بعد مرور فترة طويلة على زيارتنا لغابة مدارية تعج بالحياة البرية، لا يزال السكون المطلق الذي لم نلمس له مثيلاً في السابق، هو ما يشكِّل الانطباع الأقوى حضوراً من بين جملة انطباعات حُفرت في الذاكرة. سكون يناقض الصورة الأدبية التي تنقلها إلينا الأفلام السينمائية عن الأدغال والحياة البرية فيها. والدغل الذي زرناه هو من أغنى محميات العالم بالحياة الفطرية: محمية شيتوان الوطنية في النيبال التي أدرجتها اليونيسكو قبل ثلاثين عاماً على قائمة مواقع التراث العالمي.
تقع هذه الغابة في وسط جنوب النيبال، بين سفوح جبال الهملايا والحدود مع الهند. وعلى مدى الساعات الخمس التي يتطلبها اجتياز الطريق الأفعواني المؤدي من العاصمة كاتماندو إلى شيتوا (علماً بأنه بطول 160 كيلومتراً فقط)، يتقاسم الطبيعة أخضران: أخضر فاتح في مصاطب الأرز، وأخضر داكن في الغابات الأكثر من أن تُحصى التي تمتد في أحيان كثيرة من حافة الطريق حتى قمم الجبال في الأفق.
فما الذي يميز الغابة المحمية في شيتوان عن غيرها من هذه الغابات حتى أصبحت مقصداً عالمياً للسياح؟ وربما كان الأصح أن نقول «للمغامرين».
الاستبداد والملاريا ينقذان الغابة
تاريخ هذه الغابة لا يقل إثارة عن محتواها. فهو فريد من نوعه في تاريخ الغابات في العالم، وينقسم إلى فصلين رئيسين تكاملاً في الحفاظ عليها، على الرغم من غرابة كل منهما.
يعود الفصل الأول إلى العام 1846م، عندما انتزع رئيس وزراء النيبال جانغ بهادور رانا صلاحيات الملك الذي بقي صورياً فقط، وجعل منصب رئاسة الوزراء وراثياً ضمن أفراد أسرته. وكان من أول قرارات الحكم الجديد آنذاك، إعلان منطقة شيتوان محمية للصيد الملكي فقط. ومن كبار الزوار والصيادين الذين زاروها آنذاك، ملك بريطانيا جورج الخامس الذي قصد هذه الغابة في رحلة صيد عام 1911م. ويُروى أنه قتل لوحده 39 نمراً و18 وحيد قرن خلال أحد عشر يوماً. ومع ذلك، فقد أسهم القرار باحتكار هذه الغابة للصيد الملكي في تأمين شكلٍ من الحماية لها. حماية اكتملت تاريخياً بفعل انتشار بعوض الملاريا فيها، حيث إن كل ذلك السهل لم يكن صالحاً للعيش إلا لشعب محلي يُعرف باسم «التارو»، طوَّر جينات مقاومة للملاريا. حتى أنه يقال إن هذا الوباء شكَّل سداً في وجه الجيوش التي حاولت غزو النيبال من جنوبها خلال التاريخ. وبالفعل، أبادت هذه الغابة حملات عسكرية عديدة حاولت اختراقها من الهند.
في مطلع خمسينيات القرن العشرين، تمكن الملك تريبوفان بمساعدة ثورة شعبية من الإطاحة بحكم أسرة وانا، واستعادة سلطات الأسرة المالكة. وبدأ سلسلة إصلاحات تضمنت من جملة ما تضمَّنت القضاء على الملاريا في شيتوان بهدف تأمين مساحات زراعية في شطر منها، تسهيلاً لتوطين بعض الراغبين في هجرة القرى النائية في جبال الهملايا للاستقرار في السهل الدافئ، والخصيب.
نجحت الحملة ضد الملاريا بفعل استخدام أطنان من مادة الـ «دي. دي. تي». ولكن خلال سنوات عشر فقط، تضاعف عدد سكان هذه المنطقة ثلاث مرات (ولا يزال يتضاعف حتى يومنا هذا). ولكن أعداد الحيوانات البرية راح ينخفض بشكل خطير، حتى وصل وحيد القرن الآسيوي النادر إلى شفير الانقراض (أقل من مئة رأس). فأصدرت الحكومة عام 1959م أول قانون بيئي لحماية وحيد القرن في شيتوان. وأعلنت بعد ذلك بسنوات ثلاث الغابة الواقعة في السهل محمية لهذا الحيوان. وفي العام 1973 م، أعلنت مساحة تبلغ 932 كيلومتراً مربعاً من الغابة «حديقة وطنية» باسم «حديقة شيتوان الملكية الوطنية»، وتم تكليف القوات المسلحة بحماية الحياة الفطرية. وفي العام 1996م، ألحقت بالمحمية منطقة عازلة تبلغ مساحتها نحو 750 كيلومتراً مربعاً. فعاد وحيد القرن إلى التكاثر حتى وصلت أعداده إلى أكثر من 544 رأساً في بداية القرن الحالي. وبعد إلغاء النظام الملكي، تغيَّر اسم المحمية في العام 2006م إلى «حديقة شيتوان الوطنية».
واليوم، إضافة إلى وحيد القرن الذي يبقى الجاذب الأول للزوار، تضم هذه الغابة 67 نوعاً من الثدييات تشمل: أكثر من 190 نمراً، وأربعمائة جاموس بري، وعدد من الفهود، وأربعة أنواع من الغزلان، ويجول فيها بين الحين والآخر عشرات الفيلة البرية التي تجوب المنطقة حتى الهند، والضباع والثعالب والقردة.. كما يوجد فيها 544 نوعاً من الطيور من ضمنها 22 نوعاً من الطيور المهددة بالانقراض على مستوى العالم. وفي نهري نارياني وراتبي اللذين يحدَّان المحمية شمالاً، يوجد 126 نوعاً من الأسماك وثلاثة أنواع من التماسيح اثنان منها محليان، ودلافين نهرية وحيدة من نوعها في العالم.
عند مدخل الغابة
والمداخل إلى الغابة في شيتوان عديدة. غير أن أشهرها هو من خلال قرية صغيرة تدعى «سَوْرَها». تضم من الفنادق ومكاتب خدمات السياح أكثر مما تضم من بيوت القرويين والمزارعين.
وفي هذه القرية يبدأ التماس مع الحياة البرية. فالفيلة مستخدمة للنقل إلى جانب سيارات الأجرة والدراجات الهوائية والنارية. وفور دخولنا إلى غرفتنا في الفندق لاحظنا وجود سحلية على الجدار، استنكر موظف الاستقبال احتجاجنا عليها قائلاً: «أنتم في فندق الغابة المطرية»!! والواقع أننا شاهدنا في حديقة الفندق وبجواره عدداً من الأنواع الحية يكاد يضاهي عدد ما سنراه في الغابة لاحقاً، وتتراوح ما بين فيلين يعبران الحديقة صباحاً ومساءً، ونوعين من البعوض، مروراً بالصقور والغربان وحوالي عشرة أنواع أخرى من الطيور والضفادع والحشرات القشرية الكبيرة.
رفيقي في رحلتي هذه حسام هو مهندس زراعي، يمكن لأي نبات أو حيوان أو حتى حشرة أن تثير اهتمامه. ولكنه كان يعلم أني كنت مهتماً برؤية حيوانين أكثر من أي شيء آخر: وحيد القرن والطاووس في بيئته الطبيعية. فأثمر حُسن تخطيطه عن رحلتين في اليومين التاليين.
ما تشاؤه الغابة
وليس ما تشاؤه أنت
كانت رحلتنا الأولى في هذه الغابة بسيارة «جيب» على طريق ترابي وعر يخترق الغطاء النباتي الكثيف. شاهدنا أولاً كثيراً من الطيور، وعندما ترجلنا قرب أحد المستنقعات، لفت الدليل نظرنا إلى تمساح صغير لا يزيد طوله على المتر الواحد نائماً بين الأعشاب عند حافة المستنقع. كان داكن اللون ذو فك طويل، عرفنا لاحقاً أنه من نوع «الغاريال» الذي استردته المحمية من حافة الانقراض.. وكان أجمل ما شاهدناه في تلك الرحلة عدد من الغزلان المرقطة ترعى على بُعد عشرين متراً من الطريق. لم تخف منا، ولا من صوت السيارة، بل اكتفى بعضها برفع رأسه من فوق العشب للتحديق بنا بحذر. ومن حين إلى آخر، كانت تطالعنا مراكز وحواجز للجيش (وليس للشرطة) لتؤكد جدية حماية الغابة من الصيادين والعابثين.
هذا ما شاءت الغابة أن تُطلعنا عليه مما تكتنزه، لا وحيد قرن ولا طاووس.. ولكن هل كان ذلك فعلاً السبب الذي جعلنا نشعر آنذاك بأن جولتنا تلك كانت مجرد نزهة تكاد أن تكون عادية؟
التماس الأول مع روح الغابة
أمضينا مساء ذلك اليوم في التخطيط لجولة داخل جانب آخر من الغابة سيراً على الأقدام في اليوم التالي. إذ يتطلب ذلك تسجيل أسمائنا عند الحرس ومواكبة دليل حفاظاً على السلامة. سلامتنا وسلامة الحيوانات.
قرابة منتصف الليل استيقظنا على عواء حاد من الكلاب يشق سكون الليل. عواء اختلط بأصوات حيوانية أخرى عجزنا عن تحديدها بدقة. ولما ازداد العواء حدة وصخباً خرجنا إلى شرفة الفندق حيث لاحظنا أن بعض بيوت القرية راحت تضاء.. تبدَّل العواء وصار بعضه أقرب إلى حشرجة الاحتضار.. ثمة عملية افتراس تدور في الجوار. استحال علينا معرفة طبيعتها، ولكن من شبه المؤكد أن كلباً على الأقل تعرض للقتل كما يدل عواؤه.. وتدريجاً راح السكون يخيم على القرية، حتى أصبح مطلقاً بعد دقائق.. وعندما كنا نعود إلى أسرَّتنا، كان ثمة إحساس غامض ينتابنا.. إحساس لن تتضح معالمه إلا في اليوم التالي.
وفي عمقها
في اليوم التالي اصطحبنا الدليلان المحترفان: كريشنا الخبير في الدروب والمسالك، وفيشنو الخبير في شؤون الحيوان، إلى ضفة نهر رابتي، حيث استقلينا زورقاً مصنوعاً من جذع شجرة كابوك. وفي ختام نزهة نهرية تخترق أشجار «السال» الباسقة على الضفتين ترجلنا على الضفة الجنوبية.
بدأت رحلتنا بأن ألقى علينا فيشنو توجيهات السلامة الضرورية المتمثلة أساساً بوجوب البقاء على مقربة من بعض، وكيفية التصرف إذا صادفنا وحيد القرن أو دباً أو نمراً.. وانطلقت قافلتنا الصغيرة يتقدمها كريشنا.
لفت فيشنو نظرنا أولاً إلى بعض النباتات الغريبة، مثل نبتة صغيرة تغلق أوراقها إذا مسها إنسان. وإذا بالغ في لمسها، فإن أغصانها تلتوي إلى الأسفل بسرعة.. وعندما كنا نصوِّر نباتاً متسلقاً نما بكثافة في بعض الأماكن وذا اخضرار فاتح جميل، قال: «إنها نبتة جميلة، ولكنها ليست محلية. نقلها الإنجليز إلى هنا من المكسيك لزراعتها واستخدامها للتمويه العسكري في الحرب العالمية الثانية. وهي مع الأسف نبتة ضارة، تتسلق الأشجار وتقتلها. وانتشرت بكثرة حتى وصلت إلى الهند والصين وبوتان، بحيث صار يصعب استئصالها..».
وتابعنا التوغل.. وتدريجاً صار ترقب ما يمكن أن تنطوي عليه الغابة من مفاجآت يدفعنا إلى الإقلال من الكلام.. وكلما تابعنا تقدمنا في الغابة كان السكون يصبح أثقل وطأة.. حتى أن كريشنا عندما سمع وقع أقدام ثقيلة تتجه من بعيد صوبنا، اكتفى بإشارة من يده ليأمرنا بالتوقف والترقب والتزام حافة المسلك الترابي الضيق.. ولكن ما طلع علينا من الأجمة لم يكن وحيد قرن، بل فيلاً داجناً يمتطيه رجل. أما في المرة الثانية التي أمرنا فيها الدليل بالتوقف، فقد كانت بسبب وجود وحيد قرن فعلاً.
أثارت رؤيتنا لوحيد القرن الضخم (يزن نحو ثلاثة أطنان ونصف الطن) الكثير من الكلام السريع همساً. صحيح أنه حيوان نباتي لا يأكل الإنسان، ولكنه شديد العدائية إذا اقترب أحد من نطاقه الخاص. فبقينا على مسافة عشرين متراً منه لرؤيته وتصويره من هنا أو هناك.. ومع الهمس، كان هناك كثير من الإشارات باليد كي لا نثير غضبه.
بعد نحو عشر دقائق مع هذا الحيوان شبه الأسطوري، تابعنا تقدمنا في الدغل. ازداد الغطاء النباتي تنوعاً وكثافة، حتى أن تقدم أحدنا أو تخلفه لعشرة أمتار بات يهدِّد بفقدانه. وفي بعض الأماكن كانت الرؤية تنعدم تماماً على بُعد مترين فقط. ولكن ما كان يزداد كثافة هو السكون، الذي لم يكن يقطعه شيء سوى تعليق الدليل على بعض أنواع الطيور فوق الأشجار الباسقة، ودائماً بصوت خافت. وفي هذا السكون، لم نعد نسمع حتى أصوات خطواتنا على الأرض.. بل كنا نسمع بوضوح صوت ورقة يابسة سقطت من شجرة وهي تصطدم بغيرها من الأوراق في طريقها إلى الأرض. خرق هذا السكون مرة واحدة عندما سمعنا إيقاعاً خافتاً، ولكنه ثقيلٌ يضرب الأرض من مكان بعيد، ثم يخفت بسرعة ويختفي، قال لنا الدليل إنه على الأرجح أيل أو غزال يعدو. وأضاف: «عندما نسمع صوتاً كهذا، فهذا يعني أنه لا يوجد حيوان مفترس في الجوار. لأن وجود المفترسات الكبيرة يجعل كل الحيوانات الأخرى وحتى الطيور ساكنة إلى أقصى درجة». ساكنة أكثر من هذا السكون؟
بعد نحو ساعتين من التوغل في الغابة، وصلنا إلى مكان ينفرج فيه الغطاء النباتي عن مستنقع صغير موحل، عليه آثار حوافر ضخمة: إنه المكان الذي ترده حيوانات وحيد القرن لتشرب. جلسنا للاستراحة على جذع شجرة يابس كان قد سقط أرضاً ونمَت عليه أنواع غريبة من الفطريات.
كان سكون الغابة قد أصبح في وعينا. فقررنا التزام الصمت لثلاث دقائق للاستمتاع به حتى أقصى حد ممكن. ولكن السكون لم يكن مطلقاً.. فقد كنا نسمع أصوات أنفاسنا.. وهناك، في تلك اللحظات، تلمسنا فعلاً ماهية روح الغابة.. إنها في ثنائية السكون والصوت.. إنها حيث لكل صوت خطابه المطمئن أو المثير للخوف، خطاب قد يقول بالحياة أو الموت، أو بأي شيء آخر، وبلغة غير مفهومة في الأماكن المأهولة بالإنسان.
النيبال.. حقائق تستحق التفاتة
ثمة ضبابية تشوب صورة النيبال في وجدان العامة في معظم دول العالم. ويعود ذلك إلى سببين رئيسين: أولهما جغرافي، ويتمثل في وقوع هذه البلاد بين عملاقين هما الهند والصين يقطعان عليها الاتصال البحري بالعالم. والثاني تاريخي ويتمثل في عزلتها القديمة والطويلة. إذ إنها حتى أواسط القرن العشرين لم يكن قد زارها من الأجانب غير بضعة أفراد، حتى أطلق عليها آنذاك لقب «المملكة الممنوعة»، وفيما يأتي بعض الحقائق التي تستحق الإشارة إليها:
• تبلغ مساحة النيبال نحو 147 ألف كيلو متر مربع. وتقع عند المنحدرات الجنوبية لسلسلة جبال الهملايا، بحيث تنقسم جغرافيتها إلى ثلاث مناطق هي: الجبال العالية، التلال الوسطى، والسهل الذي يشكِّل حزاماً يمتد على طول البلاد جنوبي سفوح الهملايا، ويُعرف باسم «التيراي» (Terai).
• تحتوي النيبال على عشرة مواقع صنَّفتها منظمة اليونيسكو على لائحة التراث العالمي، اثنان من هذه المواقع هما طبيعيان: محمية ساغارماتا الوطنية التي تضم قمة إيفرست (أعلى قمة في العالم)، ومحمية شيتوان الوطنية.
أما مواقع التراث الثقافي فتضم منطقة لومبيني (Lumbini) مسقط رأس بوذا، وسبعة مواقع في وادي كاتماندو الذي تبلغ مساحته نحو 500 كيلومتر مربع، وهي أعلى كثافة في العالم بمواقع التراث العالمي على مثل هذه الرقعة الضيقة.
• على الرغم من أن مساحة النيبال لا تزيد على %0.9 من مساحة اليابسة في العالم، فإنها تمتلك مخزوناً هائلاً من التنوع الحيوي، إذ من إجمالي الأنواع الموجودة في العالم، تحتوي النيبال على %3.96 من الثدييات، و%3.72 من الفراشات، و%8.9 من الطيور. وبالأرقام 185 نوعاً من الثدييات، و850 نوعاً من الطيور.
• النيبال ثاني أغنى بلد في العالم بالمياه بعد البرازيل. وفي ذلك ما يعزِّز الحياة الفطرية التي تبلغ ذروة تنوعها في «التيراي» حيث المناخ مداري حار جداً في الصيف.