مضى زمن طويل على ثقافتنا وفنوننا وهي تعيش على هامش الحياة الاجتماعية. وقد تشرذم صُنَّاع هذه الثقافة والفنون ليصبحوا روَّاد أندية أدبية وصالونات ثقافية وجمعيات فنية لا يرتادها سوى فئات قليلة من القُرَّاء والمهتمين، وليست لها أجنحة تتواصل عبرها مع المتلقِّي العام حواراً وتأثيراً ونقاشاً معرفياً. حتى إنَّ الكتب التي يصدرها جلّ الأندية الأدبية لا تخضع للمقاييس المعمول بها في سوق النشر من حيث الجودة والفرادة والكفاءة. ولذا، لم يكن مفاجئاً أن تتكدَّس الإصدارات في المخازن ويكسوها الغبار، وهذا ما دفع بأسماء كثيرة إلى طبع نتاجها خارج البلاد، بحثاً عن دور نشر متميِّزة تحترم تلك الأعمال وتسوِّقها بشكل احترافي، وتقدِّمها إلى سباق الجوائز الأدبية الرفيعة.
وعلى الجانب الآخر، كانت فنوننا شبه معطَّلة. فلا دور للمسرح ولا صالات للعروض السينمائية أو لفنون التشكيل والنحت، ولا موطئ قدم للموسيقى والغناء، سواء من نجوم الفن في بلادنا أو من فناني العالَمْ. ولكل هذه الأسباب لم تنشأ علاقة وطيدة وديناميكية بين فئات المجتمع وأجياله المتتابعة وبين مبدعي الوطن ورموزه في حقول الفن والثقافة المتعدِّدة والخصبة.
إزاء ذلك، وبالتفاتة إلى شعوب العالَم، بل وحتى الشعوب القريبة منا، نكتشف كم أثّرت الفنون والآداب في وعي الناس ومداركهم ورؤيتهم لمتغيرات الزمن الذي يعيشون فيه، وكم فتحت لهم نوافذ واسعة على ثقافات الأمم الأخرى وابتكاراته وجهوده المعرفية والعلمية فتأثروا بتلك الثقافات وأثروا فيها. فنحن نعرف – على سبيل المثال – أن رموز الفكر والفن في مصر ولبنان والمغرب وفي الكويت أيضاً يملكون حضوراً معنوياً لدى مواطنيهم ومواطني الدول الأخرى. وبعض تلك الرموز شارفت العالمية مع ما تعنيه تلك الصفة من نشر لسمعة تلك البلدان وتوسيع لدائرة تأثيرها وتخالطها مع الثقافات الأجنبية. ولا ضير في أن نكرِّر هنا أن دولاً يتم تعريفها بأسماء رموزها الكبار فهناك بريطانيا شكسبير، وفرنسا فولتير وهيجو، والنمسا موزارت وبتهوفن، وروسيا ديستوفسكي وغوغول وتشيخوف، وأمريكا هيمنجواي ووليم فوكنر، وبيننا لبنان فيروز وأمين معلوف، ومصر طه حسين وأم كلثوم ونجيب محفوظ… والقائمة تطول.
إن الاعتقاد بأن الأوطان تنمو فقط بمقدراتها الاقتصادية ومواردها المختلفة وبمنجزاتها التقنية ومشاريعها الجبَّارة دون أجنحتها الثقافية والفنية والإبداعية هو اعتقاد غير دقيق، فهذه القوى الناعمة وربما المخملية هي التعبير العميق عن روح أي شعب وهويته. كما تحتضن رؤاها الاجتماعية وتقاليدها وحياتها اليومية. وحين تُزرع هذه الفنون في وجدان الناس ونفوسهم فإنها ترتقي بأفكارهم وتخرجهم من حياة العزلة وتمنحهم القدرة على التعبير عن مشاعرهم وتحررهم من دوائر العنف والقسوة التي تحيط بهم.
وهكذا تشكّل ولادة هيئتي الثقافة والترفيه ضمن “رؤية المملكة 2030” أملاً كبيراً في إعادة رسم خريطتنا الثقافية. وفيما تشرعان في استضافة الفرق الموسيقية والمسرحية والأوبرالية والكوميدية من أطراف العالَمِ لتقديم منتجاتها الراقية في مراكزنا الثقافية، فإن الأهم من ذلك هو صنع المحتوى المحلي من ثقافتنا وفنوننا وتراثنا التاريخي والأثري، وهذا لن يكتمل من دون تأسيس منظومة متكاملة من المؤسسات والمعاهد المتخصِّصة في حقول المسرح والسينما والموسيقى وفنون التشكيل والعمارة والتصميم، وأن تشيّد وفقاً لمواصفات عالمية. فبهذه الطريقة ندخل عصراً ثقافياً جديداً يمنح الأجيال الجديدة بُعداً فكرياً متميِّزاً يمكّنها من تقديم أعمال إبداعية انتظرناها لعقود.