أشيقر من مدن نجد، وهي مدينة هادئة منغمسة في الهوية العربية، وغنية بطبيعتها من نفود ومزارع نخيل، وتُعد من أقدم مدن نجد وما زالت محتفظة بكثير من الآثار القديمة، وبيوتها الطينية تقاوم عوامل التعرية المتغيرة. بيئتها ملهمة وآثارها موحية لمن يمتلك إحساساً عالياً تستفزه شُقرة تربتها وحمرة جبالها. والفنان علي الرزيزاء هو ابن أشيقر هذه، إنه من وصفه أحد أساتذة الفن في إيطاليا بأنه كأس ممتلىء لو أضيفت إليه قطرة واحدة لخرجت منه دون أن تضيف إليه شيئاً.
ألقت بيئة نجد الثقافية الخصبة بظلالها على شخصية علي الرزيزاء وموهبته المبكرة، واستنطقت مكامن الإبداع في مخرجاته ومنجزاته الفنية التي صقلها بدراسته في معهد التربية الفنية في الرياض، ثم أعقبها بدبلوم من أكاديمية الفنون بروما، حتى أصبح بفنه ومعرفته وخبراته المكتسبة من الممارسة والدراسة والموهبة الفطرية كشجرة تنغرس جذورها في المدينة الساكنة به دائماً أشيقر.
يمكن القول إن الرزيزاء فنانٌ صاحب فلسفةٍ فنية حقيقية، ومشروع تشكيلي ناضج، يقوم على الاعتناء بتراث المعمار المنزلي..
عمل لصالح كثير من الجهات الحكومية والخاصة، وظهر امتداده الفني عند كثير ممن درسوا الفن على يديه، سواء في معهد التربية الفنية الذي عمل فيه معلماً لثلاثة أعوام، أو في التعليم العام بالمرحلتين المتوسطة والثانوية، أو حتى في المراكز الصيفية التي عمل بها مشرفاً على الفنون لثلاثة أعوام. وفي مساحة أوسع للإنجاز، عمل بأمانة الرياض لمدة ستة أعوام مهندساً للديكور، وأشرف على تنظيم عديد من المعارض التابعة للأمانة، وعلى إعداد وتصميم وتنفيذ معرض الرياض بين الأمس واليوم الذي قدَّم صورة مشرقة لهوية الوطن متجذرة في تاريخ نجد وتراثه الأصيل، وهو المعرض الذي جال على عديد من الدول والعواصم (لندن – باريس – القاهرة – أمريكا – كندا – إشبيليا).
بيته متحفه
وعلى الرغم مما حققه الرزيزاء من حضور في المعارض الكبيرة، إلا أنه ما زال مسكوناً بكثير من مدينته أشيقر. فقد عمل جاهداً على أن يكون كل ما يحيط بفنه معبِّراً عن تلك الرؤية الممتدة من شقرة تراب أشيقر وحمرة صخورها وجمال زخارف بيوتها الطينية وبساطتها. فبنى عالمه بنفسه بتصميم ورؤية ذاتية، حتى غدا منزله متحفاً أُعدَّ على مدار أكثر من خمسة عشر عاماً، راعى فيه الملامح النجدية والتراث المحلي بأدق تفاصيله من أبواب وشبابيك وأرضيات وأسقف وزخارف ونقوش وألوان الطلاءات والأثاث، وصولاً إلى نظم الإضاءة والتهوية، فكانت النتيجة تحفة فنية بمفردات زخرفية متحدة عميقة المدلول، مبنيةً بتكرارٍ غير ممل، وهندسية منتظمة مريحة وأنيقة بصرياً، ليصبح المنزل دار عرض تضم أكثر من خمسين عملاً فنياً من مقتنياته لأعمال عدد من الفنانين العالميين والعرب والمحليين. فقد نجح الرزيزاء في إظهار منزله على هيئة تحفة فنية معمارية أصيلة الهوية غنية بالجمال، حتى أصبح كمن يسكن في قلب لوحة تشكيلية.
مفرداته التشكيلية
تتلخص مفردات الرزيزاء في الشكل الدائري ومشتقاته من نصف دائرة وأهلّة وخطوط منحنية، كما يحضر الشكل المثلث أيضاً بمختلف مظاهره، وبتكرار يضيف إيقاعاً أصيلاً. فهو يرد الشكل الدائري إلى قرص الشمس، والمثلث إلى جذوع النخيل التي تشي بعمق وتغلغل الهوية الطبيعية لمدينته أشيقر التي أصبحت حاضرة في داخله. ويأتي الحضور اللوني في أعماله بومضات من لون الأرض وشقرتها، وألوان الرمال المتدرجة في البُنّي.. وإليها أضاف وحدات زخرفية عاشها وتشربها من خلال الأبواب العتيقة والشبابيك التي تشق باستطالةٍ صمتَ جدران العمارة النجدية.
فالرزيزاء فنانٌ صاحب فلسفةٍ حقيقية، ومشروعٍ تشكيلي ناضج، يقوم على الاعتناء بتراث المعمار المنزلي. هذا التراث هو موضوعه الكبير الذي يجسِّد من خلاله مشروعاً متجدداً في لوحات مسندية، ومجسمات ميدانية، وديكورات منزلية، فكان إبداعاً ناطقاً بكل قيم الجمال في متحفه المنزلِ ومنزله المتحف. فقد انطلق الفنان بإبداعه وفلسفته من عطر الأرض وشموخ النخيل وتفاصيل حياة ابن نجد، فلامس قرص الشمس بإبداعه وملأ محيطه فناً أصيل الهوية عميق الجذور، تجاوز به الحدود المكانية والزمانية، وسجل حضوره العالمي بمنجز أصيل.