هل ستنقرض وظيفة النادل قريباً؟ إذا ما قمنا بزيارة لبعض المطاعم التي بدأت تفتح أبوابها في أنحاء متعدِّدة من العالم فقد نعتقد ذلك فعلاً. ومن المطاعم الجديدة التي تعزِّز ذلك مطعم «إيستا» في سان فرانسيسكو في الولايات المتحدة الأمريكية ومطعم «باغرز» في ألمانيا وسلسلة المقاهي والمطاعم المعروفة «فيتوبنا» في جمهورية تشيكيا ومطعم «فوا مين» في اليابان وغيرها.. وكل هذه المطاعم خالية من النوادل أو ممن يتسلَّم الطلبات أو المحاسبين أو أي عنصر بشري آخر، باستثناء طاقم الطباخين الذي يعمل بعيداً عن أنظار الزبائن.
في مطعم «إيستا» يوجد خط سريع وشاشة كبيرة بلائحة المأكولات والمشروبات التي يقدِّمها المطعم مرفقة بلائحة الأسعار. وكل ما على الزبون القيام به، اختيار طلبه من خلال النقر على كمبيوتر لوحي موجود تحت الشاشة، ومن ثم الدفع بواسطة بطاقة ائتمان. وعندها يظهر الاسم المأخوذ من بطاقة الائتمان على شاشة أخرى، مرفق برقم يشير إلى النافذة التي ستصل إليها الوجبة المطلوبة. وتقع مجموعة النوافذ خلف شاشة شفافة من الكريستال السائل، وعندما تصبح الوجبة جاهزة، يتغيَّر لون الشاشة أمام النافذة ليصبح أسود داكناً. وعند النقر على الشاشة مرتين تفتح الشاشة بحيث يمكن للزبون أخذ وجبته إلى الطاولة التي يختارها.
وفي مطعم «باغرز» في نورنبرغ الألمانية، تم وصل كل طاولة من طاولات المطعم بالمطبخ بواسطة أسلاك معدنية. أما المطبخ فقد أنشىء تحت السقف مباشرة بحيث تنزلق الوجبة الجاهزة على تلك الأسلاك إلى الطاولة مباشرة. وإنما ليس قبل أن يختار الزبون طلبه باستخدام شاشة الكمبيوتر اللوحي الموجود على كل طاولة. ولأن كل الطاولات في المطعم موصولة بشبكة من أجهزة الكمبيوتر، يتم تسجيل طلبات الزبائن في المطبخ. ومن ثم يبدأ نظام الكمبيوتر باحتساب مواعيد تسليم الوجبات المحتملة ويُبقي الزبائن على علم بذلك.
مطاعم آلية منذ السبعينيات
فمهما اختلف تصميم هذه المطاعم، فإنها تؤشر إلى دخول المكننة إلى حقل المطاعم، وبقوة. وفكرة هذه المطاعم الممكننة ليست جديدة بالكامل. ففي أوائل السبعينيات من القرن الماضي كانت هناك بعض المطاعم المعروفة بالمطاعم الآلية (Automats) وقد ظهرت في الولايات المتحدة وأوروبا وعُرفت في اليابان بـ «الشوكنكي». وكانت هذه المطاعم الآلية بمنزلة تطوير لمبدأ آلات البيع الآلي (Vending machines). والمطاعم الآلية تضم جداراً من النوافذ الصغيرة تحتوي على الوجبات الطازجة وغير الطازجة مجهَّزة من قِبل طاقم بشري غير مرئي، بحيث يمكن لرواد هذه المطاعم إسقاط قطع النقود المحدَّدة في الفتحات الموجودة إلى جانب كل نافذة، ليظهر أمامهم طبق الهامبرغر أو قطعة الحلوى أو سلطة التونه المطلوبة.
التفاؤل والحذر
مهما كان ظهور المطاعم الممكننة الحديثة مبنياً على فكرة جديدة أو مجرد تطور لفكرة كانت موجودة سابقاً، إلا أنها مقدمة لمستقبل المطاعم التي استدعت ردَّات فعل من المتشائمين منها والمتفائلين بها. فبالنسبة للمتفائلين، تبدو المكننة طريقة لجعل أي مطعم أكثر فاعلية وأقل تكلفة. وبالنسبة للمتشائمين، فهي أحدث مثال عن كيفية سرقة وظائف البشر من قبل التكنولوجيا الحديثة.
يقول مايكل ماك صاحب فكرة مطعم «باغرز» الألماني، إن استخدام هذا النظام الآلي في المطعم سمح له بتوفير الآلاف من اليوروات في تكلفة الموظفين. وبأنه يفكِّر في المستقبل باستبدال طاقم الطباخين بمجموعة من الروبوتات القادرة على تحضير الوجبات بطريقة موحَّدة وأسهل مما هي عليه في الوقت الحاضر.
ويعتقد ديفيد فريدبرغ صاحب مطعم «إيستا» أن المكننة زادت الفاعلية والإنتاجية في مطعمه بالإضافة إلى تخفيض الأسعار بالنسبة للزبائن.
ومن ناحية أخرى، فإن هذه المطاعم تضع تحت المجهر أحد أهم المعتقدات حول طبيعة العمل في عصر الآلة الثاني التي تقول إنه، مع كل التقدم التكنولوجي، سيبقى هناك عديد من الوظائف في حقل الخدمات، لأننا بحاجة إلى التفاعل البشري. من المؤكد أن هناك صحة في الجزء الأول من المقولة وهناك كثير من الشكوك حول الجزء الثاني منها.
فنحن مخلوقات اجتماعية، ومهما كان الشخص يحب العزلة فإنه بمجرد خروجه من المنزل لتناول الطعام في أي مطعم، فهو يسعى إلى نوع من التفاعل البشري. على الرغم من أن هناك من يعتقد بأن النوادل يمكن أن يكونوا مصدر إزعاج عند قراءتهم للوائح الطعام الطويلة والاهتمام الزائد بالزبائن ومقاطعة الحديث الذي يدور على الطاولات للتأكد من راحتهم.
المكننة تدخل إلى قطاع الخدمات
بعد أن كان قطاع الخدمات يعتمد بالدرجة الأولى على الأيدي العاملة البشرية، بدأت التحديات التكنولوجية التي كانت تحبط مشاريع مكننتها تسقط وبسرعة. حتى إن أندرو ماكفي، أحد مؤسسي مبادرة معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا للاقتصاد الرقمي، وأحد مؤلفي كتاب «عصر الآلة الثاني»، يعبّر عن قلقه من خلال طرحه السؤال التالي: «ما هي نسبة تعاملاتنا البشرية التي ستبقى إنسانية مع تقدُّم التكنولوجيا؟».
هناك من يعتقد بأن النوادل يمكن أن يكونوا مصدر إزعاج عند قراءتهم للوائح الطعام الطويلة والاهتمام الزائد بالزبائن ومقاطعة الحديث الذي يدور على الطاولات للتأكد من راحتهم..
فقد أخذت المكننة تحوّل جميع الصناعات، وحلَّت الماكينات مكان اليد العاملة الماهرة في المصانع والوظائف المكتبية في المصارف وحتى في مكاتب المحاماة. ومع استحداث السيارات التي تُقاد ذاتياً قد يحصل الأمر نفسه مع سائقي سيارات الأجرة وسيارات الشحن. كما أنه من المتوقع أن يدخل الرجل الآلي والآلات الذكية إلى القطاع الصحي. أما ما حصل الآن فهو أن المكننة غزت قطاعات جديدة تتطلَّب يداً عاملة غير ماهرة.
لقد اختبر الصينيون تجربة وضع الطلبات في المطاعم من خلال الكمبيوتر اللوحي لمدة سنوات من أجل تخفيض تكاليف العمالة والأسعار. ففي اليابان، يخلو فندق «النانا» الذي تم افتتاحه في يوليو الماضي من العنصر البشري بالكامل، إذ حلّ الرجل الآلي محل الموظفين في كل جميع المهمات من تنظيف الغرف إلى إدارة إجراءات الوصول والمغادرة. وليس بعيداً عن سان فرانسيسكو بدأ فندق في سينفالو يعرف باسم «ألوف كوبرتينو» اختبار رجل آلي ليساعد زملاءه البشر على المهمات اليومية مثل تغيير الشراشف والمناشف وتوصيل الحاجيات إلى النزلاء. أما الآن، وقد دخلت المكننة إلى قطاع المطاعم بهذه الصورة الطاغية، فإنها أصبحت تهدِّد وظائف الطبقات الفقيرة وراحت تطرح تساؤلات حقيقية بالنسبة للمستقبل الاقتصادي لهذه الطبقات.
وبغض النظر عما إذا كانت هذه المطاعم الجديدة مؤذية للدورة الاقتصادية أم لا، فهي، من خلال تقديمها الطعام بلمسة غير شخصية بالكامل، تعزِّز ثقافة العصر الجديدة التي ترتكز على العزلة الاجتماعية وقد يكون الأمر كما قال ألبرت أينشتاين أنه أصبح من الواضح، وبشكل مخيف، أن التكنولوجيا أخذت تتجاوز إنسانيتنا.