عين وعدسة

رحلة إلى حافّة العالم

«هل تخوض سباق ماراثون في القطب المتجمّد الجنوبي؟ لا بد أنك فقدتَ صوابك».
ذلك هو ردّ الفعل الذي كان يقابل غالباً موظف خدمات الاستكشاف في أرامكو السعودية، نصير محمّد فقير، حين كان يتحدّث عن نيّته أن يركض الماراثون في القطب المتجمّد الجنوبي.
وهو في الواقع لم يجد أن ردّ الفعل هذا غير منطقي، فالقطب الجنوبي هو الأشد برداً ورياحاً وجفافاً وارتفاعاً، بين القارات في الكرة الأرضيّة. وقد سُجِّلَت فيه أدنى درجة حرارة موثّقة على الإطلاق (89 درجة مئويّة تحت الصفر)، أما ارتفاع الأرض فيه فمعدّله 2500 متر، فيما يبلغ معدّل تساقط الأمطار نحو 200 ملمتر في السنة. وقد بلغت أعلى سرعة للرياح فيه 327 كيلومتراً في الساعة.

القطب الجنوبي معزول تماماً، وليس ثمة رحلات جويّة تجاريّة إليه، وأما أقصر الممرّات البحريّة بالباخرة إليه، فهو من أقصى جنوب القارّة الأمريكيّة، عبر ممرّ «دريك» الخطر، حيث يمكن أن يبلغ ارتفاع الموج 30 متراً. وهو يُعدّ أخطر المناطق للإبحار في العالم، فقد غرق فيه أكثر من 20 ألف بحّار. فما الذي يحفِّز إذاً على تجشّم عناء السفر كل هذه الطريق إلى القطب الجنوبي، من أجل ركض الماراثون؟ لقد صارت الرحلة حقيقة واقعة، بمجرّد الصدفة، لا بتخطيط سابق.

بديلاً من «السكواش»
بدأ نصير محمّد فقير هواية الركض منذ سنوات سبع، بديلاً عن هواية «السكواش»، وانضم إلى نادي العدّائين في الظهران. وفي سنة 2010م، ركض في أول ماراثون له في دبي. ومسافة الماراثون المعروفة هي 42.2 كيلومتراً، أي 26.2 ميل. وتطلّع لاحقاً إلى المشاركة في ماراثون لندن، وهو من أشهر السباقات المعروفة. والمشاركة بماراثون لندن تكون بالقُرعة حقيقةً، إذ يطلب الاشتراك 125 ألف عدّاء، فلا تتاح المشاركة إلَّا لـ 17 ألفاً. ولذا، وجد سبيلاً آخر للمشاركة، وهو الاستعانة بوكالة سفر لها أماكن محجوزة لزبائنها في السباق. وتدير إحدى هذه الوكالات «نادي القارات السبع»، الذي يسعى أعضاؤه بشدّة إلى الاشتراك في سباقات الماراثون، أو نصف الماراثون، على كل من القارات السبع. ووقّع نصير طلباً للاشتراك، وبعد بضعة أشهر كان يشارك في ماراثون لندن.

بعد إنهائه ماراثون طوكيو في سنة 2014م، وقبله سباقا ماراثون في أوروبا وشمال أمريكا، بدأت تخطر لنصير جدّياً، فكرة إكمال سباقات القارّات السبع. لكن فرص الاشتراك في سباق القارّة الجنوبيّة كانت قد نفِدت حتى سنة 2018م. فوُضعت الفكرة على الرف. غير أنه في يونيو 2015م، تلقّى رسالة إلكترونية من وكالة السفر، تشير إلى أن بعض المشاركين ألغوا مشاركتهم في سنة 2016م في القطب الجنوبي، وأن المشاركة متاحة لعدد من العدّائين. ولما كانت لائحة الانتظار طويلة، فقد استبدَّت الحماسة بنصير لهذه الفرصة المتاحة.

الاستعداد لرحلة لا تُصدَّق
كانت ظروف الاستعداد للرحلة إلى القطب الجنوبي في الظهران بعيدة عن الكمال. فالمناخ هنا على النقيض، وحتى طبيعة الأرض شديدة الاختلاف. ولذا ركّز نصير على تعزيز قدراته الجسدية، وشارك في سباقي ماراثون برلين ودبي، وحقّق أفضل النتائج الشخصيّة له في كليهما.

إن المناخ الشديد البرودة في القطب الجنوبي، يقتضي ملابس مناسبة، وهذا أمر ضروري. فللدفء والحماية من البرد، لا بد من ثلاث طبقات من الثياب، تبدأ من أعلى الجسم، بما في ذلك ثياب داخليّة من القماش المجدول، وثياب متوسّطة تبثّ الدفء، وثياب خارجيّة تحمي من الريح والثلج.

ولما كانت السيقان تُنتجان الحرارة، فهما لا تحتاجان إلَّا إلى طبقتين من الثياب. ومع هذا، لا بد من زوجَي جوارب، وقفّازات صامدة للمياه، وملفح للعنق، وقبّعة.

الترنّح في دريك
سافر نصير وزوجته جميلة أولاً إلى هلسنكي، فنلندا، قبل أن يطيرا إلى الأرجنتين. وفيما قد يبدو هذا قليل الإيحاء بالآتي، إلا أن السفر أتاح لنصير أن يختبر استعداده وعدّته في ظروف تشبه يوم السباق.

وبعد الالتقاء ببقية المتسابقين في بوينس أيرس، استقلَّ نصير وزوجته الطائرة إلى أوشوايا، أبعد مدن الكرة الأرضية إلى الجنوب. ومن هناك أبحرا عبر ممر دريك. كان الإبحار سلساً عبر قناة بيغل، وحتى عندما وصلت الباخرة إلى ممر دريك، فالباخرة كانت تعلو وتهبط بلطف، حتى إن هذا الأمر استحق لهذه المرحلة تسميتها: بحيرة دريك.

غير أن بحيرة دريك هذه سرعان ما تحوّلت إلى زلزال دريك. فقد اشتدت الريح، وأخذت الأمواج تعلو، وبدأت الباخرة تعلو معها وتميل بقوّة، عمودياً وجانبياً. وفي الليل، قوي الترنّح هذا، إلى درجة أن الأشياء غير الثابتة بدأت تسقط على الأرض.

تتذكّر جميلة الرحلة جيداً: «كنا نستيقظ على صوت سقوط الأشياء. وحين كنا نضيء المصباح، كنا نرى أن كل أغراضنا مبعثرة على أرض الغرفة، وحتى الكرسي قد انقلب». وبعد إبحار يومين، وصلت الباخرة إلى جزيرة الملك جورج، موقع سباق الماراثون.

بداية مثلجة
حلّ يوم السباق الذي شهد سقوط بعض الثلج. وانتقل المتسابقون في قوارب مطاطية إلى شاطئ المكان المطلوب، بعدما ارتدوا ملابس السباق، وبدأوا يعدون.

كانت البداية مثلجة حقاً. فعند أول منحنى، داس نصير في بقعة ماء مثلج، ودخل منها بعض الماء في حذائه. وهو يقول: «لم تكن هذه هي البداية التي أردتُها في سباق الماراثون».

كان السباق من ست مراحل، ويتضمَّن اجتياز عدد من التلال، والمرور بالقرب من قاعدة صينيّة علمية، تسمّى «السور العظيم». وبدءاً بالمرحلة الثانية، راحت الأمور تتحسّن.

وصل نصير إلى منتصف مسافة الماراثون، في ساعتين ونيّف. وقال: «أذكر حين كنت أفكّر بيني وبين نفسي، أنني ربما أُنهي المسافة في أربع ساعات». لكن هذا لم يحدث تماماً كما احتسب.

«كانت رحلة من العمر. إننا نشعر بكثير من التواضع أمام هذه التجربة، ونقدّر كثيراً الدعم الذي تلقّيناه».

اشتدت الريح، وتخطّت سرعتها 60 كيلومتراً في الساعة، قاذفة الثلج في وجوه العدّائين. وتحوّل جزء من مسار الرّكض إلى طين جليدي، زلق جداً. وفي المرحلة الخامسة، تخدّرت يدا نصير من شدّة البرد، وفقد الإحساس بأصابعه.

عند هذا، تذكّر ما قاله له الناس عن الظروف القاسية، فقال في نفسه إن الأمر كان ضرباً من الجنون فعلاً. وقاوم نصير للبقاء مع الرتل الذي أمامه، وهو يعلم أنه ما إن يصل إلى السور العظيم، حتى تصبح الأمور أسهل كثيراً.

في طريق العودة، لاحظ عجل بحر يحاول أن يجتاز المسار، فكانت تلك تسلية ممتعة. لكن في المرحلة الختاميّة، كانت الريح لاذعة للغاية، وجعلت متابعة العدو صعبة جداً. ومع هذا تمالك نصير نفسه واستجمع قواه، ليصل إلى خط النهاية، حيث كانت جميلة تنتظره، مع ابتسامة واسعة على وجهها. وسجّل نصير محمّد فقير وقتاً بلغ خمس ساعات وثلاث دقائق. وبعد ثلاثين دقيقة فقط، أُجبِرَ المنظِّمون على وقف السباق، حين ساء الطقس، إلى درجة أنه بات يهدِّد سلامة العدّائين.

فرصة فريدة
تحكم القطب الجنوبي معاهدة عام 1959م، التي تنصّ على أن أراضي القطب هي قبل كل شيء للأغراض العلميّة. وليس من بنية تحتيّة هناك للسياحة. ولا يُسمَح سوى لمئة زائر في اليوم لأي منطقة. وعلى هؤلاء الزوار أن يخضعوا لإجراءات التعقيم من الملوّثات، لضمان عدم إدخال كائن حي غريب في هذه البيئة الحسّاسة.

في الأيام التي تلت سباق الماراثون، زار أعضاء البعثة كثيراً من الجزر، ومناطق أخرى في القارّة الجنوبية، فشاهدوا جبال الجليد، والمياه المتجلِّدة. كذلك أتيحت لهم مشاهدة بعض الحياة البريّة الغنيّة، مثل طيور البطريق، وعجول البحر، وحتى الحوت أحياناً.

ويقول نصير: «يمكن للبطاريق الفتيّة أن تكون فضوليّة جداً، وكثيراً ما كانت تنقر أحذيتنا وستراتنا. المشاهد مدهشة، لكنها أيضاً غريبة، إذ يخيّم الصمت. وفي أحيان اللونان الوحيدان اللذان تراهما هما الأسود والأبيض. كانت رحلة من العمر. ونحن نشعر بالتواضع حيال التجربة التي خضناها، ونشعر بالامتنان الكبير للدعم الذي لقيناه».

* نُشر المقال في مجلة «دايمنشنز» التي تصدرها أرامكو السعودية بالإنجليزية في عدد صيف 2016م.

أضف تعليق

التعليقات