في قرن يمتد تقريباً بين أواخر القرن التاسع عشر وأواخر القرن العشرين، تمكّن البشر من حفظ الصور باختراع الفوتوغرافيا، ومن حفظ الأصوات والأغنيات، باختراع الغراموفون وآلة التسجيل والأسطوانة، ومن تصوير الروايات التمثيلية والحوادث السياسية والثقافية العامة باختراع السينما، وأضافوا كل هذه الوسائط لخزن المحفوظات، إلى الكتب التي تطوّرت طباعتها في القرن العشرين، فتوسّعت أعمال طباعة المصحف الشريف وكتب التراث البشري، منذ إلياذة هوميروس، حتى آخر روايات أغاثا كريستي.
لكن كل هذه المحفوظات ظلّت عرضة للتلف، بتمزق الصور أو بانكسار الأسطوانات وتلف أشرطة التسجيل وتآكل ورق الكتب.
ثم جاء العصر الرقمي، ليقول لكل هذه الوسائل الحديثة: أنا البديل! إذ أخذ الكمبيوتر ووسائل الخزن الرقمي المتنوعة على عاتقها المهمة في حفظ الصور والأصوات والأفلام، على النحو الذي لا يبلى… مبدئياً.
وبات أب العائلة الذي كان في الماضي يجتهد في التقاط صورة جامعة لعائلته وفي حفظها من التلف أو الضياع، يستطيع بكبسة زر، على هاتفه الخلوي، أن يلتقط ما شاء من صور، وأن يسجّل الأحاديث أو الأصوات كما يحلو له. وباتت الكتب مصوّرة على مختلف أنواع البرامج الخاصة بتكوين المكتبات الخاصة والعامة.
إن الانتقال من برنامج إلى برنامج ومن جهاز إلى جهاز، أخذ يغتال تراثنا الموسيقي والأدبي والفني. والأمر ليس جديداً. فهواة الموسيقى الباحثون عن روائع ظهرت على أسطوانات 78 دورة في الدقيقة، لم يجدوها فيما بعد على أسطوانات 33 دورة في الدقيقة
واخترع المطوّرون في دنيا الصناعة الرقمية، مختلف الأدوات التي تمكننا من نقل ما نريد حفظه من صور وتسجيلات إلى «مخازن»، راوحت بين ما يسمّى «يو إس بي»، ذا السّعة المحدودة، وبين القرص الرقمي المسمّى «إكستيرنال هارد ديسك»، وأخذت هذه الوسائل في الانتشار وأسعارها في الانخفاض، حتى إن من الأقراص الرقمية التي تتسع اليوم لاثنين تيرابايت، ما لا يتجاوز سعره المئة دولار أمريكي. وهي قادرة على حفظ نتاج عمر من الصور والتسجيلات وغيرها من المحفوظات.
وصارت هذه الأقراص وسيلة عملية للمكتبات الشخصية، لمن يريد الاحتفاظ بما يشاء.
غير أن هذه الأقراص، معرّضة هي الأخرى للتلف أو حدوث خلل، غير قابل للإصلاح، فتضيع كل المحفوظات فيه.
«كلاود» و«ناس»
وظهر ما يسمَّى اليوم «كلاود»، أي الغيمة، وهي موقع يستقبل ممن يشاء المحفوظات التي يرغب في خزنها، واستعادتها، أو استعادة استعمالها، متى شاء، حيثما كان مع حاسوبه الشخصي. وعلى الرغم من أن إدارة «كلاود»، تؤكد أن المحفوظات فيها محميّة، غير أن نسبة من أصحاب المحفوظات، يخشون على محفوظاتهم من أن تتسرّب إلى من لا يشاؤون إطلاعهم عليها، مثل الشؤون العائلية الخاصة، أو الأسرار التجارية أو الصناعية، أو ما إليها.
ما العمل إذاً؟
ثمة من يطرح اليوم في أسواق الوسائط الرقمية، ما يسمّى «ناس» (Network Attached Storage NAS)، وهو جهاز لخزن المحفوظات، إلا أنه محدود المدى، فلا يستعمله، ولا يصل إلى مضمونه، إلا مجموعة من الناس، قد يكونون موظفين في شركة، أو مجموعة عائلية معينة. وهو يقيم شبكة اتصال مقفلة، بين أولئك المصرّح لهم دخوله، وسعته كبيرة جداً، حتى للشركات. وهو سهل الاستخدام، ويمكن الاتصال به عبر الإنترنت اللاسلكي، حتى قيل فيه إنه «كلاود خاص».
عصر الظلمات
لكن كل هذا يبدو أنه لا يكفي. فتكاثر وسائل خزن المحفوظات، ربما يؤدي إلى نتيجة معكوسة. إذ يطلق المؤرخون وخبراء المحفوظات على زمننا هذا عبارة: «عصر الظلمات الرقمي». وعبارة عصر الظلمات، تذكّرنا بفترة القرون الوسطى، التي حلّت في أعقاب انهيار الإمبراطورية الرومانية، وهو انهيار أدى إلى تراجع جذري في وسائل تدوين وتسجيل تاريخ الغرب نحواً من ألف سنة متوالية. لكن في عصر الظلمات الرقمي الذي يحذِّروننا من أننا نعيش في أيامه الآن، لا تلوموا قبائل «الفيزيقوط» أو قبائل «الفاندال» الذين كانوا وراء انهيار الإمبراطورية الرومانية. الملوم في عصر الظلمات الرقمي هو الطبيعة الهشّة السريعة الزوال التي تميّز وسائل التدوين الرقمي في يومنا هذا.
فلنتذكر كل المحفوظات التي وضعناها على أقراص «فلوبّي» (floppy)، وهي محفوظات ضاعت الآن منّا إلى الأبد. ثم توالى فيما بعد ظهور البدائل المختلفة، فمن أقراص الزمام (zip discs) إلى أقراص «سي دي روم» المدمّجة (CD-ROMs)، إلى المخازن الرقمية الخارجية، حتى وصلنا إلى عصر نخزّن فيه محفوظاتنا في «الغيمة الإلكترونية».
دع عنك كل الصور والنصوص والتسجيلات والوثائق التي ضيعتها البشرية بسبب انهيار الكمبيوترات.
إن كل انتقال من وسيلة حفظ، إلى وسيلة حفظ جديدة، شهد ضياع تريليونات لا تعدّ من الوثائق والصور والتسجيلات. ولا شك في أن المفارقة، هي أننا على الرغم من أننا ننتج من المحفوظات أكثر مما أنتجت أي حضارة سالفة بما لا يقاس، فإننا في الوقت نفسه ندمّر ما لا يُحصَى من الوثائق المهمّة، حتى إن الأجيال الآتية قد لا تجد ما تعرفه عنا وعن وجودنا على هذه الأرض يوماً.
لقد تأمل أخيراً نائب رئيس شركة «غوغل» فينت سيرف، في شأن كتاب دوريس كيرنز غودوين «فريق متنافسين: عبقرية أبراهام لنكولن السياسية»، وقال: «مثل هذا الكتاب قد لا يكون ممكناً كتابته في أشخاص يعيشون في يومنا هذا… فالمضمون الرقمي، مثل الرسائل الإلكترونية التي قد يحتاج إليها الكاتب، تبخّرت، لأن أحداً لم يحفظها، أو أنها موجودة في مكان ما، لكن لا يمكن قراءتها أو الاستفادة منها، لأنها محفوظة وفق برامج إلكترونية مضى عليها الزمن».
من أجل أن تمحو حقاً شيئاً
ما من على جهازك الإلكتروني، فعليك أن تمحوه مرة أخرى من ملف «الصور الممحاة»، ومعظم الناس لا يكلّفون أنفسهم هذا العناء
انظر إلى الصور التي حفظتها على هاتفك الخلوي. إن قلة منّا يدركون هذا، لكن البرمجة التلقائية (default settings) في الأجهزة الإلكترونية، مثل الهواتف الذكية، تقضي بحفظ الصورة أو النص أو التسجيل، لا محوها. خُذ صورة أو سجِّل فيديو، فيحفظها جهاز «أبل»، أو يرسلها للحفظ في أي مخزن من مخازن حسابك الشخصي. فإذا كنت مثل معظم الناس، فإنك تلتقط من الصور أكثر بكثير مما تمحو منها. ولكن حتى حين «تمحو» (delete) شيئاً من جهازك الإلكتروني، فإنه لا يُمحَى حقاً، بل إنه ينتقل فقط إلى ما يسمّى ملف «الصور المُمحاة» (Deleted Photos). ولكن من أجل أن تمحو حقاً شيئاً ما من جهازك الإلكتروني، فعليك أن تمحوه مرة أخرى من ملف «الصور الممحاة»، ومعظم الناس لا يكلّفون أنفسهم هذا العناء.
لذا فإن هذا العدد الهائل من الصور اليومية، كصور ولدك في حفلة المدرسة الثانوية، أو صور بطاقات سفرك، أو صور السلع التي ترغب في الحصول على مزيد منها، جميع هذه تتراكم.
وما دمنا نحجم عن محو مثل هذه المحفوظات، غير الضرورية في معظم الأحيان، يَتوقّع بعض الخبراء، أن تداهمنا أزمة سعة رقمية، بضخامة ملحمية أسطورية.
الاحتفاظ بكل شيء، أكان ضرورياً أم لا، هو ظاهرة العصر الرقمي. كانت الصور الفوتوغرافية الورقية غالية الثمن، إذا أردنا تظهيرها وطباعتها. لذا التقطنا القليل منها، ثم إننا لم نُظهّر كل ما التقطناه من صور.
المفارقة الأكثر تأثيراً، هي أننا حتى ونحن نحفظ ثلاث نسخ من تريليونات، بل زيليونات الوثائق والصور، فإننا لا نعاود مشاهدتها ومطالعتها، في معظم الحالات مرة أخرى. وهكذا تمحو «الرقمنة» الأعمال الثقافية أو الوثائق الضرورية بالجملة.
من الأفلام التي عددها بين 80 ألفاً و90 ألفاً، والتي نُسِخَت على أقراص «دي في دي» في الولايات المتحدة الأمريكية، لم تنتقل إلى الوسائل الإلكترونية المتاحة اليوم، إلا نسبة ضئيلة. سبب هذا في معظم الحالات أن الشركات مثل «نتفلكس»، لا تستطيع أو لا تريد أن تشتري حقوق هذه الأفلام، التي لها أصحاب حقوق أدبية يريدون أن يجمّدوا ما يملكون، للحصول على أموال أكثر. ونتيجة لذلك، إذا أردت أن تشاهد أفلاماً كلاسيكية، فأمَلك الوحيد هو أن تشتري قرص «دي في دي» قديماً مستعملاً، بواسطة «إيباي» (على شرط أن تكون محتفظاً بآلة تشغيل هذه الأقراص). بالطبع، عند كل انتقال إلى جهاز رقمي ذي برنامج جديد، صار كثير من الأفلام المهمة، غير متاحة لهواة الأفلام. كثير من أعظم الأفلام لم تتحوّل أبداً من صيغة الفيديو «في إتش إس» إلى أقراص «دي في دي».
إن الانتقال من برنامج إلى برنامج ومن جهاز إلى جهاز، أخذ يغتال تراثنا الموسيقي والأدبي والفني. والأمر ليس جديداً. فهواة الموسيقى الباحثون عن روائع ظهرت على أسطوانات 78 دورة في الدقيقة، لم يجدوها فيما بعد على أسطوانات 33 دورة في الدقيقة. وعند الانتقال من أسطوانة الشمع، إلى أسطوانة «سي دي»، ضاعت أطنان من الأنغام. كم من الموسيقى الضائعة فقدنا، ونحن نحب سماعها. لكن مهلاً، يبدو أن ضياع التراث مع التطور الرقمي المستمر أشد تدميراً هذه المرة، مع انتقال التسجيلات من الوسائل المادية الملموسة، إلى النطاق الأثيري الافتراضي.
صار سهلاً نسيان عددٍ كبير من الكتب التي لم تتحوّل رقمياً، لا سيما وأن الشركات مثل أمازون، تبيعك حق قراءة 600 ألف كتاب لقاء مبلغ معيَّن. في هذه المجموعة، لا نجد أسماء كتّاب كبار. فقد صدر في العالم 129 مليون كتاب، حتى سنة 2010م.
اشترك إذاً بإحدى هذه الشركات على الشبكة الدولية «الإنترنت»، وستحصل على مدخل إلى أقل من %0,5 من كتب العالم. لكن لا عليك، فسيظل في إمكانك أن تنظر إلى صور أولاد مدرسة يلعبون.
هذا إلى أن تشتري هاتفاً جديداً.