من مواليد عام 1976م
جازان – الخضراء الشمالية
صدر له ديوان (رُوحان)
له مشاركات تلفزيونية وإذاعية وصحافية
ولوجان خفيان؛
ولوج إلى النص، وآخرُ فيه
الأول أشبه برحلة مع الغيم، والثاني أشبه باتّقادٍ طارئ، أو ضوء فاتن يغشى العتمة. الأول مشترك بين الشعراء، والآخر لا يناله إلا البارعون فيه..
الأول سرٌّ مفضوح.. والآخر سرٌّ من الصعوبة بمكان اقتناص لحظته، مهما كانت عدسة الرؤية الشعرية لدينا.. لسبب وحيد هو أن لحظة الإفراج عن الومض أشبه ما تكون بالغيبوبة!
إن لحظة الغيبوبة تلك.. تتشكَّل من قراءات أو صور شعرية.. وقد تكون وليدة شرعية / شعرية لأبيات تأثر بها الشاعر.. ربما اقتنصها من فِلم الحياة.. أو من لوحة نصف مكتملة.. ربما كانت آتية من صوت عقيم فأنطقه الشاعر.. وقد تكون متفجرة من ضوءٍ ما خفيٍّ في ظلماتِ الذات.. لا أدري بالتحديد! حتى التفكير في سر الغيبوبة الواعية هذه.. قد يوقعني في غيبوبة أخرى لا مناص منها..!
…
وكثيرون هم الداخلون إلى دنيا الشعر .. لكن البالغين قمته قليل .. وقليل جداً..! ذلك أن البارعين في الشعر .. لا يجاوزون قنطرته إلا بعد أن يرضى عنهم أوصياء الشعر .. – وهم العارفون به من النقاد – .
وفي زوايا هؤلاء المختلفين عن غيرهم من كتّاب الشعر يحلو لنا أن نتفكَّه قطوفاً دانية .. محاولين الاقتراب أكثر إلى ذهن الشاعر .. نتلمس الإنسان داخله .. ونحوم حول حمى نفسه .. نخترع له موقفاً ونؤلف مشهداً ..
ولذا كان جديراً بشعر أولئك النخبة أن يلتصق بالذاكرة و تحفظه الألسن ..
…..
في المربد من العام 1971م أقبل رجل يرتدي جبة بدويّ.. له وجه قضى منه الجدريّ نُهمته .. عيناه مُطفئتان .. وشَعره أكثّ مُجعد .. سيماء الفقر بادية عليه ..
لاكت الألسن ذكره، واتخذوا منه تساؤلات مضحكة، وأشبعوا الليل بسيرته تخمة..
وبعد أيام.. عاد ذلك الرجل حاملاً إمارة الشعر.. وعاد أولئك النفر يمشون خلفه مطرقي الرؤوس دون أن يبصر إطراقهم..!
هو نفسه أنشد هذه الأبيات:
مثلما يبتدئ البيتُ المُقفّى
رحلةً غيميّة .. تبدو وتخفى
مثلما يلمس منقار السنا
سحراً ، أرعش جفنيهِ وأغفى
هكذا أحسو يديكِ .. أصبعاً
أصبعاً ، أطمع لو جاوزن ألفا
هذه أملى، وأطرى أختها
تلك أشهى، هذه للروح أشفى
هذه أخصب نضجاً ، إنني
ضعت بين العشر، لا أملك وصفا
وأنا أيضاً لا أملك وصفاً لما قرأت ..
غالباً تتعسر ولادات قصائد الشاعر لدى انبثاق رحم النص ، فهي كالرحلة الغيمية ، يحار حدسك في أية الغيمات يكون رزق الحياة .. تدنو الغيمات وتبعد .. تبيض وتسود ، حتى يجتاح غيثها .. ومثل ذلك النص الشعري.
وكما ( يلمس منقار السنا سحراً ) – ولنا أن نتأمل هذه الصورة المبتكرة -.. يلمسه فيصحو السحر صحواً بطيئاً مرتعشاً غير مكتمل .. ثم يعاود إغفاءته.
كالبشرى بتلك الرحلة الغيمية كان استبشار شاعرنا ورجاؤه بالظفر بيديْ فاتنته ، وكالغياب بين التصديق والتكذيب كانت دهشته باقتراب أناملها من شفاهه ليحسوها إصبعاً إصبعاً .. هكذا بكل ما أوتي من فرح ومتعة واستبطاء للحظة والحركة .. يغرق في كل أنملة من أناملها العشر .. يتذوق فتنة خالصة مختلفة في كل واحدة منها .. يصف ويصف ..ويطفح كيل خياله عن استيعاب الفتنة ، فيرتدّ البوح معترفاً بالعجز .
مثل هذا المقطع الشعري الموسيقي الراقص، من الأبيات التي لا يملك فؤادك أمامها غير الخفقان .. ويدك غير التصفيق .. وفمك غير قول : يا سلام .
.. نسيان ..
ذات مساء التقت فتاة بالشاعر بدوي الجبل.. كانا صديقين قديمين.. نادته باسمه ولم يدعها باسمها.. فأنكرت ذلك في نفسها وهمست له: أنسيت اسمي؟! أطرق قليلاً ثم قال: للأسف.. نسيته. ثم غادرا المكان بعد اكتمال اللقاء.. لكن سؤالها لم يغادر قلب شاعرنا .. فكتب إليها:
قالت نسيت اسمي ؟ فقلت لها اُعذُري
ذهب الشبابُ الغضُّ وانقطع الرجا
ذهني تَيَبَّس طينُهُ.. حتى غدتْ
تتدحرج الأسماء فيه تدحرجا
اتقد الإحساس الشفاف في نفس الشاعر فلم يطفئه إلا مُزن الشعر.. فأهدانا بيتين غاية في الجمال والرقة والاعتذار والأسى..
أتخيل ذهن الشاعر مخضراً في أدناه.. مقفراً في أقصاه.. تلهو ريح النسيان فيما تقادم منه، فلا تُبقي إلا ما استطالت جذوره في طين ذاكرته.. يتقدَّم العمر به وريح النسيان تلقف ما أمامها.. رويداً رويداً.. تتدحرج المواقف والحكايا والأسماء.. حتى تغيب في خندق النسيان!
.. سفر ..
نعود للبردوني ثانية.. ولن نرتوي من نهره الدفَّاق..
إنه يدعونا لتأمل ديوانه، باحثين عن الإنسان بكل تفاصيله وتناقضاته.. منقبين عن الدرر في جعبة رجل يبصر -وهو الشاعر الكفيف- الشجرة والجبل والوادي والمرض والفقر والغنى والجبروت والانتظار والصمت بآلاف الصور المتخيلة التي أورثته مخزوناً صُوَرياً ضخماً.. وتركت لنا شاعراً لم يكرم التأريخ بمثله إلا على رأس كل ألف عام..
في قصيدته خطرات يقول واصفاً:
فكأن النجوم .. شهقات جرحى
جَمَدت في محاجر الأفق .. تَـعْبى
النجومُ.. شهقاتُ.. جرحى.. لماذا وصف النجوم بأنها شهقات؟ ولماذا شهقات جرحى؟ ثم إنها شهقات جرحى ماذا؟ ربما أراد شهقات جرحى الحب أو الحرب أو هما معاً.. وربما لا. الأسئلة شتى تبدو وتغيب ولا جواب يشفي الغلّة كأنما تعمدت الهروب ..كما يقول:
سؤال يولّي ، سؤال يطلُّ
ومن جلدها تهرب الأجوبهْ
ثم يداهمنا سؤال آخر.. ما عُمر هذه الشهقات..؟ ومتى سافرت؟ وإلى أين؟ ولماذا؟
فأتخيل مشهد الآلاف التي لا تحصى من الناس الجرحى.. الذين غادرتهم شهقاتهم وتأوهاتهم.. فأُصاب بقشعريرة توقفني قليلاً عن الكتابة.. وحين أعود يعاودني سؤالٌ عن مصير هذه الشهقات..؟ فيشير الشاعر بأنها (جمدت) كانت سائلة فجمدت.. وأنها هناك..(في محاجر الأفق) يُلهي الأفق بالنجوم / شهقاتِ الجرحى، الناظرين عنه بها .. ولماذا الأفق وليس السماء .. لا أدري .! ربما لأن الجرحى لا تسعفهم قواهم على النهوض بأبصارهم لتنظر إلى سقف السماء .. فهي خائرة لا تجاوز الأفق .. تماماً كـ «شهقاتهم» الـ «تعبى» التي لم تجاوز قواها حدود الأفق فاعترشت به وجمدت ..! ولماذا استحالت الشهقات نجوماً ..؟ ربما لتهمس ومضاً للمحبوب -أياً كان- بأنها خالدة خلود عشقه الصادق .. ولتكون علامات يهتدى بها في ظلمات غدر الحروب وهجر المحبوب..
تظل شهقات الجرحى المتعبة وامضة في محاجر الأفق .. ووحدي أسقط إلى أرض استسلامي!
… يُتم ..
من أشد المشاعر قسوة على النفس أن تعلم أن يتيماً يجهل يُتمه..! إن عددهم بل إن عددهنّ كثير ؛ إنهن بنات الشاعر/ قصائده .. طرق هذا المعنى الفريد الشاعر عمر أبو ريشة فحكى حالة من الحزن لا تُغتفر للموت، إن الشاعر حين يتأمل مصيراً لبناته كهذا المصير يشقى، وإن كان يسليه عزاءٌ أنهن قد يكنّ أوفى من بني الإنسان في تخليده بعد موته .. فيتحدث عنها قائلاً:
تيتّمتْ وهي لا تدري، ونشوتُها
من كل عنقود ذكرى كنت تعتصرُ
لم يُبلغ الخبر الناعي مسامعَها
عن مثل هذي اليتامى، يُكتم الخبرُ!!
.. ميراث ..
يعلو صوت الموت في حنجرة أبي ريشة ، يمسك بيد المحبوبة التي قضى عمراً في الحب معها ، يوصيها بقصائده النائمة في حجرته، ربما لم يسعفه ارتحاله أو مرضه عن نشرها، وربما خبأها عنها عمداً بعد أن كتبها في خلواته، فلما أحس بدنوّ الأجل أباح عن سره.. فكتب أبياتاً يجدر بي أن أصمت دون ارتكاب تعليق عليها:
إنها حجرتي .. لقد صدئ النسيان فيها ..
وشاخ فيها السكوتُ!
أدخلي بالشموع ..
فهي من الظلمة وكرٌ في صدرها منحوتُ
وانقلي الخطوَ باتَّئادٍ فقد يجفل منك الغبار والعنكبوتُ
عند كأسي المكسور .. حزمة أوراقٍ
وعُمر في دفّتيْها شتيتُ
إِحمليها .. ماضي شبابك فيها
والفتون الذي عليه شقيتُ
إِقرئيها .. لا تحجبي الخلد عنها
أُنشريها .. لا تتركيني أموتُ
وأقف حيث شاء لي الحرف.. وفي القلم ولوع ..
حسبي كما قال أبو ريشة :
بعضُ الربيع ببعض العطر يُختصرُ .