وضع عدداً من الأقطاب الكهربائية لقياس النشاط العصبي في مناطق مختلفة في المناطق البصرية والصدغية، وجد أن النشاط العصبي لا يتغير في المناطق البصرية الأساسية، لكنه يتغير في القشرة الصدغية بشكل متناسب مع التجربة البصرية الواعية. معنى هذا أن هناك مناطق عصبية تستجيب للمثيرات البصرية بغض النظر عن “التجربة الواعية” فيما وجدت مناطق أخرى تستجيب للعمليات الإدراكية البصرية التي تمثل التجربة الواعية. هل يعني هذا أننا قد أمسكنا أخيراً بطرف الخيط ووجدنا مركز “الوعي البصري” في الدماغ؟
أياً كان الأمر، تظل الأسئلة اللاحقة قائمة. كسؤال الفرق الذي يجعل من تلك الخلايا العصبية في الفص الصدغي مسؤولة أو مرتبطة بشكل ما بالتجربة الواعية عن الخلايا الأخرى التي تقوم بمعالجة المعلومات البصرية فحسب. ونتيجة هذا التفريق هو الوصول إلى الاستنتاج أن هناك عمليات عصبية في مناطق ما تحدث خارج إطار الوعي. فإذا كان الأمر كذلك، فما الفرق -من ناحية مادية فسيولوجية بحتة- بين الأشياء الموجودة داخل إطار وعي أحدنا وخارجه؟ وماهو دور الوعي أساساً في عملية التجربة البصرية إن كانت المعالجة الأساسية للمثيرات البصرية تتم بدون وجود الوعي؟
هل نحن واعون دوماً؟
تذكِّرنا هذه التجربة وهذه الأسئلة بكثير من النشاطات اليومية التي نؤدِّيها على أكمل وجه دون وعي. فمثلاً حين تسير إلى وجهة مقصودة بشكل متكرِّر سواء مشياً أو في السيارة، تغوص في سيل طويل من الأفكار والمواقف وأحلام اليقظة ولا تكاد تشعر بشيء آخر حتى تصل إلى وجهتك. أنت موقن تماماً أنك قطعت نفس المسافة بسيارتك أو بقدميك ولم تستقل آلة زمن سريعة، لكنك لا تكاد تذكر كثيراً من التفاصيل. بل الأعجب من ذلك هو كيف استطعت ممارسة قيادة السيارة دون أن تولي عملية القيادة نصب اهتمامك؟ كيف قمت بالضغط على الدواسات المختلفة والتأكد من السيارات المجاورة أو المقابلة والوقوف عند الإشارات الحمراء وفوق كل ذلك الوصول إلى غايتك. بدون شك أنك كنت متنبهاً ومتيقظاً طوال الطريق ولست نائماً ولكنك لم تكن واعياً بالطريق أبداً. يبدو أن الدماغ قادر على أداء كل هذه المهام بشكل آلي ودون الحاجة إلى الحضور الواعي ولا شك أن كل هذه العمليات تتطلَّب تعاون أجزاء ومناطق مختلفة في الدماغ لإنجاز المهمة بما فيها أنظمة الذاكرة والتحكم بالأجهزة الحسية.
هل الوعي وهم؟
هناك طريقة مختلفة تماماً لمقاربة الأسئلة الصعبة للوعي وتحظى بشعبية كبيرة بين أنصار المذهب المادي. فبدلاً من الغوص في كل هذه المعمعة الطويلة، يقترح الفيلسوف والعالم دانيال دينيت أن الوعي ليس إلَّا عبارة عن وهم!
على غرار الخدع البصرية المختلفة التي تخدع أعيننا وخبراتنا الحسية، يصر دينيت وغيره على أنّ إدراكنا للوعي ليس إلا خدعة أخرى، فالوعي كما نفهمه قد لا يكون له وجود مطلقاً. تتلخص هذه الفكرة في أن أدمغتنا تعالج كمّاً ضخماً من المعلومات المختلفة طوال الوقت، لكننا لا نعي منها إلا القليل
فعلى غرار الخدع البصرية المختلفة التي تخدع أعيننا وخبراتنا الحسية، يصر دينيت وغيره أن إدراكنا للوعي ليس إلا خدعة أخرى، فالوعي كما نفهمه قد لا يكون له وجود مطلقاً. تتلخَّص هذه الفكرة في أن أدمغتنا تعالج كمّاً ضخماً من المعلومات المختلفة طوال الوقت، لكننا لا نعي منها إلا القليل. وفي هذا سيل كبير من الدراسات والتجارب العلمية التي تؤكد أن أدمغتنا بالفعل تتأثر بشكل لا واعٍ بكثير من المدخلات أو العمليات التي لا ندركها وهذا ينعكس في ظواهر نفسية عديدة مثل عمى التغيير (Change Blindness) أو ما يسمى بملء الفجوات (filling the gap) البصرية أو حتى عملية الحدس والأفكار الإبداعية. فكر مثلاً كيف تخطر في بالك -فجأة- حلول بديعة لمشكلة عملت عليها لفترات طويلة أو كيف يلح عليك شعور ما بأن شخصاً ما يراقب تحركاتك. هذا الحدس والإبداع ليس سحراً بالطبع، بل هو نتيجة تفكير ومعالجة داخلية مستمرة لكننا لا نعيها أبداً. وقد نعبِّر عنها بالنصيحة المأثورة: أعط الموضوع وقتاً وسيأتيك الحل.
لقد قلب هذا المفهوم مشكلة الوعي رأساً على عقب، حيث أزاح عن العلماء والفلاسفة سلسلة طويلة من ألغاز الوعي بضربة واحدة. لكن ما زال هذا الطرح صادماً، فضلاً عن كونه محدوداً للغاية في تفسيره للسؤال الأصعب الذي افتتحنا به المقالة: كيف يمكن أن ينشأ هذا الإحساس الفريد بالتجربة الذاتية الواعية وسط كل هذا (الوهم) الذي نعيش فيه ووسط هذا العالم بكل دهشته وتنوُّع موجوداته؟