تُعَدُّ منطقة الباحة ومناطق جنوبية أخرى بمنزلة الحديقة الخلفية للمملكة بسبب كثرة الغابات فيها وتنوّعها البيئي وجريان مياه الينابيع والأنهار بين جبالها وفي أوديتها. فالمناظر الطبيعية فيها فريدة، بدءاً من المرتفعات الجبلية وصولاً إلى ما فيها من غابات عديدة منتشرة أينما كان فيها، ونباتاتها المتنوِّعة والحياة الفطرية الغنية فيها. كما تنبهر العين بمناظر الصخور التي نحتتها الرياح وشلالات الأمطار الموسمية.
واحدة من الغابات التي يقصدها المصطافون والسياح لجمالها واعتدال طقسها،
هي غابة رغدان التي تشتهر بعمرها الطويل واخضرارها الدائم واستخداماتها الطبية والمعيشية لأهل الجبال والقرى. وتدور حول هذه الغابة قصص كثيرة منذ القدم حتى اليوم، وبعضها يدخل في إطار الأساطير المحلية، وبعضها قصص حقيقية تحض على الاهتمام بهذه الغابة وعدم الإسراع بتقصير عمرها عبر تحويلها إلى متنزهات.
مما ترويه الأساطير عن بلقيس ملكة سبأ أنها بعد اقترانها بالملك سليمان، انتقلت من اليمن إلى الشام، فتبعها حشد من شعبها المتعلقين بها، ورفضوا أن يعودوا إلى ديارهم، خصوصاً أنهم افتتنوا بالماء والخضرة في الأراضي المباركة، فعقدت معهم اتفاقاً مغرياً لهم بالعودة، تمثّل في إهدائهم غابة خضراء بكل ما فيها من أشجار وأطيار وينابيع، فوافقوا. وطلبت من زوجها أن يكلّف نسراً عملاقاً بنقل غابة (رأس البسيط) من اللاذقية إلى اليمن، فحمل النسر الغابة بين مخالبه وانطلق بها، وأثناء مروره بجبال السروات ليلاً لمح في السماء نسرة جميلة كأنها كوكب دري مضيء، فلم يتمالك نفسه من الدهشة وفغر فاه وسألها: ما اسمك؟. فأجابت : رغدان. وهو على هذه الحال، وقعت الغابة من يده، فبدأ يصيح “رغدان… رغدان”، وعمّ صوته الأرجاء واستيقظ الناس منذ 3 آلاف عام على غابة أسطورية في منطقة الباحة.
تقع غابة رغدان على الطريق العام الممتد بين مدينتي الباحة والطائف، على ارتفاع أكثر من 1500 متر عن سطح البحر. وتُعد أهم مزار للسياحة في منطقة الباحة والهدف المباشر لكل الزوار والمصطافين القادمين إلى هذه المنطقة من مختلف أنحاء المملكة. وتشتهر هذه الغابة بأشجار العرعر التي تنمو فيها بكثافة، وهي من نوع الصنوبريات المعمّرة، وتغطي أكثر من 80 في المئة من مساحتها، وتضرب بجذورها لآلاف السنين. وتقدَّر مساحة الغابة بنحو 600 ألف متر مربع، وتُعد العنصر الأكثر جذباً لسكان مدينة الباحة وزوارها.
ارتباط السكان بالغابة
كانت غابة رغدان محمية خاصة لأهالي قرية رغدان. وكانت أشبه بالأوقاف. فقد تعارفت الأجيال على إبرام القرية مواثيق وبنوداً لحماية الغابة من العبث، منها تعزير من يتطاول عليها بكسر غصن أو إشعال نار أو احتطاب أو رعي.
يقول عبدالله حلان، وهو من سكان رغدان، إن عمه كان أحد حرَّاس الغابة حتى تسلّمتها أمانة الباحة منذ أعوام. موضحاً للقافلة أن الغابة كانت حمى يفتديها الأهالي بدمائهم، إذ إنها مصدر لحفظ الحياة الفطرية. ويمكن للجماعة عند الطوارئ السماح لمن احترق بيته باقتطاع عشرة أعواد من العرعر، ويتم تحديد الموقع له، كما يأذنون بالقطع منها لعمارة المساجد.
ويكمل حلان كاشفاً أنه قبل خمسين عاماً، كان المعتدي على الغابة يعزّر بأن تفرض عليه جماعة القرية غرامة مالية أو عينية. وكشف أن أهالي رغدان وقفوا بقوة وبسالة ضد فكرة شق طريق فيها، حتى للضرورة. وعندما عزم أمير الباحة سعود السديري على فتح طريق لقرى بيضان، استأذن من أهالي رغدان، ورسم شيخ قبيلة بني خثيم مشرف بن عدنان الطريق إلى جبــل الحجيّـر، ووافق مهندسو الطرق على رسمه البعيد كلياً عن وسط الغابة بل عبر مسار دائري حولها.
من الحكايات الشعبية عن غابة رغدان أن برقاً أو نيزكاً ضرب أحد جبالها (طمار)، فشقّه إلى نصفين وحوّله إلى نبع ماء لا يزال يدلف حتى اليوم ماءً عذباً ومصبّه في أصدار عقبة الباحة
وكان جزء من الغابة قبل ثلاثين عاماً أملاكاً زراعية. إلَّا أن البلديات عوَّضت الأهالي عن أملاكهم. وغدت غابة رغدان ملكاً للدولة. وكانت صورة الغابة في أذهان جيل الستينيات والسبعينيات مختلفة جداً عما يراها الجيل الحالي. إذ كان من العسير السير فيها ليلاً، وفي النهار لا يمكن أن تمشي بمفردك من شدة الخـوف، إذ إن أعداد أشجار العرعر والطلح كانت تزيد على عشرة آلاف شجرة متشابكة ومتكاثفة ببعضها بعضاً.
أساطير الغابة
من الحكايات الشعبية عن غابة رغدان أن برقاً أو نيزكاً ضرب أحد جبالها (طمــار)، فشقّه إلى نصفين وحوّلــه إلى نبع ماء لا يزال يدلــف حتى اليوم مــاءً عذباً ومصبّــه في أصدار عقبة الباحة.
ويروي الشاعر عبدالرحمن سابي أن أحد أعمامه كان ماراً بالغابة ليلاً، عائداً من رعي غنمه، فإذا بثلاث سيدات جميلات يلاحقنه بقدح فيه حليب، ويطلبن منه أن يشرب من القدح، إلا أنه هرب منهن خائفاً أو غير مستوعب ما يجري. وحين روى ما جرى له على مسامع أهل القرية عاتبوه على ما قام به، وبأنه كان عليه أن يشرب، لأنه لو شرب لأصبح شاعراً. فبحسب اعتقادهن، فإن تلك الجميلات هن من بنات الجن. وهذه القصة تدل على اعتقاد أهل البلدة بمثل هذه الأمور والأحداث، وربما هي دلالة عما كانت تعنيه لهم الغابة من مكان غامض، تجري فيه أمور غير طبيعية.
التحسينات تحيلها إلى متنزّه
اجتهدت أمانة الباحة في العمل على تنفيذ مشاريع تحسينية لغابة رغدان في كل عام، من بينها إعادة بناء المدرَّجات الزراعية بشكل دوري، وتوفير ألعاب للأطفال بشكل يناسب الفئات العمرية، وملاهٍ ترفيهية، وزراعة الأشجار بشكل مستمر لتعويض ما تآكل بحكم عوامل التعرية وكثرة الطرق. ونفذت عدداً من المطلّات على الجزء الجنوبي. وتمت تهيئتها للزوار لتكون مطلات تبــرز الجانب الإيجابي للمنطقة.
ومما يزيد من جمال هذه الغابة هو الارتفاع الشاهق لتلك المطلات على أعماق تهامة والمنطقة وأوديتها. وقد كست المدرَّجات بحجارة على هيئة أحواض للزهور، وجرى تزويدها بإنارة تجميلية، وبممر للمشاة داخل المتنزه بطول 800 متر، ونافورة وسط المتنزه، وأرصفة وممرات من البلاط الملون، ومُدّت مواسير مياه بطول 500 متر، وقامت بتأمين وتوريد الكراسي وأحواض الزهور والجلسات، إضافة إلى 40 خزان مياه، وتركيب ألعاب للأطفال وملاعب رياضية، وزراعة مسطحات خضراء ذات مساحة تبلغ 148 ألف متر مربع.
وتُعد الغابة مصدر رزق لكثير من شباب وفتيات الباحة، حيث تُعد مركز تجمع لكثير من الزوار، فيتم من خلالها بيع كثير من السلع التي تنتجها مدينة الباحة كالفواكه والخضراوات والمنسوجات والعسل والسمن. ويقام فيها كذلك كثير من المهرجانات، كمهرجان العسل والكادي والليمون، كما تُباع المشغولات النسائية. وتوجد فيها أركان للأسر المنتجة ومعرض للمنتجات الزراعية الموسمية كالحمضيات والعنب والموز.
اجتهدت أمانة الباحة في العمل على تنفيذ مشاريع تحسينية لغابة رغدان في كل عام، من بينها إعادة بناء المدرَّجات الزراعية بشكل دوري، وتوفير ألعاب للأطفال بشكل يناسب الفئات العمرية، وملاهٍ ترفيهية، وزراعة الأشجار بشكل مستمر لتعويض ما تآكل بحكم عوامل التعرية وكثرة الطرق، ونفذت عدداً من المطلات على الجزء الجنوبي
ولكن رغم كل الاهتمام الذي تبديه المؤسسات الرسمية بهذه الغابة، فإن عدداً من المتخصصين في علم الزراعة والغابات عبَّروا عن قلقهم من جور الإنسان على غابة رغدان التي تبلغ من العمر نحو3000سنة. لا سيما وأنها عُدّت من أفضل الغابات النامية طبيعياً في السعودية، بحسب دراسة أجريت في عام 1982م، بدعم من مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنيــة. وقال المتخصصون إن وضع الغابـة يسوء ويتدهوّر، وزادت من ذلك طـرق المركبـات التي تسبَّبت في بعثرة الممرات المائية للأمطــار وحرمت أشجاراً كثيرة من المياه.
ويؤكد أستاذ الزراعة والغابات في جامعة الملك سعود الدكتور إبراهيم عارف، أن المتابعين والمهتمين بمآل الغابة يصيبهم هاجس وقلق، ويسعون جاهدين إلى الحدّ من جور الإنسان على أجمل المقومات البيئية والسياحية في المنطقة، وذلك من خلال لجوئهم إلى تأسيس جمعية لتأهيل الغابات واستصلاح شجرة العرعر. مشيراً إلى أن الغابة عُدَّت في وقت سابق أفضل الغابات النامية طبيعياً، وحصلت على المرتبة الأولى في كثافة الأشجار وفي وحدة المساحة، وكذلك ارتفاع الأشجار التي كانت الأعلى بين كل أشجار غابات العرعر في المنطقة الجنوبية.
وأوضح أن بلدية الباحة أسهمت في تحويل الغابة إلى حديقة، ما أفقدها حيويتها وبيئاتها وطيورها. لافتاً إلى أن عملية دخول الكهرباء إلى الغابة أسهمت أيضاً في تدهورها، إذ إن الكهرباء تُعد من أكبر الأخطار على البيئة.
وحذَّر عارف من زوال غابات منطقة الباحة، بسبب تعديات البلديات وجرف تربتها وحرمانها من مياه الأمطار. كما يُعد ذلك مؤثراً في شكل سلبي على المجال السياحي والبيئي. كما أن موضوع التعدي على الغابات الطبيعية وتغيير معالمها، يعتبر من ضمن التعدي على الطبيعة، وهو أمر يخالف قانون البيئة في السعودية، خصوصاً وأن الغابات الموجودة في السعودية تُعد في المرتبة الثانية على مستوى الدول العربية، إذ تُعد غابات طبيعيـة بكــر، ونادرة، وتتميز بأشجار العرعر.
وعزا عارف موت الأشجار إلى الإنشاءات الحديثة في الغابة، والتلوث البيئي الحاصل حالياً فيها، لا سيما الناجم عن فترة الصيف، إذ تدخل إلى الغابة نحو 10 آلاف سيارة. وهذا ما يستدعي التدخل السريع والعاجل لمنع تحويل الغابات إلى متنزهات، وتنفيذ مشروع وطني لدراسة وضع الغابات وإعادة تأهيلها، والاستزراع، منّوهاً بضرورة تطبيق القانون بشكل صارم على من يعمل على قطع الأشجار، كما هو معمول في بعض الدول.
تصوير: أحمد سليمان ومحمد البيضاني
أشجار العرعر
تتألَّف غابة رغدان أساساً من أشجار العرعر المعمَّرة المميّزة بأغصانها المتشابكة، التي تشكِّل مساحات كبيرة من الظلال صيفاً، وتكوّن مسطحات أشبه بالمظلات التي تحمي الواقف تحتها من تساقط الأمطار شتاءً.
والعرعر من الأشجار الدائمة الخضرة التي تنمو في المناطق الباردة. وشجرة العرعر من الأشجار الجميلة ذات الرائحة الأخّاذة لأنها تحتوي على الزيوت العطرية.
والعرعر نوعان، النوع الأول يتميَّز بثماره الزرقاء التي تميل إلى اللون البنفسجي، والنوع الثاني يميل لون ثماره إلى اللون البني، وحجمها أصغر من النوع الأول، وكلاهما له الطعم الحلو مع المرارة. وأما أغصان العرعر فتفرز مادة صمغية ذات لون داكـن، وتحتـوي على كثير من المواد الكيميائيــة الطبيعية، بالإضافة إلى الزيوت الطيارة والمواد السكرية والشمعية والصمغية و80 مركباً مختلفاً، وكثير من المواد المضادة للبكتيريا.
ويستعمل العرعر على نطاق واسع، فيستخدم في المناطق التي ينمو فيها لتحضير القطران الأسود وتحضير زيت القطران الذي يسمى “صفوة”. ويستعمل القطران وزيته الصافي لأغراض كثيرة. فيستخدم في الجنوب لطلاء الأبواب والنوافذ وأزيار الماء الفخارية، وكذلك كمطهر وقاتل للبكتيريا، كما تُدهن به بعض سقوف المنازل الخشبية كمضاد لحشرات الأرضة وهو نوع من النمل الأبيض الآكل للخشب، أما زيت القطران والمعروف بالصفوة فيستخدم على نطاق واسع لقتل القردان والبراغيث في الأغنام وكذلك الجرب.
وتستخدم أوراق العرعر الطازجة شعبياً على هيئة منقوع لعلاج السل الرئوي في المناطق الذي ينمو فيه هذا النبات، كما تستخدم لبعض حالات الربو، بالإضافة إلى أن منقوع أوراق العرعر الجافة يخفِّف من اليرقان حسبما يقول البعض.