لطالما كانت للميادين أو الساحات العامة المفتوحة التي تتوسّط المُدُن التقليدية أهمية ثقافية وحيوية كبيرة. أهمية تعود إلى بدايات تشكّل المدن، ومن أقدم ما وصلنا منها يعود إلى ما قبل قرون عديدة مضت، وتحديداً عندما كان “سقراط” يَهيم على وجهه في ساحات أثينا العامة، التي كانت تُعرف وقتذاك باسم “آغورا”، متحدّثاً في شتى المجالات مع رفاقه وتلامذته ورافضي فلسفته على السواء.
مرّ الزمن ولم تفقد الميادين الرئيسة في المدن أهميتها بوصفها “قلبها النابض”، كما ظلّت تلعب دوراً ثقافياًّ وسياسياًّ واجتماعياًّ كبيراً حتى وقتنا هذا. كيف لا وقد باتت ملتقى المثقفين والشعراء والسياسيين والشباب المتحمسين والعاملين في شتى المجالات، يلتقون في مقاهيها وزواياها وعلى أرصفتها، يَعرضون قضايا وهموم وأفكار جيلهم وشؤونهم العامة؟.
جاذبية الميادين
وإذا كان الكُتّاب والمفكِّرون والأدباء من أنحاءٍ عديدة حول العالم وفي حُقب زمنية مختلفة، قد اجتمعوا على حقيقة أن المُدُن “حيّة” و”مفعمة بالحيوية”، بوصفها “كائنات حيّة مُركّبة كبيرة” تَعكس وتُشكّل شخصيات قاطنيها، فإن ميادين تلك المُدُن ما هي إلِّا قلوبها النابضة التي تضخ فيها الحياة وتوزعها عبر شرايين الطرق والأحياء على سائر أعضاء جسد المدينة.
فبرأي الناقد والكاتب الأمريكي مايكل كيميلمان، وهو المتخصّص في فنون العمارة في جريدة “نيويورك تايمز”، تكمن أهمية الميادين العامة في أنها تلعب دور “المغناطيس”، إذ تجذب الناس والأشخاص بمختلف انتماءاتهم إليها. وبخلاف المتنزهات التي عادة ما يزورها الباحثون عن عُزلة ما تزيح عن كاهلهم هموم الحياة الصاخبة في المدينة، فإن الميادين العامة تشهد اختلاط الجميع في بوتقة واحدة، رغبة في إشباع روح المشاركة والانصهار في قيم مجتمعية مشتركة.
تقبع كنيسة سان ماركو أو الكنيسة البطريركية بازيليكا القديس مرقس، بوصفها أحد أشهر كنائس مدينة البندقية ومثالاً شهيراً على عظمة العمارة البيزنطية
وقد اشتهرت ميادين كثيرة عبر العالم لأسباب كثيرة، منها الثقافي والسياسي أو الحدثي الذي تأسس على حدث كان له تأثير كبير في حياة البلاد التي يقع فيها الميدان، ومنها ساحات الكونكورد في باريس، وسان ماركو في البندقية، وترافلغار في لندن، وتايمز سكوير في نيويورك، وتيانانمين في بكين، والتحرير في مصر والساحة الحمراء في موسكو.
الكونكورد ميدان الثورة الفرنسية
لا يمكن اختزال الأهمية الثقافية لميدان الكونكورد الفرنسي في كونه فقط مقراً للاتحاد الفيدرالي للكواكب، كما تُشير روايات “ستار تراك” الشهيرة، وإنما تعود أهميته الأساسية إلى زمن الثورة الفرنسية عندما جرى تحطيم تمثال لويس الخامس عشر، وإعادة تسميته ليُصبح “ميدان الثورة”، قبل أن ينصب الثوّار فيه المقصلة التي أطاحت في عام 1793 برأسَي الملك لويس السادس عشر وزوجته ماري أنطوانيت ومئات النبلاء، وحتى كثير من الثوار الذين انقلبوا على بعضهم.
وبعد الأحداث التاريخية التي ارتبطت بميدان الكونكورد الذي صمّمه المعماري الفذّ “جاك آنج غابرييل” في عام 1755، بات هذا الميدان يمثّل اليوم قلب العاصمة الفرنسية باريس. فيحدّه من الشرق شارع الشانزليزيه ومن الغرب حديقة التويلري، كما تزيّنه التماثيل والنوافير، بينما ترتفع في منتصف الميدان مسلّة مصرية عملاقة مزيّنة عليها كتابات هيروغليفية تعود إلى حقبة الملك رمسيس الثاني، كانت حكومة الخديوي إسماعيل قد أهدتها إلى فرنسا في عام 1831، تقديراً للجهود الفرنسية في الكشف عن أسرار الحضارة المصرية القديمة.
سان ماركو.. قاعة استقبال القارة العجوز
وميدان سان ماركو هو الميدان الرئيس في مدينة البندقية الإيطالية. وتذكر كُتب التاريخ أن نابليون بونابرت قد وصفه ذات مرة بـ”قاعة استقبال أوروبا”، وهو ما يشير ضمنياًّ إلى كونه واحداً من أهم الميادين الأوروبية وأجملها، إضافة إلى أهميته المستمدة من موقع البندقية ومينائها الذي كان تاريخياً بوابة أوروبا الأولى على العالم. وتعلو في هذا الميدان أصوات السياح والزوّار الكثيرين على أصوات السيارات والحافلات. وفي الجهة الشرقية منه، تقوم كنيسة سان ماركو التي تُعد من أشهر معالم العمارة البيزنطية.
ومع الأسف الشديد، فإن ميدان سان ماركو يعدّ النقطة الأكثر انخفاضاً في المدينة، وهو ما يعني أنه أول نقطة تغمرها المياه في أثناء هطول الأمطار خلال فصل الشتاء القارس البرودة. ولكن، لا تتفوَّق بقعة في أوروبا جمالاً وصخباً وزحمة على تلك الساحة الكبيرة في الهواء الطلق، لا سيما في أوقات الصيف الصاخبة.
ترافالغار والاحتفال برأس السنة
يقع ميدان ترافالغار أو “الطرف الأغر” في قلب العاصمة البريطانية لندن، علماً بأن تسميته تعود إلى تخليد انتصار الأسطول البريطاني بقيادة الأدميرال هوراشيو نيلسون على الأسطول الفرنسي لنابليون بونابرت في معركة “رأس الطرف الأغر” قبالة السواحل الإسبانية في عام 1805. وأبرز ما في الميدان هو “سارية نيلسون” الطويلة التي يعلوها تمثال لـنيلسون الذي لقي حتفه في المعركة يقف محدقاً بلندن. وتحيط بالسارية أربعة تماثيل ضخمة منحوتة على هيئة أسد، وعدد من النوافير المميزة.
وظلّ هذا الميدان شاهداً على عديد من الحركات الاحتجاجية بما في ذلك حركة “الأحد الدامي” في عام 1887، إلا أن أبرز المظاهر الاجتماعيَّة فيه تتمثّل في كونه موضع الاحتفال الرئيس في العاصمة البريطانية برأس السنة الميلادية كل عام منذ 1947.
واشتهر الميدان بالأعداد الهائلة من طيور الحمام التي اعتاد زوّاره إطعامها بانتظام، ولكن لخطورتها على الصحة العامة، جرى حظر إطعامها منذ مطلع الألفية الجديدة.
تايمز سكوير…ليس ميداناً
ميدان التايمز أو “تايمز سكوير” هو الأشهر في مدينة نيويورك الأمريكية، علماً بأنه يقع في تقاطع شارع برودواي مع الجادة السابعة، وهو يمتلئ بشاشات الفديو ولوحات الإعلانات المضيئة والضخمة، كما جرى تسميته تيمناً بالمبنى الذي يحتوي على مكاتب جريدة نيويورك تايمز بوصفه المبنى رقم واحد في ميدان التايمز.
قد يمثّل هذا الميدان مقصداً سياحياً جذاباً أو كابوساً مزعجاً لمن يرتاده، حسب وجهة نظر كل شخص ورغباته وما يفضله في المدن. وأحياناً يتم وصفه بأنه “مفترق طرق هذا العالم،” لكونه واحداً من أكثر تقاطعات المشاة ازدحاماً في العالم، كما يُعدّ مركزاً رئيساً لصناعة الترفيه.
يزور هذا الميدان سنوياً ما يقرب الخمسين مليون شخص. ولا يعدّ ميدان التايمز ميداناً بالمعنى الهندسي المضلّع المتعارَف عليه، ولكنه أشبه بربطة العنق فراشية الشكل أو بمثلثين كبيرين.
تيانانمين ساحة البشر
تعود جذور ميدان تيانانمين الصيني إلى حقبة أسرة مينغ الحاكمة في عام 1415 بوصفه “بوابة السلام المقدّسة”. وفي أواخر الخمسينيات من القرن العشرين، قام الزعيم الصيني “ماو تسي تونغ” بتوسعة الميدان لكي يكون الأكبر في العالم. ويُحيط بالميدان بعض المباني الحكومية. ولكن لا يمكن اختزال أهميته في اتساعه فقط، إذ يتذكّره الملايين حول العالم من خلال لقطات تلفزيونية قديمة تعود إلى عام 1989، تحديداً عندما اندلعت التظاهرات في البلاد، وتمركزت في وسط الميدان.
وهناك أربعة تماثيل رخامية على شكل أسود أمام بوابة ميدان تيانانمين، كما أن الحكومة الصينية تحرص على إقامة بعض العروض العسكرية الاحتفالية فيه لمناسبات مختلفة.
ساحة الفنا: التراث اللامادي العالمي
من لم يزر مراكش في المغرب ولم يصل إلى ساحة جامع الفنا؟ فهذا المَعْلَمْ السياحي هو فضاء شعبي للفرجة والترفيه للمغاربة وللسياح الذين يقصدونه في مراكش. وهذه الساحة هي القلب النابض لمدينة مراكش حيث كانت وما زالت محجاً للزوار من كل أنحاء العالم للاستمتاع بمشاهدة عروض مشوقة لمروضي الأفاعي ورواة الأحاجي والقصص، والموسيقيين، وعارضي البضائع من مختلف الأنواع والأشكال، ويمارسون الحلقة وهي فن وحرفة يُصر المغربيون على الاستمرار في مزاولتها، حيث يقضون يومهم ينفخون المزامير، ويلاعبون الحيوانات وينشدون الأهازيج، ويقرعون الطبول خلال روايتهم لقصة أو أُحجية، كما يعرض العشابون نباتاتهم الطبيّة، ويوجد أيضاً بعض سائقي الخيول برفقة عرباتهم ينقلون السيَّاح بين أرجاء الساحة.
تضم الساحة بين جنباتها تراثاً غنياً وفريداً أسهم في إدراجها في قائمة التراث اللامادي الإنساني، التي أعلنتها منظمة اليونيسكو في العام 2001
يصف بعض المؤرخين الحَلقات الشعبيّة بأنها تعدّ أكبر خشبة مسرحيّة استعراضيّة في المملكة المغربيّة، حيث يروي الممثلون حكاياتهم بشكل عفويّ، ويجسّدونها بصورة هزليّة، ويتجمع حولهم الجمهور بشكل تلقائي، فالراوي ينقل المشاهدين إلى زمن القصة، وبعد انتهاء العرض يُلقون قطعاً نقديّة؛ تشجيعاً لراوي الحلقة ومكافأة له على العرض.
وتضم الساحة بين جنباتها تراثاً غنياً وفريداً أسهم في إدراجها في قائمة التراث اللامادي الإنساني، التي أعلنتها منظمة اليونيسكو في العام 2001.
الساحة الحمراء وأمجاد روسيا
الميدان الأحمر في العاصمة الروسية هو أول وجهة يقصدها السائحون في موسكو. ومن أشهر المباني التي تحيط به الكرملين ومتحف التاريخ الروسي، وبعض دور العبادة.
ولم يأتِ الاسم “الميدان الأحمر” مشتقاً من اللون الأحمر لطوب المباني من حوله، أو حتى من الرابط بين اللون الأحمر والشيوعية، وإنما جاء الاسم مشتقاً من الكلمة الروسية “كراسنيا” التي تشير إلى كلمة “أحمر” أو “جميل”.
وتعود جذور الميدان إلى القرن الثالث عشر، وهو ما جعل لجنة التراث العالمي في منظمة اليونيسكو تدرج الميدان الأحمر وكذلك الكرملين ضمن مواقع التراث العالمي في عام 1990، بوصفهما شاهدَيْن على أمجاد روسيا الغابرة على مدار القرون الماضية.