عندما يجري التطرّق إبداعياً إلى عالم الصحافة والنشر؛ فإن النظرة غالباً تتناول عالماً شرساً. لا يُوفَّر فيه سلاح عن الاستخدام وبطرق غير شريفة يندى لها الجبين ويتوارى من سوء ما يرى منالتطاحن والتمزيق؛ الخيانة في أحطّ صورةٍ لها؛ الخيانة التي هي سلّم الصعود على أجساد الضحايا من الزملاء. ورواية أحمد مجدي همام “عيّاش” (دار الساقي، بيروت – 2017) لا تشذّ عن تلك الرؤية المعتادة والمتوقعة لكنها تنزّلُ في إطار خاص يمس الشخصية الرئيسة بسماتها الجسدية والنفسية، وتتصل بالمناخ الاجتماعي والوضع العام في مرحلة تاريخية- مأزومة – بانعكاساتها السياسية والاقتصادية، وبإفرازات حارقة تجعل الأثر بصمة مطبوعة عصيّة على الزوال.
عمر عيّاش “صحافي وروائي مصري” في مطالع الثلاثينيات من عمره – وعلى لسانه، بضمير المتكلم، تمضي أحداث الرواية – بجسد مترهّل يثقله الوزن الزائد وتنعدم لديه خبرة الوصال مع الجنس الآخر. ينتمي إلى عائلة عريقة في صعيد مصر كانت تتحكّم في منطقة كبيرة هناك، لكن هذه العراقة والهيمنة والدرجة العالية من بسط النفوذ كلّها انقضت قبل زمن طويل يبلغ نحو قرنين ونصف القرن، لتصبح فروع العائلة مشتتة ومنقطعة عن أيامها المجيدة. وبالمحصّلة، فإن الشاب عياش يصير “واحداً من عامة الناس، مجرّد واحد آخر في فرع عيّاش الفقير من بني همّام، كاتب مغمور وشحيح الإنتاج لا يملك من أمره إلا أن يجاري الدنيا ويلاعبها بالأوراق التي في يده” (ص 12). بهذا الحس من المقامرة ينازل الدنيا في لعبتها. غير أنه لا يرمي أوراقه في مهب الصدفة ولا يركن إلى حظّ عابر يلتقط معه فرصته دون أدنى جهد منه. لكن بأي معنى ذلك الجهد المبذول ووفق أي معيار؟
إنّ تجربته الأولى في العمل بشركة الكيماويات عند الدكتور شريف العجماوي بمرارتها وذلّها وبمرتّبها الزهيد تؤشّر إلى أن الجهد بصورته المعروفة لا يأتي بطائل، وأن هفوة واحدة تثبّته في مكانه دون تغيير في عائد الوظيفة المالي. لذلك، يرتّب من أجل أن يكون في مكانٍ آخر يناسب “أوراقه” بعد أن يفتكّ “شعرة من الخنزير” عبارة عن مكالمات دولية مكلّفة على حساب شركة العجماوي تؤمّن له العمل الصحافي في صُحف عربية ومواقع إلكترونية ثقافية بمدخول يقيه الحاجة ولو مؤقّتاً رغم المساعدات التي تصله من أخته فاطمة التي تعمل وتعيش في كاليفورنيا بأمريكا بصحبة زوجها، وأمهما التي سافرت إليها بعد وفاة الأب ليصبح عمر وحيداً في شقة العائلة – يسمّيها “الحفرة” – يواجه صعوبات الحياة بـ “تنقيط” لا يكفي لإرواء حقل حياته على الصورة التي يشتهيها.
تواتي عيّاش فرصة التحوّل عندما يُقبَل محرّرَ ديسك في مؤسسة من القطاع الخاص هي “المواطن” الصحافية، التي تدور الشكوك حول ناشرها ورئيس مجلس إدارتها ورئيس تحريرها. فالتيارات السياسية من يسارية وإسلامية تكاد تجمع على كراهيته لارتباطه بالجهات الأمنية وتماهيه بالحكومة تماماً “خلال عامين على الأكثر، كان الرجل قد امتلك الصحيفة، وترأّس مجلس إدارتها. ثم طوّر المشروع فصار هناك مجلّة وموقع إخباري، وتحوّلت الصحيفـة إلى مؤسســة صحافيــة كبرى، تُصنّف على أنها جــزء من القطــاع الخــاص، إلا أن سياستها التحريرية تتماهى تماماً مع خطاب الحكومة” (ص 62).
ويبرز في هذه المؤسسة “اللواء.. الضئيل والمهاب” – رئيس شركات خدمات أمنية – ومسؤول عن الأمن في “المواطن”، الذي يقوم بقيادة وتنسيق المؤامرات والدسائس وبثّ الرعب عبر المراقبة والتجسّس. ومن خلال مقصلة الفصل من الوظيفة المرفوعة على رقاب العاملين المتمردين في الصحيفة، الذين يُبدون في نظره شذوذاً عن خط الولاء لمالك الصحيفة وأفكاره “اللواء ورغم حجمه الصغير يبدو كدانة مدفع محشوّة بالبارود، قذيفة أطلقها القدر لتستقر في هذه المنطقة وتؤذي أكبر قدْرٍ من البشر، تحت مسمّى الحفاظ على أمن المؤسسة” (ص 166).
في هذه المباءَة الإعلامية والأمنية تتفتّح وردة الخيانة السامّة. ينتقي “اللواء” عيّاش ويختاره عيناً له؛ متلصصاً وكاتب تقارير. وأول الضحايا زميله الصحافي محمد كرم صاحب الآمال الكبيرة في الحصول على جائزة صحافية والعمل على فِلمه الوثائقي المنتظر مثل حلم. يسقط “كرم” في حصاد الخيانة الأول، ومع هذا السقوط ترتفع أسهم عيّاش فتمسّه رائحة السلطة ونفوذها، فيقفز من ضربة واحدة لا علاقة لها بالعمل الصحافي ولا بالإنجاز المعتبر أخلاقياً “من محرّر ديسك، عابراً منصب رئيس القسم وسكرتير التحرير، مستقراً في موقع مدير تحرير” ( ص 82). وعلى هذا النهج من الدناءة، تطال المؤمرات بضررها عقوبة أو فصلاً، بإشراف “اللواء”، أكثر من واحد وواحدة في الجريدة: هالة الشورى رئيسة قسم الحوادث، وعمرو راضي رئيس قسم التنفيذ، وسامح عطوة المحرّر الثقافي الذي يفتح على عيّاش تعليقاته في صالة التحرير وبعد ذلك في الفيسبوك؛ يعرّض به وبوصوليّته واستغلاليته مستدعياً شخصية “محفوظ عجب”، وهي شبيهة لعيّاش، من عملٍ روائيٍّ للصحافي المصري موسى صبري، إشارة إلى دورة زمنيّة تحمل الإسم والخسّة كل مرة. ولا أعرف هل استدعاء موسى صبري بروايته بريئاً هنا أم لا؟.. إذْ إن أنيس منصور وصفَ صبري ذات ملاسنة حادّة معه بأنه “حذاء يتّسع لكل قدم”.
ومن المفارقات أن يأتي افتضاح دور عياش ونهايته بالطريقة نفسها التي أنهت وجود عمرو راضي في الصحيفة، وقضت على صلته بزوجته الشرعية وزميلته في العمل، حيث رفع عياش في الفيسبوك، بتوجيهات من “اللواء”، صورة عقد زواجه العرفي من امرأة اسمها فاطمة عاشور. الكأس التي أذاقها لزميله، تمرّ على فمه، وبسُمّ الخيانة طافحة أيضاً. سُرقت التقارير التي يرفعها ضد زملائه من جهاز الكمبيوتر الخاص به في مكتبه بالصحيفة، والعلامات تدل أنّ من رتّب للسرقة هي حبيبته نورا جابر التي سعى لتوظيفها في الصحيفة، وهو أيضاً على بُعد يومين من إعلان الارتباط بها. وصلتْ تلك الوثائق إلى الرأي العام عبر الفيسبوك؛ ليُطاح بـ “عيّاش” مثل أي قفازٍ تنتهي مهمته. يُجبر على تقديم استقالته والاختفاء في “حفرته” – شقّته- يعاني النبذ المهني والاجتماعي.. بجروحٍ مفتوحة معنويّاً، وحسيّاً عندما عاود الجسد خيانته وأصيب بمرض الناسور؛ فأصبح مكشوفاً تمام الانكشاف؛ قيحاً يسكنه ويفيض برمزيّة تعظّم من سوء المنقلب والفضيحة.