اختار منظِّمو مؤتمر «فكر 14» هذا العام عقد ورش العمل والجلسات في مبنى جامعة الدول العربية احتفاءً بمناسبة الذكرى السبعين لقيام هذه المؤسسة العريقة.
لا بد أن الجامعة التي كُتب ميثاقها عام 1945م، ووقَّعته أغلب الدول العربية المستقلة آنذاك كانت، بمقاييس تلك الأيام، مبنًى فارهاً يطل على النيل، وتحيط به المساحات الخالية والحدائق من جميع جهاته، لكنه اليوم يفاجىء زائره بصغره وضيق إمكاناته وخاصة التقنية منها، لكن هويته المعمارية وما شهده من فصول مفصلية في السياسة والاقتصاد والأمن يبقيه حياً في ذاكرة وأذهان الجميع ويجعله رمزياً: «بيت العرب الكبير» رغم أية إخفاقات لازمت هذا البيت، أو تحديات خاضها. وقد أحسن المؤتمر بتوزيع نسخ زنكوغرافية للميثاق موشًّى بتواقيع رجالات ذلك العهد، وهو الوثيقة التي تنص مادتها الثانية على: توثيق الصلات بين الدول المشتركة فيها وتنسيق خططها السياسية تحقيقاً للتعاون بينها وصيانة لاستقلالها وسيادتها.
انعقد مؤتمر هذا العام تحت شعار قديم يتجدد، هو : «التكامل العربي: تجارب، تحديات، وآفاق» وفيما كان المتابع يتمنى أن تكون الجامعة خلال سبعينيتها الأولى قد رسَّخت أركان هذا التكامل، وأجابت عن أسئلة الهوية العربية، ووحّدت اقتصاديات الدول العربية، وارتقت ببيئتها التعليمية والعلمية، فإن ما تحقّق عربياً لم يكن بمستوى المأمول، بل إن الإخفاق الذي خالط بعض قراراتها قد أدى إلى تفكّك سياسي واقتصادي تدفع الشعوب العربية ثمنه على حساب تنميتها واستقرارها وصناعة مستقبلها.
الأجواء العربية الغائمة لم تفارق أجواء المؤتمر، ولعل هذا بعض ملامحه الشفّافة، فقد تناولت كلمة الرئيس المصري، عبدالفتاح السيسي التحديات التي يمرّ بها الوطن العربي مشيراً إلى أنها لم تعد مشكلات، بل تشكل تهديداً وجودياً مباشراً لكيانات تلك الدول ومقدّرات شعوبها، مما يتطلب ضرورة الحفاظ على وحدة التراب الوطني وتفعيل النظام الإقليمي كإطار منظّم للاتفاقيات العربية.
من جهته رأى سمو الأمير خالد الفيصل أننا نعيش حال عدم استقرار نفسي واضطراب فكري، وحتى عقائدي، وأننا نسينا المواطنة أمام ظهور التيارات الإسلامية المتطرفة، لافتاً إلى أننا أصبحنا شعوباً وحكومات نستدعي الآخرين ليتدخلوا في شؤوننا ويفرضوا علينا حلولهم.
إذا كان المؤتمر قد أصغى لكلمات القادة، فهو احتفى أيضاً بالطاقات الشابة المبدعة التي تنخرط موسمياً في ورش عمل تدريبية تعالج مسائل كثيرة بينها مهارات التواصل، واختلاف الثقافات، وتنمية بيئات العمل، وتطوير البنى التعليمية، وتعميق ثقافة الحوار والتسامح والمواطنة. وكان للروح الحيوية والخلاقة التي يتمتع بها الشباب والشابات خلال مداخلاتهم في الجلسات الرسمية والورش أو من خلال الجوائز التشجيعية التي يحصدونها دور واضح في صناعة أمل جديد يكون جناحاه العلم والمعرفة.
من بين أجمل ملامح المؤتمر إصدار التقرير السنوي للتنمية الثقافية الذي يدرس كل سنة معضلة عربية حية، ويكتب أبحاثها نخبة من المتخصصين والباحثين، بالإضافة إلى تقرير سنوي يترجم عن الفرنسية عن أحوال العالم خلال سنة مقبلة، وبضعة كتب في السياسة والاقتصاد والعلاقات الدولية.
المؤتمر ثري بأعماله وأفكاره وطموحاته، ويبقى على صنَّاع القرار تحويل تلك الأفكار إلى خطط عملية يلمسها ويتفاعل معها المواطن العربي رغم كل الأزمات التي تعصف به.