فنان و مكان

ميخائيل نعيمة

والشخروب

حين عاد الأديب ميخائيل نعيمة إلى لبنان في عام 1932 من هجرته الأمريكية، إذ كان أحد أعمدة أدباء المهجر والرابطة القلمية، استقر قرب مسقط رأسه بلدة بسكنتا، وتحديداً على تلة خارجها تسمى “الشخروب”. فبنى عرزاله هناك، واعتزل فيه قارئاً وكاتباً ومفكراً ومتأملاً. وهناك ألّف عدداً كبيراً من كتبه، فلُقّب “ناسك الشخروب”.

لوركا حيدر
كانت عودة نعيمة من نيويورك بعد وفاة جبران خليل جبران. وكتب حول عودته هذه: “عُدْتُ وفي أُذنيّ ضجيج مدنيّات لا تُحصى. وفي رأسي براكين من الأفكار، وفي قلبي حنين إلى عزلة أستطيع أنْ أغرق في صمتها وسكونها وجمالها. فأطهّرِ أذني من الضجيج، وأفرّج عن رأسي ممّا فيه من البراكين. وأبرّد بعض ما في قلبي من الشوق والحنين. وكان الشخروب كريماً معي إلى أقصى حدّ. فما ضنّ عليّ بالعزلة التي كنتُ أنشد، بل فتح لي قلبه وذراعيه. فرحت أمضي معظم نهاراتي في كهف من كهوفه. فساعات للتأمّل، وغربلة الماضي، وتعرية النّفس، وفتح كُوى الرّوح لنور الله. وساعات للتأليف. وهل التأليف غير مكالمة الناس؟” وهذه الجملة الأخيرة، أي مكالمة الناس، كانت رداً على نقاده الذين اعتبروا اعتزاله هروباً من المجتمع ومواجهة الناس، حتى إن بعضهم اعتبره متشائماً أو كاتباً ينتمي إلى المدرسة التشاؤمية. أما لقب “ناسك الشخروب” فقد خلعه عليه الكاتب توفيق يوسف عواد في مقالة كتبها عنه في صحيفة “البرق” عام 1932.

ولماذا الشخروب ؟
وصف نعيمة في الجزء الأول من سيرته “سبعون” منطقة الشخروب الأثيرة على قلبه وصفاً دقيقاً، فهي تقع على بُعد خمسة كيلومترات إلى الشرق من بسكنتا وترتفع عنها ثلاثمئة متر. وشكلها شبه مثلث تحدّه من الغرب والشرق ساقيتان تلتقيان إلى الجنوب في واديه، ومن الشمال سلسلة من الصخور الشاهقة تتخلَّلها بعض الفجوات.

وتكثر في الشخروب الصخور من شتى الأحجام والأشكال، وكلها كلسي، رمادي اللون، صلب الفؤاد، منها الضخم المنبطح على الأرض حتى إن ظهره ليتسع لبناية كبيرة. ومنها المتدثر بالتراب فلا يطل منه عليك غير قسم قد لا يجاوز حجم الرأس. ولكنك إذا حاولت اقتلاعه، وجدته يمتد تحت الأرض إلى مسافات بعيدة. ومنها المنتصب كالمارد بقامة يبلغ ارتفاعها مئة قدم وأكثر، كتلك الصخور التي تشكِّل حدود الشخروب الشمالية، والتي فتتت العناصر شيئاً من قواعدها فبرز بعض منها في شكل طنف بإمكانك أن تحتمي تحته من الشمس والمطر.

“ماذا يجديك قولي إن الشخروب بقعة صغيرة في سفح صنين تكثر فيها الصخور والأشجار والأشواك والعصافير، وأنت لم تعاشر، مثلما عاشرت، تلك الصخور والأشجار والأشواك والعصافير؟ لا عرفت، مثلما عرفت، أنها تزخر جميعها بالحياة والحركة ليل نهار؟ ولا أنت تفيأت شجرة من شجرات الشخروب وسكرت بما يدور من وشوشات ما بين أوراقها والنسيم؟ وأخيراً ماذا يجديك قولي إن صنين يبدو كما لو كان على مرمى حجر من الشخروب؟ فلا عيناك تشبعتا مثل عيني بمناظر أخاديده وأفاريزه ومنحدراته، وبرقصة الأنوار والظلال العجيبة على جبهته، وبجلال النسور تحلق في أجوائه. ولا رجلاك تسلقتا مثل رجلي أضاليعه حتى قمَّته. ولا أنت أصغيت، مثلما أصغيت، إلى زمجرة أعاصيره وهيمنات نسماته. ولا جلست، مثلما جلست، على الثلج في أعاليه والشمس من فوقك تكاد تشويك شياً. ولا وقفت على قمَّته وشعرت كأنك واقف على قمة الدنيا”.

عُمرٌ مديد
من المعلوم أن نعيمة المولود في 17 أكتوبر 1889 م. درس أولاً في المدرسة الأرثوذكسية في قريته، حيث أظهر تفوّقاً حصل بفضله على منحة للدراسة في دار المعلّمِين في الناصرة في فلسطين، حيث أمضى أربع سنوات ما بين 1902 و1906م. وفي نهاية تلك المرحلة، فاز بمنحة أخرى أهلّته للدراسة في”السمنار” بمدينة “بولتافا ” في روسيا ما بين 1906 و1912م. وقد نظم عام 1910م قصيدة “النهر المتجمّد” بالّلغة الروسية. وعندما وصل إلى نيويورك، “الدردور الرهيب” كما سمّاها في خريف عام 1916م، كان في استقباله كلٌّ من نسيب عريضة وميخائيل إسكندر وجبران خليل جبران وغيرهم. وفي عام 1920، ولدت الرابطة القلميّة وكان جبران عميدها ونعيمة مستشارها ووليم كاتسفليس خازنها.

ماذا يجديك قولي إن الشخروب بقعة صغيرة في سفح صنين تكثر فيها الصخور والأشجار والأشواك والعصافير، وأنت لم تعاشر، مثلما عاشرت، تلك الصخور والأشجار والأشواك والعصافير؟ لا عرفت، مثلما عرفت، أنَّها تزخر جميعها بالحياة والحركة ليل نهار؟

وكتب نعيمة سيرته “سبعون” ظناً منه أنه يقترب من الرحيل الأبدي. لكن العمر امتد به ما يقارب القرن ليرحل في عام 1988. وتكريماً له، تم تحويل الشخروب إلى معلم سياحي، ونحت النحات اللبناني عساف عساف مجسماً تكريمياً لنعيمة في الصخر، ونَحَت تَحته باباً مشقوقاً” على الحياة بحسب تعريفه، حيث دفن خلفه جثمان ميخائيل نعيمة. فصار المكان الذي أمضى فيه ناسك الشخروب نصف عمره تقريباً، نقطة جذب سياحية لمحبيه من المثقفين والأدباء وتلامذة المدارس وسط الطبيعة الساحرة، قبالتُه جبل صنين بِهَيبته العالية، يُحيط به صمت يَليق به، وأمامه ساحةٌ ذاتُ مقاعدَ للزوار يَجلسون عليها ويتأمّلون.

أضف تعليق

التعليقات