بات القيادِّيون الذين يغادرون مناصبهم اليوم يتنبَّهون إلى أهمية توثيق تجاربهم العملية الثرية وتدوينها في كُتبٍ تتعلَّم منها الأجيال الجديدة دروساً ميدانية في القيادة والتخطيط وإدارة المؤسسات، وتقدِّم لهم عبر التجارب والأمثلة الملموسة مفاتيح لصناعة المستقبل. وهكذا أصابت لجنة شباب الأعمال في غرفة الشرقية، حين استضافت معالي الوزير السابق علي النعيمي، ليتحدَّث عن حياته وكتابه وتجربته العملية الفارقة ورسائله إلى الجيل الجديد، الذي احتشد في القاعة، متطلعاً إلى أسرار هذه المسيرة الرائدة التي أعطت بلا كَلَلٍ طيلة سبعة عقود .. وما زالت. كُنَّا جميعاً ننتظر مثل هذا الكتاب، لأنَّ النفط في حياتنا لم يكن سلعةً عابرةً بل كان الطوق الذي نقل سكان المملكة من زمن إلى آخر. وحين نقرأ هذا الكتاب فإننا لا نقرأه فقط كسيرة لشخصية قيادية، ولكننا نستكشف فيه تضاريس حياتنا الاجتماعية، وفصول تاريخنا، وملامح إنسان هذه البلاد. كتاب النعيمي “من البادية إلى عالم النفط” الصادر عن دار بنغوين العريقة، هو أكثر الكتب شفافية لا عن صناعة النفط، ولكن عن الحياة الشاقَّة لأحد أبناء البدو الذي قاده شظف الحياة إلى التعلُّق بأية وظيفة تمنحه وعائلته الخبز، وأدرك أن العِلْمَ وحده هو مَنْ سيصنع أحلامه، فالتحق أولاً بمدرسة الجبل التي كانت أشبه بأكاديمية صغيرة في الظهران، ثم غادر في بعثة تعليمية إلى لبنان، ليقطف بعد ذلك شهادته الجامعية ثم يلحقها بالماجستير من جامعة ستانفورد، أعرق جامعات العالم، وفي أكثر التخصصات ضرورة لشركته ومجتمعه. إذا كان النعيمي قد عبَّر عن إعجابه وتأثره العميق بشخصيتين سبقتاه في مسيرة النفط في المملكة هما: ماكس ستاينكي وخميس بن رمثان، فربما لم يدر بخلده أنه قد جمع من هاتين الشخصيتين أشد خصالهما تميّزاً، فقد أخذ عن الأول حدسه الصائب، وكفاءته العلمية التي آمنت بوجود النفط في القيعان السحيقة، وكافح بعنادٍ للاستمرار في التنقيب والعمل حتى وصوله فعلاً إلى النتيجة المرجوة التي نعرفها، وأخذ عن الثاني “البوصلة الفطرية” التي قادت الفرق عبر الفضاء الصحراوي الهائل إلى مواقع الآبار والحقول وطبقات الصخور والرواسب، وكيفية تلمس الطريق واتخاذ القرارات الصحيحة وسط العواصف التي تحيط بهذا المنتج المحرك للعالم واقتصاده.
كان هذا الفتى القادمُ من الصحراء طموحاً ومغامراً ومنفتحاً منذ أن بدأ الدراسة في معاهد الغرب وجامعاته. فقد راح يستكشف ثقافات العالم شرقاً وغرباً وينفتح عليها، من دون أن يجعل من عاداته وتقاليده أسواراً تعيق تواصله الإنساني، ونسج صداقات سهّلت عليه أطر التفاهم والتعاون مع مَنْ يمثلون تلك الثقافات. لعل سحر هذا الكتاب الذي تنفدُ طبعاته تباعاً، هو في تطعيمه بوقائع حياتية وأحداث شخصية وآراء نقدية تجاه أحداث أو مفاوضات أو مواقف لم يغلّب فيها النعيمي لغة المجاملات أو أسلوب كتم الأسرار، بل كان جريئاً وشفِّافاً وهو المعروف بتحفّظه تجاه الإعلام. فهو يعترف أن التقلّب هو جوهر هذه السلعة العالمية التي تُسمَّى النفط، وأن البيئة التي تحتضن هذه السلعة يقلّ فيها الأصدقاء. وبعض فصول الكتاب هي كشوف لما جرى خلف الكواليس من نقاشات حامية وصدامات بينها مثلاً: رفضه تسليم أسرار حقل الغوار إلى إحدى الشركات العالمية، ووقوفه ضد استحواذ بترومين على أرامكو، وكيف واجهت الشركة ذيول الحرب التي اندلعت إثر الغزو العراقي للكويت، وتعيين من يخلُفُه على هرم أرامكو السعودية، والتصميم على غزو حقل الشيبة في الربع الخالي الذي لم يكن له قرينٌ سوى حقول الإنتاج في مجاهل سيبيريا، وبناء جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية التي تُعدّ أندر قلاع العلم والابتكار في العالم العربي.
تمنيت فقط أن تكون النسختان العربية والإنجليزية عامرتين بالهوامش التعريفية للشخصيات والمواقع والأحداث، فقارئ اليوم لا يمتلك الوقت للبحث عنها في مصادر أخرى، ولم أجد مبرّراً لبعض نواقص النسخة العربية نصاً وصوراً وعناوين، ولغياب خطة إعلامية متماسكة للترويج لكتاب استثنائي كهذا ويحمل بذور نجاحه المؤكد.