تشكِّل معارض الكتب مناسبات لاستطلاع أحوال الكتاب «بالجملة»، وهو ما تكون الصحافة الثقافية قد قامت به «بالمفرَّق» من حين إلى آخر. أزمة قراءة، أزمة تأليف، ضعف التوزيع، مسألة الحقوق.. إلخ. وعلى الرغم من الطابع السلبي الذي غالباً ما يميِّز العناوين التي تتناول حال الكتاب العربي، تبدو معارض الكتب ذات حيوية تناقض − ظاهرياً على الأقل − سوء الأحوال التي يشكو منها كثيرون. فهل هذه المعارض هي الدواء؟
على هامش معرض الكتاب الذي أقيم مؤخراً في جدة، عقدت القافلة جلسة نقاش مفتوح تناولت بعض أوجه حال الكتاب العربي وما طرأ عليه من تحولات في السنوات الأخيرة. وشارك فيها عدد من المتخصصين في صناعة الكتاب تأليفاً وطباعة ونشراً وتسويقاً، كما شارك فيها عدد من الزملاء الإعلاميين والمهتمين بشؤون الكتاب.
الغامدي: لزيارة معارض الكتب نكهة خاصة!
المجتمع الذي نتهمه اليوم بالعزوف عن القراءة، سيعود إليها وإن كان بنمط مختلف..
أدار هذه الجلسة صديق القافلة الزميل عمر المضواحي − يرحمه الله − وبكفاءته المعهودة بدأ العمل على تحرير مجرياتها، ولكن القدر لم يمهله حتى يُكمل مهمته، فاضطر فريق التحرير، وهو يغالب حزنه، أن ينوب عنه في ذلك.
بدأت الجلسة بكلمة للمضواحي أشار فيها إلى أن الحضور مدعو لمناقشة «مجموعة محاور لمناسبة عودة معرض الكتاب إلى جدة بعد توقف دام لأكثر من سنوات عشر. إذ تغيَّرت صناعة الكتاب التقليدية خلال السنوات الماضية. حيث ظهر الكتاب الرقمي والسمعي، ومعارض الكتاب نفسها تحولت إلى ما يشبه المنتجعات، تذهب إليها مع عائلتك وكأنك تقصد مكاناً للاستمتاع فيه. إذ باتت هناك فعاليات مرافقة وأمسيات وندوات فكرية وشعرية.. ووسط كل هذا هناك المنتج المُحتفى به، الذي لم يعد يقتصر على الكتاب الورقي التقليدي، فبجواره هناك أدوات إلكترونية، وعروض تحميل 10 آلاف كتاب على جهاز معيَّن.. وكل هذا بات متوفراً في معرض جدة للكتاب». ولذا، كانت البداية بتناول معارض الكتب وتقييم ما باتت تمثله اليوم.
معارض الكتاب ومتاعب تسويقية
يقول الأستاذ عبدالعزيز الغامدي، المدير التنفيذي لمطابع «السروات»: «لزيارة معارض الكتب نكهة خاصة تختلف من شخص إلى آخر، نظراً لتنوع المعروضات. ترى فيها القرَّاء يتفحصون الكتب، ويتلمسون حاجتهم إليها، كما ترى أن كل ما تحتويه هذه المعارض له من يهتم به دون الآخرين. والمجتمع الذي نتهمه اليوم بالعزوف عن القراءة، سيعود إليها وإن بنمط مختلف بفعل المنافسة والمغريات الحديثة الأخرى. فالكتاب بشكله العام وخاماته التي طُبع عليها ومحتواه العلمي أو الأدبي، يختلف تماماً عن معظم ما تعرضه الأجهزة الحديثة للقراءة».
وأضاف: «إننا عندما نخرج من قاعات المعرض، غالباً ما نكون منبهرين بما رأيناه من مظاهر الاهتمام بالكتاب على الوجوه، وتطلعها إلى امتلاك أكبر عدد منها. وهذا ما يميِّز الكتاب ومعارضه عن غيره من المعارض المختلفة. فحاجة الإنسان إلى المعرفة لا تقف عند حد».
وهنا طرح المضواحي سؤالاً حول مكمن مشكلة الكتاب العربي طالما أن معارض الكتاب تلقى مثل هذا الإقبال الكبير عليها؟
المعارض السعودية تفوقت على غيرها
والمكتبات العصرية هي الضلع الأهم و.. الأسوأ
حالت ظروف خاصة دون مشاركة الكاتب والناشر الأستاذ عادل حوشان، صاحب دار «طوى» في الندوة، غير أنه حرص على إعداد ورقته وإرسالها إلى المنتدين، ونقتطف منها ما يأتي:
«إن المكتبات هي الضلع الأهم والأسوأ في الوقت نفسه بالنسبة لصناعة الكتاب. لا أعتقد أن المكتبات العصرية التي تمثِّلها اليوم بعض الشركات التجارية، تشكِّل عنصراً ثقافياً نموذجياً. إنها النموذج التجاري الأنسب لترويج الأجهزة الذكية والإكسسوارات وأغلفة الهواتف والمصنوعات المجمَّعة.
في اعتقادي أن معارض الكتب هي النافذة الأهم. لقد تغيَّر مزاج الثقافة في الخليج خلال السنوات الخمس الأخيرة بشكل خاص، فانصرف عن المتون والتجارب الأهم في الأدب والفكر والسياسة والتاريخ إلى أحدث العلوم والفنون.
وحول صناعة الكتاب في المملكة يقول: «لقد عانت صناعة الكتاب في المملكة طويلاً من إرث المؤسسات الثقافية التي حاصرتها طويلاً بإنتاج الأندية الفاقدة للخبرة في صناعة الكتاب، ومؤسسات تجارية انساقت خلف المزاج الثقافي التقليدي، بينما تقدَّمت دول أخرى لا تتملك عمقاً اقتصادياً يوازي ما تملكه المملكة من أجل تطوير هذه الصناعة.
ولكن، خلال السنوات القليلة الماضية، كان لا بد من هجرة صناعة الكتاب إلى دول تقدِّم النموذج الأمثل في اختيار المواضيع وفي الجانب الفني والتقني للكتاب. ورغم عمرها القصير، فإن صناعة الكتاب في المملكة، التي أتت من الخارج إلى الداخل، تطورت خلال السنوات العشر الأخيرة، بحيث أصبحت المملكة محط أنظار الجميع، لما تمثله معارض الكتب فيها من حضور يفوق كل المعارض العربية وبتميِّز يشهد له معظم الناشرين».
وعن هذا السؤال أجاب الأستاذ ماهر الكيالي صاحب «المؤسسة العربية للدراسات والنشر» بقوله: «المشكلة هي في تسويق الكتاب. والتسويق ليس مهمة الناشر، الذي يجب أن يعطيه إلى جهة تتولى أمر توزيعه. لكن، مع الأسف، بات على الناشر أن يقوم بكل شيء. فنحن نقيِّم الكتاب ونطبعه ونعلن عنه.. ولذلك أصبحت المعارض وسيلتنا إلى التسويق، وهذه حالة غير موجودة في الغرب، حيث تتولى شركات التوزيع هذه المهمة باعتبار الكتاب سلعة تسويقية».
وعقَّب على موضوع التسويق السيد عطاء رسولي، المتخصص في التسويق والرئيس التنفيذي لـ «عطاء الرسالة»، قائلاً: «التسويق هو الأهم في كل المجالات، وخاصة في عالم الكتاب بوصفه سلعة. أما نحن فمشكلتنا ليست مع الناشر أو الكاتب، بل هي مع المجتمع ومفهوم القراءة لديه. ونرى أن أغلب الجهود التسويقية يجب أن تحوَّل إلى الإعلام. فبإمكان الإعلام الوصول إلى الشريحة المستهدفة. فنحن، على سبيل المثال، نستهدف الإعلاميين من خلال تويتر وإنستجرام لإيصال رسالتنا ومنتجنا إلى الشريحة التي نستهدفها بهذا الكتاب أو ذاك».
أما السيدة شيماء يماني المتخصصة في قطاع الأعمال والتسويق، فقد أضافت إلى ضعف دور الإعلام في مساعدة الناس على الوصول إلى الكتاب ومعارضه، تأخر الكتاب العربي عن اللحاق بإيقاع الحياة المتسارع في عصر المعلومات الرقمية.. ولفتت إلى أن هذا الضعف هو ما يجعل الناس تميل أكثر لتعلم اللغات الأخرى من أجل القراءة والوصول إلى المعلومات التي تهمها.
ورداً عن سؤال حول الدور الذي يلعبه ثمن الكتاب والحسومات عليه في المعارض، قال الكيالي: إن الكتب تُباع في المعارض بأسعار يمكننا أن نصفها بالتعبير العامي «بين بين»، أي متوسطة. ففي الأحوال العادية، نعطي نحن الناشرين المكتبات حسومات تصل إلى 50 في المئة من السعر على الغلاف. ولكننا في المعارض غير مضطرين إلى ذلك. لأن هناك مصاريف كبيرة تواجهنا. فنحن ندفع على سبيل المثال أربعة آلاف دولار بدل إيجار جناح مساحته 24 متراً مربعاً. وهو مبلغ كبير، تضاف إليه تكاليف السفر والشحن والإقامة وغير ذلك..
الكيالي: مشكلة في تسويق الكتاب!
بات على الناشر أن يقوم بكل شيء. فنحن نقيِّم الكتاب ونطبعه ونعلن عنه..
ولدى سؤاله حول موقفه كناشر من تكاثر المعارض، وما إذا كان يهمه أن يشارك فيها كلها، خاصة وأن المنطقة الشرقية تطالب الآن بمعرض فيها، قال الكيالي: «نحن من جهتنا نرحِّب بذلك. ولكن يجب أن يكون هناك تنظيم وتنسيق. فكثرة المعارض وتداخل بعضها بالبعض الآخر يُرهق الناشر من ناحية اختيار العناوين التي يجب أن يشارك فيها هنا أو هناك، وأيضاً التنظيم والإشراف وتجهيز الكتب وشحنها وغير ذلك».
وفي الشأن نفسه قال الباحث محمد الفضلي: من خلال رحلاتنا في البحث عن الكتب، لاحظنا أن المعارض توفر الأحدث والكتب النادرة التي لا تتوافر كلها في المكتبات حتى الكبيرة منها. فالفترة الزمنية المحددة لمعارض الكتاب، والتنافس القوي، يفرضان على الدور عرض كثير من العناوين غير تلك الرائجة في المكتبات.
وفي البحث عن الكتاب المتوافر بسهولة، قال الكاتب الصحافي حسن شعيب إنه بدأ السفر للبحث عن الكتاب قبل سنوات سبع، برحلة البحث عن الكتاب المكي، بدءاً بمعرض الكويت فالرياض ثم الشارقة والدوحة، سعياً إلى الكتاب الجديد، وغير المتوافر في المعارض المحلية. وأضاف: «هناك كتب غير مفسوحة وتباع تحت الطاولة، وكثيرون يسعون إليها.
المحتوى الجيد ليس بالضرورة هو الرائج
ولأن بعض معارض الكتاب تطالعنا أحياناً بعناوين «أكثر مبيعاً» من غيرها، ويثير ذلك جدلاً حولها، طرح المضواحي قضية محتوى الكتاب، وما إذا كانت جودته تلعب دوراً في المعرض، أو ما إذا كان المعرض قادراً على الترويج للمحتوى الجيد. وهنا كانت للناقد والباحث حسين بافقيه مداخلة قال فيها:
رسولي: التسويق يجب أن يُحوَّل إلى الإعلام!
مشكلتنا ليست مع الناشر أو الكاتب، بل هي مع المجتمع ومفهوم القراءة لديه…
«أعتقد أن الأمر معقَّد إلى حدٍّ ما. فرواج المحتوى ليس بالضرورة تقييماً للكتاب. إن تقييم الكتب مسألة صعبة للغاية. فالكتب التي تشيع ويتلقفها القرَّاء ليست بالضرورة جيدة أو متواضعة، ونضرب مثلاً على ذلك نجيب محفوظ.. كم نسخة كانت تُطبع من رواياته؟ حوالى 10 آلاف نسخة.. فهل يُعد هذا الرقم كبيراً ومعبِّراً في المحيط المصري والعربي؟ في المقابل، نجد كتباً تباع وتوزَّع ويعاد نشرها على نحو كبير. فكتاب «لا تحزن» مثلاً للشيخ عائض القرني باع ملايين النسخ. فهل هذا الكتاب قيِّم أم لا؟ من يملك حق تقييم الكتاب؟ المسألة إذاً صعبة ويجب أن يكون هناك احتراز عند التطرق إليها».
وضرب بافقيه مثلاً آخر: «نحن نعرف قيمة طه حسين، عميد الأدب العربي، الذي تشيع كتبه من الخليج إلى المحيط، لكننا نجد أن للشيخ علي الطنطاوي (قبل أن يكون شيخاً) رأياً في طه حسين، لأن هذا الأخير يبدو في نظره «يلت ويعجن وكتبه تافهة»، وطه حسين قمَّة وقيمة أدبية، فهل نصدِّقه، هل نختلف معه؟؟.. إنني أتحفظ كثيراً على وصف كتاب بأنه ذو محتوى قوي أو متوسط أو غير ذلك».
وهنا تجاوز المضواحي قضية جودة المحتوى إلى قضية عدم جماهيرية بعض الكتب بغض النظر عن الحكم على جودتها، وسأل عن الدور الذي يمكن أن تؤديه المكتبات في إنقاذ الكتب غير الجماهيرية، قائلاً: «لدينا في جدة ثلاثة آلاف مدرسة، ولو اشترت كل مدرسة نسختين، لكانت الحصيلة بيع 6 آلاف نسخة، فما بالك بباقي مدن المملكة؟ وأين دور الجهات الرسمية في إنقاذ الكتاب؟».
ربّما يا عُمر
بنفس تلك الروح المندفعة المتَدَفّقة التي طبعت مقالاته، وبنفس التفكير المنظَّم الحاسم الذي عُرِف به، أدار جلسة النقاش هذه، التي ربما هي آخر مهمَّة صحفية تولَّى عمر المضواحي إدارتها وتحريرها.
في الليلة التي سبقت صباح النبأ الحزين، كان عمر قد اعتذر عن دعوة عشاء للمشاركين في النشاط نفسه، لأنَّه وعد بتسليم المادَّة محرَّرة في الصباح!
وهكذا فإنَّ هذا الصحفي الذي يقدِّس أصول المهنة لم يحُل بينه وبين التزامه بموعد، ما كان سيسمح لنفسه بالتخلُّف عنه، إلا المنية دون سواها!
ورغم أنَّ هذا الصحفي الذي كان شديد الإصرار على أهميَّة الاحتراف في الصحافة، لم يعمل في القافلة كمنتمٍ إلا أنَّه رافقها منذ بدايات انطلاقتها الجديدة قلباً وعقلاً وروحاً، وكان شديد الحماس لشكلها ومضمونها، يتحدَّث عنهما في مجالسه بالروح نفسها التي يتحدَّث فيها عن قضايا يؤمن بها، وكان هو أوَّل من وصف القافلة ببئر أرامكو الثامنة التي لا ينضب زيتها، وذلك ربما في أوسع تغطية صحفيَّة عنها كتبها في جريدة «الشرق الأوسط» يوم كان من ألمع محرريها.
كل الصحافة السعوديَّة تفتقد روح عمر المضواحي، واحترافيته، لكن ربما يختلف افتقاد «القافلة» له عن سواها.
ربما يا عمر!
أجاب بافقيه: نظرياً، يجب أن يكون حضور الكتاب على هذا المستوى في المكتبات. لكن ما تقوله مثالي. فأن تكون في مجتمع يهتم بالثقافة؛ فإنك تحتاج إلى بلدان تجاوزت مشكلاتها. وللوصول إلى ذلك، عليك أن تكون قد حققت كثيراً من أمور التنمية السياسية والتعليمية. إن مكتبات الجامعات عندنا فقيرة، كما أن بعض المكتبات العامة هي مجرد مبانٍ. ونحن نعرف أن وزارة الثقافة تشرف على 84 مكتبة عامة سبق أن تحدثنا عنها في وسائط التواصل الاجتماعي. إن الناقد الأدبي أو الفيلسوف الروائي لا يستطيع أن ينافس خطاب الشيخ أو رجل المنبر لأسباب ثقافية. فهذا الخطيب يتوجه إلى الناس بما يمسّ حياتهم اليومية بأسلوب خفيف وقريب منهم، لا يحتاجون إلى جهد كبير لفهمه.
لذلك، من الصعب أن تبيع كتاباً في النقد الأدبي. فالنقاد يشكون من ضعف الإقبال، وكذلك الشعراء الذين صاروا ينشرون شعرهم على نفقتهم الخاصة، إلا الكبار منهم مثل محمود درويش، وغازي القصيبي – يرحمهما الله -.
وختم بافقيه كلمته بقوله: «الكتاب إذاً سلعة، وإلا ما كان هناك معرض له. إنه سلعة تغذِّي الاقتصاد ووراء هذه السلعة هناك مئات العمال ما بين المطبعة والمعرض، ممن يعتمدون على هذه السلعة لكسب عيشهم.. وبالتالي، علينا أن نتفهم إحجام الناشر مثلاً عن طباعة آلاف النسخ، لأن ما سيبيعه منها لن يوازن التكلفة».
وهنا توجه المضواحي إلى الكيالي بالسؤال: «ما هي المعايير التي تتبعونها عندما تقررون نشر كتاب؟ وما الذي يسعى إليه القارئ؟ أهو المحتوى الشيِّق أم الجيد والجدِّي؟».
فأجاب: «لا بد من أن يحمل الكتاب قيمة فكرية، جمالية، أدبية، كي نُقدم على نشره. الناشر يبحث دائماً عن الحيوية. فمن ناحية تجارية، المحتوى الشيِّق رائج أكثر من غيره بشكل عام. ولكن النموذج الذي نسعى إليه هو الكتاب الجيد والشيِّق في آن. ففي الآونة الأخيرة، على سبيل المثال، أصبحت الرواية موضع اهتمام الناشرين لأكثر من سبب. من ذلك، قدرة الرواية على التعبير عن الأوضاع الاجتماعية وتحولاتها التي هي شأن عام يهم كثيرين. وساعد تقديم الجوائز على تحفيز الرواية والروائيين».
وفي إنقاذ صناعة الكتاب، يقول حسن شعيب في هذا الشأن: يعاني الكتاب في عالمنا العربي من حالة كسادٍ في المبيعات مع قلّة القُرَّاء العرب مقارنةً بالغرب؛ حيث اتخذت صناعة الكتاب عندهم منهجاً يصنع السوق ويتحكّم فيه؛ ما أثمر انتشاراً للكتاب وازدهاراً لبورصته.. يقول أحد صنّاع الكتاب الغربيين: حين يقدِّم مؤلّفٌ نتاجه للمطبعة يكون قد انتهى من %10 فقط من صناعة كتابه، وتبقت له %90 هي تسويق الكتاب وحُسن عرضه وتعريفه للجمهور، وهو هنا أمام اتجاهين: الأول فردي يقوم هو فيه بهذه المهمَّة المُضنية، والآخر مؤسسي عبر جهات مختصة بالتسويق وهو ما تقوم به دور النشر الأجنبية.
لن تقوم صناعة الكتاب العربي إلا عبر ذيْنك الخطين في صناعة الكتاب؛ ولا تكفي جودة المحتوى وشهرة المؤلف لوصول الكتاب إلى أكبر شريحة من الناس؛ فكبار الكتّاب العرب لا تتجاوز نسخ كتبهم المطبوعة الألفين في أحسن الأحوال، بينما يطبع الغرب ملايين النسخ للكتاب الواحد!
بافقيه: رواج المحتوى ليس تقييماً للكتاب!
تقييم الكتب مسألة صعبة للغاية. فالكتب التي تشيع ويتلقفها القرَّاء ليست بالضرورة جيدة أو متواضعة..
إن أسباب ضعف هذه الصناعة الورقيَّة كثيرة، وهي ذات مناحٍ سياسيَّة واقتصاديَّة واجتماعيَّة وفكريّة؛ ولكن هناك ما يمكن معالجته إذا اتخذت السبل العلميَّة المؤسسيَّة فيه خاصةً ما يقع على عاتق دور النشر والهيئات العلميَّة التي لديها إصدارات قيمة؛ تستطيع أن تضمّ إليها متخصصين في التسويق يضعون الخطط التسويقيَّة لكل كتاب جاهزٍ للنشر، والاستفادة من مواقع التواصل الاجتماعي، ووسائل الإعلام التقليديَّة، ونجوم الإعلام والفنِّ والرياضة المؤثرين، والأحداث والمناسبات المحليَّة والإقليميَّة.
وختم شعيب مداخلته بإشارته إلى أنَّ الكتاب لم يُصنع للقراءة على الورق فقط؛ وإنَّما ليكونَ جزءاً من حياة وثقافة الناس؛ يشاهدونه في كل مكان في حياتهم اليوميَّة، يستطيعون التعرُّف والتواصل مع مؤلفه بأيسر الطرق، يتلمّسونه في لوحة فنان أو فِلم قصير أو مسرحيَّة أو حتى مقال!
المؤلفون من الجيل الجديد يسوِّقون أعمالهم بأنفسهم
قاد الحديث عن الرواية إلى التفكير بالشريحة الواسعة من الروائيين وغيرهم من المؤلفين الشبان الذين خاضوا غمار الكتابة بشكل لافت خلال السنوات الأخيرة. وفي هذا المجال قال بافقيه: «مشكلتنا أننا نتعامل مع هذه الفئة بشيء من عدم الاهتمام، رغم أن المؤلفين الشبان يمثلون ظاهرة إيجابية. فمن الجيد أن يكون الشاب مؤلفاً. ولكننا نلاحظ في الوقت نفسه أن نصفهم لا يقرأون، بل يستفيدون من الوسائط الجديدة، ولذلك صاروا يتحدثون بلغة «النت» كما في رواية «بنات الرياض». وأصبح النقد الأدبي التقليدي لا يصلح مع أعمالهم. فهؤلاء يصنعون ثقافة جديدة وبلاغة جديدة. والبلاغة عندما لا نعرفها نتفهها. ولكن حينما يكون هناك ناقد متفهم، فإنه يأتي بقيمتها وكأنها ظاهرة حقيقية لها روادها وتأثيرها».
المضواحي: الدور الذي يمكن أن تؤديه المكتبات في إنقاذ الكتب!
لدينا في جدة ثلاثة آلاف مدرسة، ولو اشترت كل مدرسة نسختين، لكانت الحصيلة بيع 6 آلاف نسخة، فما بالك بباقي مدن المملكة؟ وأين دور الجهات الرسمية في إنقاذ الكتاب؟..
وهنا كانت مداخلة للزميلة منال الحميدان قالت فيها: «عندما يتحدث بعض الكتَّاب الكبار والناشرين عن جيل الشباب، فإنهم يتحدثون وكأن هؤلاء يشكِّلون فئة واحدة. ولكن الجيل الشاب ليس موحداً في اهتماماته». وأضافت الحميدان: «إن الكاتب الشاب أصبح يسوِّق لنفسه. فهو قريب من القرَّاء، يعرف كيف يصل إلى أبناء جيله من خلال وسائط التواصل الاجتماعي، ويعرف كيف يختار دار النشر التي تسوِّق له، ويفهم في التصميم، ويمتلك الذكاء اللازم، ويتدخل في الطباعة. فترى كاتباً سوَّق لكتابه قبل أن يصدر الكتاب، وأشرف بنفسه حتى على طباعته».
شيماء: تأخر الكتاب العربي عن اللحاق بإيقاع الحياة!
هو ما يجعل الناس تميل أكثر لتعلم اللغات الأخرى من أجل القراءة والوصول إلى المعلومات التي تهمها.
حماية الملكية الفكرية لا تزال هشَّة وقابلة للاختراق
وبحضور شخصيات عاملة في مجالي النشر والطباعة، كان ولا بد من طرح مسألة «الملكية الفكرية» التي يقول كثيرون إنها واحدة من أكبر آفات صناعة الكتاب العربي، وأنها مسؤولة إلى حدٍّ كبير عن حالة الإحباط العام التي يعاني منها عدد من الكتَّاب والمؤلفين.
يقول الغامدي: «نحن نعاني كطابعين ما يعانيه المؤلفون والناشرون من اعتداءات على الحقوق الفكرية، وأرهقنا ذلك كثيراً، وأدخلنا في مساءلات قانونية. وقد كثَّفت وزارة الثقافة والإعلام في المملكة جهودها في مجال حماية الحقوق الفكرية للناشرين والمؤلفين، ووزعت تعميماتها في هذا الصدد على فروعها قبل نحو سنوات خمس، وهذا ما جعلنا نشعر بارتياح إلى وجود سلطتها على هذه المسألة. هناك كتَّاب يطبعون كتبهم في أماكن ما، ثم يأتون إلينا لتجليدها. وقد حوسبنا بسبب تزوير أحد المؤلفين لكتاب مستنسخ من إحدى المكتبات الصغيرة. إنها آفة تعاني منها معظم الدول، حتى أمريكا».
شعيب: إن الكاتب الشاب يسوِّق لنفسه!
فهو قريب من القرَّاء، يعرف كيف يصل إلى أبناء جيله من خلال وسائط التواصل الاجتماعي..
ويضيف الغامدي: «بصفتي رئيس لجنة الطباعة في الغرفة التجارية في جدة، أوصلت الرسالة إلى وزارة الثقافة. لكن في رأيي، ورغم الجهود الكبيرة في مجال مكافحة القرصنة والاعتداء على الملكيات الفكرية، لا يمكن القضاء على الاستنساخ، وذلك لسهولة توفر أدواته التي أصبحت متاحة للجميع. فبإمكانك وأنت في البيت أن تطبع كتاباً. وفي معرض جدة هناك دار نشر تستنسخ لك عن طريق أمازون. إذاً فالحماية الفكرية تحتاج إلى نشاط مكثَّف وتعاون من جميع الجهات».
وفي الشأن نفسه قال الكيالي: هناك بالفعل مشكلة. واتحاد الناشرين العرب شكَّل «لجنة حقوق الملكية الفكرية». لكن المهمة صعبة في الواقع. فالتزوير أو القرصنة آفة على الثقافة.
في المملكة، نجد أن الكتاب المقرصن لا يُباع، وهذا من إيجابيات حضور الناشرين بأنفسهم إلى المعرض، حيث تسوَّق الطبعة القانونية فقط. وفي مصر كان هناك نوع من الفوضى إلى أن أنشئت الشرطة الوقائية لحماية الحقوق الفكرية والمصنفات. ولكن، حتى الآن، نجد في معرض القاهرة للكتاب سوقاً موازية تبيع الكتب بأسعار زهيدة وتجارية، وفي هذا بالطبع تجنٍّ على الناشر والكاتب.
من معرض بيروت للكتاب
سعت «القافلة» إلى تنويع مصادر الآراء المختلفة في حال الكتاب العربي حتى أقصى حدٍّ ممكن. ولهذه الغاية استفادت من تزامن معرضي جدة وبيروت للكتاب، فاستطلعت في هذا الأخير آراء عدد من الناشرين العرب.
فحول أهمية معارض الكتب، يقول إبراهيم الجريفاني، صاحب دار «الرّمك» السعودية، إنها «تظاهرات ثقافية مهمة، تجمع حولها كل فئات المجتمع ولكنها تختلف في جوهرها عن المعارض التي تقام في عواصم العالم الغربي. هناك لا يجري بيع الكتب بل توقيع عقود بين دور النشر، وتتاح الفرصة للاطلاع على الإصدارات الجديدة، على عكس ما يحدث عندنا حيث لا يتجاوز المعرض كونه محطة لتسويق الكتب المخزَّنة في دور النشر».
وفي رأي الجريفاني أن بعض المسؤولية عن قطع الطريق بين الكتَّاب والقرَّاء يقع على عاتق دور النشر «فالأسعار ما زالت مرتفعة جداً، ويجب أن تُدرس جيداً لكي يصبح الكتاب في متناول الجميع». ويوافق على صحة هذه الملاحظة السيد قيس عقل، ممثل داري «رسلان» و«علاء الدين» من سوريا.
آراء في الأزمة وبعض أوجهها
عزوف الشبان عن الكتاب
وفيما رأى ممثل وزارة الإعلام في سلطنة عُمان السيد موسى الذهلي أن «العالم العربي لا يزال يُقبل على الكتاب ولو بنسبة أقل مما كان عليه الحال سابقاً»، أشار إلى «ضرورة دعم المساعي الحكومية وغير الحكومية التي تصبُّ في إطار التوعية لأهمية القراءة التي يمكننا من خلالها التعرف إلى ماضينا والتعلم من أخطائه».
المسؤول في «الملتقى العربي لناشري كتب الأطفال» الذي يتخذ من دولة الإمارات مركزاً له، محمود حسونة، رأى أن «جفاءً حاداً يحكم العلاقة الحالية بين العرب والكتاب».
ويؤكد صحة هذه الملاحظة المسؤول في مجلس الثقافة العام في ليبيا، محمد الشوبكي، بقوله: «لم يعد الوضع كما كان في السابق. فالشخص الذي يحمل كتاباً اليوم بات نادر الوجود. فالوزارات المعنية في الدول العربية مقصِّرة في هذا الإطار. فضلاً عن أن التطور التكنولوجي السريع والإنترنت أسهما في ابتعاد العرب ولا سيما الشباب عن قراءة الكتب واقتنائها». ويوافق الجريفاني على ما يقوله الشوبكي، مضيفاً: «إن أهم معاناة للكتاب العربي اليوم هي ابتعاد الفئة الشابة عنه».
دور الظروف السياسية والأمنية
وللأوضاع الأمنية والسياسية المضطربة ظلٌّ ثقيل على حال الكتاب وقراءته على ما يبدو. فالجريفاني يقول: «إن الظروف الجيوسياسية أثَّرت كثيراً على الناشرين العرب. حتى إن بعضهم أحجم عن المشاركة في معرض بيروت». ويوافقه في رأيه هذا مدير «دار العلوم العربية» في بيروت خالد ناصر، الذي يقول: «خففت الأوضاع الأمنية والسياسية المتأزمة في لبنان مشاركة إخواننا العرب، وترك بصمتهم التي اعتدناها كل سنة في المعرض». أما مدير «الدار العربية للموسوعات» إسماعيل الطويل، وبعد قوله «إن الإنسان العربي مشوَّش اليوم، ولا مزاج لديه للقراءة بسبب الأوضاع»، فإنه يبدي تفاؤله في أن يحصد نتائج أفضل في معرض جدة للكتاب الذي كان على وشك الافتتاح.
وإلى ما تقدَّم، يضيف المشارك في الجناح العُماني مسلَّم الزكواني أن «الإنترنت حجَّمت دور الكتاب وحضوره، والأجهزة الحديثة هي التي حلَّت بين يدي القارئ محل الكتاب».
مسألة اللغة
وعن سبب اتجاه الشباب العربي إلى القراءة بلغات أجنبية أكثر من القراءة باللغة العربية، أكد حسونة أن «الأمر لا يقتصر على القراءة فحسب، بل إن مجازر عديدة تُرتكب بحق اللغة العربية من قبل أشخاص يصفون أنفسهم بالشعراء والكتَّاب، وذلك يعود بالدرجة الأولى إلى عدم وجود رقابة حقيقية على مضمون الكتب التي تُصدر وتنشر وتوزع باللغة العربية وفي الأقطار العربية، بالإضافة إلى تراجع ثقة العرب بأنفسهم ونظرتهم إلى الغرب على أنه المتفوق دائماً ويجب علينا التحدث بلغته».
وأشار الشوبكي إلى أنه «من الضروري القراءة بلغات متعددة، إلا أنه من غير المقبول إهمال اللغة الأمّ لأن ذلك سينعكس سلباً على الأفراد أنفسهم بشكل خاص وعلى أوطانهم بشكل عام».
من جهته، اعتبر الذهلي أن «اعتماد الإنترنت وكل وسائل التواصل الاجتماعي والتطبيقات العالمية الحديثة على اللغات الأجنبية وتحديداً اللغة الإنجليزية، يُلزم في بعض الأحيان الشباب العربي تعلم تلك اللغات واعتمادها، حتى بات تأثر البعض بها سبباً كافياً لابتعادهم عن لغتهم العربية»، مشيراً إلى أن «ضعف الإنتاج العربي والرقابة عليه وعلى مضمون الكتب التي تصدر، والتي وصل بعضها إلى حد الابتذال، أسهم في ابتعاد الشباب عنها»، مؤكداً أنه «لمعالجة أزمة الابتعاد عن اللغة العربية يجب إيجاد حلول منطقية وواقعية لتلك الأسباب ومواجهتها».