أتت الإنترنت وغيّرت كل شيء. العمل المستقل الآن أصبح خياراً مطروحاً لخريجي الجامعات، أكثر بكثير مما كان في السابق، وتكنولوجيا التواصل التي جعلت الأمر ممكناً، فتحت الطريق أيضاً إلى العمل التجاري الحر، على نطاق آخر، أيضاً عبر مواقع الإنترنت، سواءٌ شبكات التواصل الاجتماعي الفورية مثل «الفيس بوك» و «تويتر»، أو مواقع التجارة الإلكترونية مثل «شوبفاي» وبديله العربي «متاجر».
أصبح لدى العالم أجمع، مجموعةٌ كبرى من العمّال الرّحّل، لديهم أشغالهم الخفية إذا جاز لنا القول، أمامهم شاشة الكمبيوتر الشخصي أو اللوحي، أو حتى هاتفهم الذكي. تجدهم بدلاً من أن يقضوا أيامهم للعمل من المنزل، تراهم منطلقين في رحلة للبحث عن مكان هادئ يُشعرهم بجو علاقات حميمة، لينجزوا فيه أعمالهم. لم يعد منظراً غريباً أن تدخل إلى مقهى أو مطعم لتجد ضيفاً وحيداً، منكباً على شاشته، ومعه أوراقه وملفاته، يرفع رأسه بين الحين والآخر وكأنما يتلمس دفئاً لا يجده في وحدته الموقتة، فتتنقل عيناه بين روّاد المقهى الآخرين الذين أتوا ليروّحوا عن أنفسهم مع الأصدقاء عناء اليوم الطويل في… “المكتب”.
الحل في المساحات المشتركة
أخيراً، وبنتيجة طبيعية لموجة العمّال الرّحل وحاجاتهم، ظهرت مقاهٍ من نوع آخر. مقاهٍ، إن جاز لنا تسميتها بذلك، تتخصص في تقديم الخدمات المكتبية لكل من يمتهن العمل المستقل أو الحر، وليس لديه مكتبٌ يأويه. هذه المقاهي، أو كما يسميها الأمريكان «مساحات العمل المشتركةCoworking Spaces / » عبارة عن مساحات تشبه مساحات المقاهي المعتادة، ولكن بدلاً من الطاولات التي تحيط بها الكراسي، والتركيز على الطعام والمشروبات كخدمة أساسية، تقدِّم مكاتب مصغرة لكل شخص، وقد تفصل بينها فواصل لخصوصية محدودة. يستطيع العمّال الرّحل عادةً استئجار مثل هذه المكاتب بصيغ مختلفة، منها الإيجار بالساعة، أو باليوم، بالشهر أو حتى بالسنة. ساعات العمل تختلف من مكانٍ إلى آخر، ولكن العادة جرت أن أصحاب مثل هذه المنشآت، ومنهم من قام عليها ليحل مشكلته الشخصية في العمل الحر، يعلمون جيداً طبيعة توزيع العمل لدى عملائهم، ويدركون أن أوقاتهم ليست محدودة بالساعات ما بين التاسعة صباحاً والخامسة عصراً. «جريند» مثلاً، وهو مساحة عمل مشتركة في نيويورك، يعلن عبر موقعه أنه مفتوح حتى الساعة الثانية عشرة ليلاً، ولكن إن أردتَ (الكلام موجّه للعميل) يمكنك أن تقضي فيه وقتك حتى بعد منتصف الليل.
بالإضافة إلى المكاتب الأحادية الكراسي، توفر هذه المساحات غرفةً للاجتماعات تُحجَز بالساعة، لمن يحتاج إلى لقاء عملائه في هدوء، أو لمن يود العمل على مشروعٍ ما بتركيز دون أن يختل توازنه بمرور الآخرين أو أحاديثهم. هناك أيضاً زاوية توفر خدمات الأعمال من طباعة وتصوير وتصميم وما إلى ذلك، وتتعزز كل هذه الخدمات بكافتيريا صغيرة تقدم المشروبات والأطعمة الخفيفة، ولكن أهم ما توفّره هذه المساحات، هو الإحساس بالانتماء. الانتماء إلى جماعة ما، مكانٍ ما، مجتمعٍ ما، يفهم حاجاتك بصفتك مستقلاً، يناقشك في تفاصيل عملك، يتعاطف معك في الأزمات تعاطفاً حقيقياً نابعاً من فهمه لما تمر به، لا ادعاؤه الفهم. تستطيع أن تجد نفسك (بصفة مصمم جرافيكي على سبيل المثال) بجانب مصوّر فوتوغرافي تتعاونان سويةً في مشروع مشترك من طريق عميلٍ لك أو العكس، وتستطيع أن تأخذ رأي الآخرين، ممن هم أكثر منك خبرة في مجال عملك، فيما تعمل عليه أثناء عملك، وليس بعد أن تقضي الأيام بل الشهور الطويلة في مشروع ما وحدك دون أن تجد لعملك صدىً يخبرك إن كان عليك الاستمرار فيما تفعل أو تغيير الطريق.
أول الطريق… جيلي
لا يوجد- حتى ساعة كتابة هذا المقال- أي مقهىً أو مكتب يقدِّم خدمة مساحات العمل المشتركة في المملكة على الرغم من تزايد الحاجة إلى مثل هذا النوع من الخدمات، بل وسهولة توفيرها مقارنةً بالمشاريع الأخرى. كل ما تحتاج إليه هو مساحة ما ومجموعة طاولات وكراسيّ عارية من التزيين أو التكلفة. الصور المتوافرة لمثل هذه المشاريع تختلف بين مدينة وأخرى، ولكن كثيراً منها يظهر مساحةً صغيرة للغاية، بعضها قد لا يتجاوز الخمسة والعشرين متراً مربعاً، وبعضها يحتل مساحة في مستودعات هجرها أصحابها، ولم يتطلب الأمر سوى طلاء الجدران، وشراء طاولات وكراسي رخيصة من “إيكيا” مثلاً. هنا يأتي السؤال: ماذا لو أردت أن تفتتح مشروعاً من هذا النوع في مدينتك؟
تستطيع أن تستفيد من تجارب من سبقك في هذه الرحلة، وهي كثيرة على الإنترنت. أول الدروس أو النصائح التي يقولها لك الجميع، ومفادها أن أساس مساحات العمل المشتركة هو جمع لأصحاب الاهتمامات المشتركة في العمل المستقل والحر، حتى يعرف بعضهم بعضاً، وتكون أنت ومشروعك نقطة التقاء الجميع. إن استطعت بناء مجتمع قائم على هذا الأساس، زادت فرصتك في النجاح بمشروعك. الطريق إلى ذلك، هو إقامة سلسلة من الفعاليات قبل افتتاحك لمشروعك أو ارتباطك بعقد إيجار ومصروفات له، تُسمّى هذه الفعاليات بفعاليات الـ “جيلي”، نسبةً إلى حلوى الجيلي التي تمتزج ذراتها لتصبح كياناً متماسكاً لا تعرف أوله من آخره. تقام الجيلي عادةً في إحدى قاعات المدينة التي توفر اتصالاً عالياً بالإنترنت. أنت، صاحب المشروع، تعلن إقامة هذه الفعاليات كل أسبوعين، وتدعو إليها كل من ينتهج العمل الحر أو المستقل من منزله. يأتون جماعاتٍ وأفراداً ليقضوا في المكان ثماني ساعات أو أقل، يعمل كل منهم على انفراد، بعد التعارف المبدئي، ثم تُترك العلاقات لتنشأ على مهل مرةً بعد مرة. مع مرور الوقت ستشعر أن هؤلاء الأفراد قد أضحوا عائلة واحدة، يعرف بعضهم بعضاً بعمق وتقوم بينهم أواصر الزمالة إن لم تكن الصداقة. وقتئذ فقط، ستكون مستعداً للبدء بشكلٍ جدي بافتتاح مشروعك، لأن مجتمعك جاهز وينتظر المكان الذي سينتمي إليه.
تجارب عربية
ما زالت المدن العربية تحبو في مجاراتها لحاجات العمّال الرّحل، ومازلنا نراهم موزعين بين المقاهي المملوءة بالضجيج والموسيقى، دون اعتبار لحاجتهم إلى التركيز أو الهدوء. في هذا الإطار تبرز دبي بتجربتين ناجحتين، الأولى باسم «شِلتر» أي المأوى بالعربية، وهو مساحة عمل مشتركة لكل أصحاب العمل الحر وروَّاد الأعمال، والثانية باسم “ميك بيزنس هب” وترجمة الاسم الحرفية “ملتقى صنع الأعمال”، ويقدِّم أيضاً مكاتب لرواد الأعمال وأصحاب العمل المستقل بإيجار يبدأ من 25 درهماً إماراتياً في الساعة. عدا ذلك، لا تبدو التجارب العربية واعدة، وإن كانت الموجة قادمة بقوة.
على الصعيد السعودي، هناك مؤسسات تقدِّم خدمة إيجار المكاتب، وهي خدمة مختلفة جذرياً عن خدمة المساحات المشتركة، لكنها تشابهها في الغرض النهائي، وهو توفير مساحة للعمل في هدوء. تتوجه هذه المؤسسات إلى شريحة مختلفة، وهي شريحة رجال الأعمال الذين يتنقلون من مكانٍ لآخر، ويقضون في كل مدينة مدةً تزيد على الشهر. يبدأ إيجار هذه المكاتب المفروشة من أربعة آلاف أو خمسة آلاف ريال في الشهر، وهو مبلغ لا يجده أغلب روَّاد الأعمال الشباب مناسباً لميزانياتهم المحدودة.